مجلس الاعمار ودوره الريادي في عملية التنمية في العراق

Sunday 22nd of September 2019 07:10:51 PM ,

ذاكرة عراقية ,

د. إبراهيم الحيدري
كانت فترة الخمسينات من القرن الماضي فترة حاسمة في تطور الطبقة الوسطى في العراق، حيث جرت محاولات جادة وحثيثة لرسم سياسة اقتصادية جديدة لتنمية عمرانية وصناعية سريعة تعتمد على المركزية في التخطيط والتنفيذ، خاصة مع ازدياد واردات النفط العراقية المصدر الى الخارج منذ عام 1952، حيث ارتفعت واردات النفط من ثلاثة ملايين دينار عام 1949 الى خمسين مليون دينار عام1953 وذلك بعد اتفاقية مناصفة الارباح مع الشركات الاجنبية العاملة في العراق عام 1952.

ومنذ ذلك التاريخ أصبح بالإمكان البدء بالقيام بمشاريع بناء واعمار وتفعيل عمل مجلس الاعمار الذي تأسس عام 1950وكان برآسة رئيس الوزراء وعضوية وزيري الاعمار والمالية وستة اعضاء اخرين يشكلون سكرتارية المجلس، اضافة الى لجان فنية مختصة ترتبط بوزير الاعمار.

