لماذا نسينا جـبـرا إبـراهـيــم جـبـرا

Wednesday 4th of September 2019 07:35:06 PM ,

عراقيون ,

علي حسين

يحدثا جبرا عن علاقته بالعراق بشكل عام وبغداد بشك خاص في معظم كتبه ، وسيخصص كتابا بعنوان « شارع الأميرات» يروي فيه حكايته مع هذه المدينة الاثيرة على قلبه : « اخترت عام 1956 ان أشتري أرضاً لكي أبني فيها بيتا على قدر حاجتي العائلية. لكني وجدت في ما بعد ان بيوتا متباعدة اخذت تنهض على جانبيه بسرعة وأشجار النخيل المتساوقة في خطين طويلين قد نمت واكتملت على حافتي الرصيف العريضتين.

لقد رسم المعمار قحطان عوني أول تخطيط لداري.. ثم قدم لي الصديق رفعت الجادرجي تخطيطاً آخر لكني آثرت في النهاية ان استفيد من التخطيطين ليكون منزلا لي ولزوجتي لميعة ولطفليّ الصغيرين على قدر طاقتي المادية» .علاقة خاصة وحميمية ربطت بين جبرا وبين الشارع الذي بني به البيت:» قامت علاقة حب عميق بيني وبين شارع الأميرات في حي المنصور مازلت أتمتع بنبضها وإيحاءاتها.كان من السهل ان أتعرف بهذا الشارع المتميز بين شوارع بغداد كلها، فقد كان الشارع الموازي عن قرب للشارع الذي اخترت عام 1956 ان أشتري فيه أرضا ضمن مشروع سكني وبأقساط ما انتهيت من دفعها إلا بعد واحد وعشرين عاما لكي أبني فيها بيتا على قدر حاجتي العائلية يومئذ، وكان الاستاذ علي مال الله رئيس شركة أراضي المنصور صديقا حميما وهو الذي نصحني بابتياع تلك الأرض ولم تكن يوما إلا رسماً صغيراً على خارطة كبيرة اذ كانت في الأصل جزءاً من بستان فسيح تحول إلى منطقة سكنية عصرية محكمة التخطيط.لأسباب مادية صرفة لم استطع اكمال بناء دارنا إلا بعد مرور ست سنوات، ورغم انني كنت اول من اشترى أرضاً في هذا الشارع ايام كان مرصوفا رصفا بدائيا وتنتشر فيه الصرائف وتسرح فيه الأبقار والأغنام، فإنني وجدت ان بيوتا متباعدة أخذت تنهض على جانبيه بسرعة، وما ان تحولنا الى دارنا أخيراً في أيلول 1965، إلا وكان للشارع شخصيته المتميزة ولاسيما إنني يومئذ آثرت ان اجعل رصيف الدار مزروعة بالثيل واشجار الصنوبر، وإذا بالجيران يقتلعون الاسمنت ويزرعون الأرصفة بالثيل والاوراد، وكانت تلك بداية النهج الذي اتبعه بعد ذلك كل من بنى في حي المنصور في جعل الرصيف جزءا متصلا بالحديقة الأمامية.» . ان ذاكرة المكان عند جبرا منذ صباه « وهو يحكي عن القدس وبيت لحم» ثم دراسته في انجلترا تشكل نواة اهتماماته المعمارية ..وعلاقاته بالمكان ابتداء من بيت لميعة العسكري ..حتى منزله الذي صممه قحطان عوني .. وغرفته في شارع الرشيد وبيت اغاثا كريستي على دجله وغرفتها الطينية عند آثار نمرود ومقاهي بغداد: البرازيلية والسويسري والبرلمان ومكتبات مكنزي وكورونيت حتى تشكيلات شارع الأميرات وأرصفته وحدائقه ومنعطفاته .» أخذت لميعة تدعونا بين الحين والحين الى منزلها لتناول الشاي .... والمنزل جديد لم يمر على بنائه عام واحد وأعجبت بتصميمه الحديث على غير ما اعتاده البغداديون حتى تلك الآونة في بيوتهم التقليدية، فقد وضع تصميمه المهندس حازم نامق الذي تخرج من جامعة ويلز وهو من أصحاب مدرسة معمارية صغيرة في العراق عرفت بتخطيط مبان للدولة تتميز بالجرأة في الرؤية والتصميم» .. ومنذ تلك اللحظة سيعتني جبرا برفقة رهط من المعماريين والفنانين التشكيليين ليشكلوا نواة فكر وحداثة وجدل جديد في العراق . لقد كان صديقا لبلند الحيدري ويلتقي حسين مردان في تمرداته ويرافق حافظ الدروبي في مرسمه ويشكل مع جواد سليم جماعة بغداد للفن الحديث بحيث تتاح لجواد افكار ولغة مختلفة في عرض خطاب الحداثة ..