إحسان عبد القدوس في كربلاء

Tuesday 6th of August 2019 09:14:41 PM ,

منارات ,

ابراهيم الخياط
إحسان عبد القدوس (١٩١٩ - ١٩٩٠)، كاتب وروائي مصري، هو ابن روز اليوسف صاحبة مجلتي "روز اليوسف" و"صباح الخير" الشهيرتين.
نشأ وهو يتنقل بين ندوة جدّه وأحاديثه مع أصحابه من علماء الأزهر وبين ندوة أمه السيدة المتحررة وأحاديثها مع كبار الشعراء والأدباء والسياسيين ونجوم الفن.

تخرج إحسان في كلية الحقوق عام 1942 لكنه أخفق أن يكون محامياً، فتولى رئاسة تحرير "روز اليوسف" وهو في الـ ٢٦ من عمره، ثم تولى رئاسة تحرير جريدة "أخبار اليوم"، وكانت له مقالات سياسية أودت به الى السجن مثل إثارته قضية الأسلحة الفاسدة.
كتب أكثر من ستمائة رواية وقصة فتحولت ٤٩ منها إلى أفلام، وبعضها إلى مسرحيات ومسلسلات إذاعية وتلفزيونية، وأثارت نتاجاته لغطا فروايته "شيء في صدري" رافقتها ضجة مدوية عام ١٩٥٨، فيما اعترض جمال عبد الناصر على روايته "البنات والصيف" لأنه كشف فيها عن شيوع الجنس في فترة إجازات الصيف فتدخلت الرقابة وقامت بتعديل نهاية الفلم بانتحار البطلة مريم فخر الدين عقابا لها لأنها خانت زوجها، كما أنهت الرقابة أيضا فلم "لا أنام" بحرق بطلة الفلم فاتن حمامة، واعترض الرقيب أيضاً على اسم فلم "يا عزيزي كلنا لصوص"، فيما رفض فلم "حتى لا يطير الدخان" برمته.
كان لإحسان دور بارز في صناعة السينما وذلك ليس بقصصه ورواياته فحسب بل بكتابة السيناريو والحوار لها، فمثلاً شارك سعدالدين وهبة ويوسف فرنسيس في كتابة سيناريو فلم (أبي فوق الشجرة) عن قصة له، وعدّ الفلم الذي أخرجه حسين كمال نقلة نوعية في السينما الاستعراضية وقتذاك.
وبعيداً عن كمّ أفلامه فإنّ بعضها نجح نجاحاً باهراً مثل فلم (في بيتنا رجل) الذي أخرجه بركات عام 1961، وهو واحد من أفضل مائة فلم في تاريخ السينما المصرية، ويتحدث عن مناضل اسمه ابراهيم حمدي (عمر الشريف) يستشهد رفيقه في تظاهرة برصاص البوليس الملكي فيقرر الانتقام باغتيال رئيس الوزراء الموالي للإنجليز ويُلقى القبض عليه ويتعرض للتعذيب فيدخلونه أحد المستشفيات وهناك يستغل وقت الافطار في شهر رمضان ليهرب ويختار منزل زميله الجامعي محي زاهر (حسن يوسف) للاختباء فيعيش في منزلهم ويقضي وقته مع الأب زاهر (حسين رياض) ويخطط للسفر خارج مصر، لكنه يتراجع بعدما يعلم بإلقاء القبض على محي وابن عمه عبد الحميد (رشدي أباظة) فيقرر تدمير معسكر للإنجليز بالعباسية ويُقتل في العملية فيما يخرج محي وعبد الحميد من السجن ويقرران الانضمام للجماعة الثورية إياها مع زملاء الشهيد ابراهيم حمدي.
تمرّ السنون، ويظهر ابراهيم حمدي نهاية السبعينيات في العراق مع الغيمة الفاشية السوداء التي غطت سماءنا الصافية، يظهر وتضيع من رجليه الطرق كلها فينتبذ كربلاء، يسكن فندقاً بسيطاً بين الحرمين ثم بالصدفة يلتقي بأحبة يحتضنونه، وهنا يأخذ الفتى رحيم رباط دور حسن يوسف ويشغّل ابراهيم حمدي صباغاً للسيارات في محل أخيه أحمد رباط في الكراج الصناعي بحيّ النقيب مقابل مبنى اتحاد نقابات العمال، وحين يذهب أحمد ورحيم كلّ ظهيرة الى البيت يأخذانه معه ويأكلون معاً الزاد اللا أطيب منه البتة في البيت العامر بحيّ رمضان، وكثيراً ما كان ابراهيم حمدي يسرح ويتيه وينشده مع كلمة "سلام" ويتصوّر نفسه يخاطب الشهيد سلام عادل عندما يصدح جهاز المسجل وقت الغداء بصوت عبد المحسن المهنا: يا مُنيتي يا سلا خاطري وانه أحبك يا سلام.
ولسنين ثلاث عجاف جافات هائلات يقيم ابراهيم حمدي في كربلاء، يقيم ولكن بأعجوبة، فمرة تتغوّل قصة الضابط الشرس الشقي (رفعت التكريتي) الذي قتل أزهر الطيّار على سياج داره بالعباسية الغربية فأشاع في المدينة المقدسة رعباً رهيبا، ومرة تندلع الحرب العراقية الإيرانية فتخيّم بسوادها وظلامها وطائراتها وانذاراتها على الأنفاس المقطوعة أصلاً، ومرة يجدول الانضباط العسكري جولاته وكبساته على "الفرارية" الكثر في الكراج، ومرات كان ابراهيم حمدي يدوس المخاوف ليقضي العصاري في محل السيد خضير المرعشي لتصليح الثلاجات والمكيّفات بشارع الإمام علي مقابل القنصلية الإيرانية حيث قفشات السيد بشير والشغيلة الباكستانيين، أو ليقضي الليالي في المقهى البعيد الهادئ مع الصحبة الجدد: رحيم رباط، سيد بشير خضير، رعد عز الدين، رعد العلوچي، محمد الوهاب (من أسرة عزي الوهاب)، زهير علي الفتال، مهدي الحسيني، يوسف محمد رشيد الصراف (الذي يعدم فيما بعد في "نكرة السلمان" بتهمة التبعية الإيرانية)، وكان في الليالي الشائكة تلك "يطش" بذور التعاليم ووصايا الرفاق وهدهدات مظفر وترانيم مارسيل على بساط الصداقات الجديدة.
ظلّ ابراهيم حمدي مطارداً من الحكومة طوال أعوام 1979 ـ 1980 ـ 1981 فاضطرت أن تهيء قوة عظيمة من أمنها ومخابراتها وجندرمتها لإعتقاله وهو الفتى الذي لم يبلغ العشرين من عمره لكن الحكومة خاب مسعاها وسقط جبروتها فلم تقدر عليه لأنه كان في حومة حصن حصين اسمه الفنان رحيم رباط.