وكان مجلس الاعمار مستقلا عن الوزارات، بالرغم من انه كان يأخذ منها توصيات التصميم والتنفيذ وهو الذي يشرف على ادائها. وقد صدر قانون تأسيس مجلس الاعمار من قبل المجلس النيابي في 25 نيسان 1950 وبمقترح من وزير المالية آنذاك عبد الكريم الازري الذي قدم لائحة المشروع.
لقد ساعدت الطفرة النفطية منذ عام 1952 والقرار الحصيف للحكومة العراقية بتخصيص 70% من عائدات النفط لمجلس الاعمار، على وضع خطة اقتصادية عامة عام 1950 لإعمار العراق وتحديثه ووضع حد للارتجالية وعدم الاستقرار في سياسة وخطط التنمية في العراق.
كما ركزت الدولة معظم استثماراتها لإنشاء البنى التحتية اذ وضعت برنامجا طموحا نسبيا لبناء بنية تحتية لتنمية اقتصادية شاملة وتطوير موارد البلاد ورفع مستوى المعيشة عن طريق قيام المجلس بمسح عام وشامل لموارد البلاد وتكليف الوزارات المختصة بإدارة المشارع وصيانتها والقيام ببناء مؤسسات صناعية وانشائية وشبكة من المؤسسات الانتاجية وتطوير التجارة وتنظيم الاستيراد وشق الطرق وتعبيدها وتشييد الجسور وبناء المراكز السياحية والخدمية والترفيهية وكذلك بناء جمعيات تعاونية لبناء المساكن وانفتاح المصرف العقاري عليها. وقد أنشأ مجلس الاعمار لذلك خمسة دوائر فنية وكانت له ميزانية منفصلة تكونت من عائدات النفط العراقية.
وقد بلغت حصة مجلس الاعمار من ايرادات النفط عام 1952 مايربو على 23 مليون دينارا عراقيا وارتفعت عام 1954 الى حوالي 39 مليونا ثم وصلت في عام 1955 الى اكثر من 42 مليون دينار (كان سعر الدينار العراقي يعادل آنذاك أكثر من ثلاثة دولارات امريكية).
وقد تركزت اهداف مجلس الاعمار بالدرجة الاولى على تحديد الاموال التي تصرف للتنمية وكذلك تحديد سياسة الدولة المالية والاقتصادية للنهوض بالواقع العمراني والاقتصادي والصناعي في العراق من اجل رفع مستوى المعيشة من خلال توفير فرص عمل جديدة التي توفرها المشاريع الجديدة وكذلك وضع منهاج لتنفيذ هذه المشاريع المتعددة ومقترحات لمشاريع جديدة.
وكان أمام مجلس الاعمار هدفان رئيسيان هما:
أولا-النهوض بالواقع العمراني وتنمية الاقتصاد والصناعة في العراق بهدف رفع مستوى المعيشة من خلال إيجاد فرص عمل ووظائف جديدة توفرها المشاريع الجديدة.
وثانيا-العمل الجاد لوضع منهج عمل للتخطيط واجراء المسوحات الشاملة للموارد المستغلة وغير المستغلة والبدء بتنفيذ المشاريع حسب أهميتها كالسيطرة على الفيضان وتحسين شبكات الري والبزل وتطوير الصناعات الاستخراجية والتحويلية وانشاء شبكات نقل ومواصلات حديثة، مع متابعة ما تم إنجازه.
وقد تمكن مجلس الاعمار من انجاز مشاريع تنموية وخدمية كبيرة لا يزال العراق يحتفظ بقسم كبير منها. وفـــي مقدمة المشاريع الكبرى التي خصص لها جزء كبيرا من ميزانيته والتي اولاها اهتماما كبيرا هي مشاريع الري لتلافي خطر الفيضانات وانقاذ مدينة بغداد من الغرق والدمار وما يلحق ذلك من خسائر مادية ومعنوية، في مقدمتها غرق جانب الرصافة الذي يحوي أهم مؤسسات الدولة وغرق اراضي زراعية واسعة وتدمير المحصولات والمباني والممتلكات. ويذكرنا تاريخ الفيضانات في بغداد الذي كان اخرها غرق بغداد عام 1954 بصورة مروعة وما تركه من كوارث ومآسي. وقد افرد مجلس الاعمار حصة كبيرة من ميزانيته لإنجاز مشاريع كبيرة في مقدمتها مشروع الثرثار وبحيرة الحبانية عام 1956 ومشروع سد دوكان عام 1959 وكذلك مشروع سد وخزان دربندخان الذي تم انجازه عام 1961. وبذلك تخلصت بغداد من خطر الفيضانات الذي كان يهددها كل عام، اضافة الى مشاريع عمرانية وسكنية وصناعية واقامة الجسور ونصب محطات لتوليد الطاقة الكهربائية وانشاء سكك الحديد ومصانع النسيج والسمنت والسكر والنفط ومزارع نموذجية ومبازل وغيرها. وقد توزعت تلك المشاريع على جميع محافظات العراق.
وفي منتصف الخمسينات كلفت الحكومة العراقية مؤسسة دوكسياكس الاميركية اعداد مخطط عصري وجديد لمدينة بغداد يحتوي على مشروع سكني للبناء والاعمار والتطوير وتدريب المهندسين، كان من بينها مشروع جامعة بغداد وبناء دار الاوبرا، الذين لم ينجزا. وقامت المؤسسة بوضع مخطط لتطويق مدينة بغداد بوحدات سكنية جاهزة، متعامدة ومنفصلة، تمتد على ضفتي نهر دجلة وتتألف من اربعين قطاعا وتبلغ مساحتها حوالي كيلومترين مربعين، تفصلها عن بعضها طرق مرور عريضة. وقد قسمت هذه المناطق بدورها الى وحدات “بلدية” بمراكز صغيرة وأحياء سكنية تابعة لها، ووضعت تحت منظومة من الطرق المقفلة. ويتألف كل مركز بلدي من سوق ومسجد ومرافق عامة.
وعند قيام ثورة 14 تموز عام 1958 كان هناك عدة مشاريع قيد الانشاء مثل مدينة الطب وبناية البرلمان ومستشفى الكرخ ومستشفى الكاظمية وبناية جامعة بغداد في الجادرية تم تنفيذها، إضافة الى عدة مشاريع أخرى خطط لتنفيذها ولكنها توقفت بعد الثورة مثل دار الاوبرا ومطار بغداد الجديد وفندق هلتون وملعب رياضي كبير وغيرها، مع مشاريع عدة أخرى توزعت على محافظات العراق الأخرى. كل ذلك يعكس بوضوح الدور الريادي لما قام به مجلس الاعمار في رسم وتنفيذ سياسات اقتصادية وصناعية وعمرانية رشيدة كانت تهيأ لدخول العراق عصر الحداثة والتقدم الاجتماعي.
عن/ الحوار المتمدن