وهو البيان الذي ألقاه جواد في افتتاح المعرض، وكان كما اشار الفنان شاكر حسن آل سعيد من وضع جبرا ذاته كما يتسع له الوقت لرفقة عدنان رؤوف وحلمي سمارة وخالد الرحال ودزدموند ستيوارت( الذي سيصبح في ما بعد اديبا لامعا وباحثا بريطانيا بشأن حضارات وادي الرافدين) ونجيب المانع ويوسف عبد المسيح ثروت وعبد الملك نوري وزهدي جار الله ونزار سليم وغيرهم كثيرون، وهم يمثلون نخبة من شباب بغداد الخمسينات الذين يأسرهم هاجس التجديد وتوجهات الحداثة وتيارات الوجودية والفكر.***كثيرا ما يفاجأ جبرا بسؤال زوار بيته وهم ينظرون إلى المكتبة التي انتشرت على الحيطان لتأخذ حيزا كبيرا من البيت: هل قرأت كل هذه الكتب؟، وستكون إجابته التي تعود ان يقولها وهو يبتسم , لقد اطلعت عليها كلها .. لم يكن الكتاب بالنسبة لجبرا سوى ضرب من العشق وهو يحفظ مقولة فرنسيس بيكون الشهيرة» بعض الكتب وجد لكيما يذاق، وبعضها لكيما يبتلع، والبعض القليل لكيما يمضغ ويهضم» .
ذات يوم ساتجرأ واطلب من الاستاذ جبرا ابراهيم جبرا ان يسمح لي باجراء حوار معه .. والغريب انه وافق .. وهنا بدأت المشكلة .
ما هي الموضوعات التي سأتحدث بها ، فانا امام روائي وناقد ومترجم وشاعر ومسرحي وتشكيلي ، قلت مع نفسي لأبدأ بسؤال تقليدي ربما استطيع من خلاله ان أمسك بناصية الحوار فسألت ببساطة .
• لماذا تكتب؟
- اجاب مبتسما منذ سنتين لم اكتب انشغلت بالترجمة
• على ذكر الترجمة.. لماذا اخترت الصخب والعنف بالذات لتقدمها للقارئ العربي ؟
كان هذا السؤال أشبه بالمشكلة التي يلقيها الواحد منا ثم ينتظر كيف تحل . ساد الصمت لحظات ..بعدها تكلم جبرا وكان علي ان ألاحقه ، فهو حين يتكلم .. يتدفق ، فتراه مثل ممثلي المسرح يندمج في الحديث ، يتقمص ، يتكلم ويتوقف ، يلون صوته ، وينسق الكلام مع حركة يديه ، انه يستأثر بك فتنسى موضوع الحوار ، وتكتفي بمتعة النظر اليه وسماعه وهو يتحدث .. الذين يعرفونه جيداً يقولون انها خطته العكسية في جعل الحوار يتحول الى مبارزة فكرية .. انه لايمنحك حديثاً ، وانما يقدم محاضرة في شتى أنواع المعارف . وكانت هذه هي المشكلة التي حاولت علاجها وانا أكتب ما يقوله .
لحظات ثم تغير الموضوع !
انني أفكر في العودة الى سؤال جبرا ابراهيم جبرا عن الكتابه فقلت :
• عندما تشرع في كتابة رواية ..هل تخطط لها مقدما ، محدِدا أبعاد شخصياتها ، أم انك من نوع تشارلز ديكنز مثلاً الذي كان يترك نفسه يتشبث يما يكتبه حتى وان كان عفويا؟
يبتسم جبرا ثم يجيب : من هو الروائي؟ ، يقول هيغل إن مضمون العمل الفني هو الفنان نفسه ، انه يعطي الكلمة لعالمه الداخلي من أجل ان يوقظ على هذا النحو لدى قرائه المشاعر والحالات النفسية التي يشعر بها ، وحتى لو تناول العمل الادبي (ثيمات) موضوعية خارجية على حياته ، فان الكاتب الكبير سيبتعد عنها بسرعة كبيرة وسينتهي بأن يرسم صورة لنفسه
وسأسأل ثانية : أي الروائيين أقرب الى نفسك
يضحك جبرا حينها لحظات قصيرة ثم يقول : عندما فكرت في كتابة « السفينة « كنت انذاك اترجم الصخب والعنف لفوكنر ، كانت الرواية العربية في تلك الفترة منشغلة بالبحث عن أساليب جديدة خصوصا ان الواقعية كانت تلفظ انفاسها ، وكان لابد لي ان أهتم بهذا الجانب فوجدت في الصخب والعنف منقذاً لي من حيرتي انها رواية الاصوات المتعددة التي تمتلئ بالافكار المتداخلة والمتحررة من كل عبودية وخضوع لأي منطق وتجريبية أيضا من خلال علاقتها بالزمن .
أقول لجبرا ابراهيم جبرا : لو تفحصنا تاريخ الادب والفن ، لوجدنا نوعين من الاعمال والمؤلفين ، ففي بعضها مثلا تكون حياة الكاتب اهم من اعماله ، ان حياة جان جاك روسو واعترافاته يمكن ان تكون مثالا لذلك، حيث ان حياته نفسها اصبحت أهم وأبقى من اعماله ، فيما نجد أعمالا اخرى يختفي فيها المؤلف بينما تبقى أعماله ..فوكنر مثلا نحن لانعرف كيف كان يعيش ، لقد اختفى الفنان داخل عمله ..من هنا أريد ان اسألك أنت مغرم بفوكنر لكننا كقراء نجد شخصية جبرا في معظم اعماله.
لحظات صمت ثم يرد جبرا في الواقع انا كنت حريصا في الدرجة الاولى على الاستفادة من تقنيات فوكنر الفنية في كتابة الرواية ، اما طريقته في الحياة فأنا أبعد ما اكون عنها ، فوكنر انعزالي ، وانا احب التجمعات سواء كانت اجتماعية او ثقافية . انا اجد نفسي جزءا من حراك ثقافي وفني متواصل منذ الاربعينيات ، وفوكنر كان يرى ان مهمته الاساسية البحث عن اسلوب جديد للأدب .
قلت : هل معرفة الحياة الشخصية للكاتب او الفنان تساعد على فهم اعمال - انا شخصيا عندما اقرأ للاخرين فإنني احاول ان اركز دائما على العمل الفني ذاته ، ولم يحدث في قراءاتي جميعها ان قرأت حياة كاتب قبل ان اقرأ اعماله .
كان فوكنر ينظر بغرابة لكل من يسأله عن حياته الشخصية وذات يوم قال ل(شرودر):- «وانا أسير في شوارع مسيسبي اشعر كان الجميع يراقبني ، ويريد ان يفهم كيف يمكن لرجل يجلس في الظل ويكسب 30 الف دولار مرة واحدة - كان هذا المبلغ هو قيمة جائزة نوبل انذاك - لمجرد انه كتب بعض كلمات على ورق ، في مسيسبي الرجال يفهمون انه لكي يحصلون على دولار عليهم ان يخرجوا اولا في الشمس ويعرقون وهذا ما يحيرهم في امري «.
ترتدي بغداد في نظر جبرا ابراهيم جبرا ثوب المعرفة والسعادة ، بل انها صورة البحث عن التغيير :» عندما جئت الى بغداد لم لكن اعرف ما الذي ساراه . كنت سمعت عن شهرة شعرائها ، الجواهري كانت شهرته عامة ، اما بلند والسياب فكانوا في اوائل عهدهم ، جئت الى بغداد وانا مليء بالتحفز ، لانني احستت ان التغيير يجب ان يشمل كل شيء ، وشعرت ايضا ان التغيير يجب ان يبدأ بالكلمة وبالصورة ، ولهذا كنت التقي بالشباب ومنهم بلند الحيدري واخرون ، ثم جواد سليم ثم فائق حسن ، ثم نازك « ، هذه الصورة بما ينطوي عليها اليوم من نسيان وفقدان للذاكرة الثقافية ، يستدعي منا استعادة جبرا والبياتي والسياب وجواد سليم وعلي الوردي وغائب طعمة فرمان وعلي الوردي وفائق حسن وجميل بشير لنشيد جسرا للتفاهم بين الماضي والحاضر .