رحلة الموت الى السماوة .. سائق اشهر قطار عراقي ينقذ ارواح السجناء

Wednesday 31st of July 2019 07:52:18 PM ,

عراقيون ,

عبد الكريم العبيدي
هكذا فجأة، تحولت خمس عشرة عربة من قطار حمولة قديم يستخدم لنقل الاغنام والماشية والاخشاب والحديد، الى قطار موت ورعب، قاده المرحوم عبد عباس المفرجي (اقدم سائق قطار عراقي) من المحطة العالمية في بغداد الى السماوة، في رحلة غرائبية،

اختصر زمنها من عشر ساعات الى ستة (قرون) حمر مشحونة بكل اصناف الآلام والرعب والضياع، ومليئة بالمفاجآت والمعجزات الكبار التي حالت دون وقوع ابشع جريمة سياسية واخلاقية في تاريخ العراق الحديث والقديم في آن واحد!!

رحلة (اعتيادية جداً)
قبل (41) عاماً، في ساعة متأخرة من ليلة 3 على 4 من تموز عام 1963، استيقظ (عبد عباس المفرجي) على وقع ضربات صاخبة على باب بيته الواقع في حي العباسية - بغداد/ كرادة مريم.
فتح الباب على عجل، وقلّص عينيه ليتعرف على ضيوفه الطارئين، في تلك الليلة التي سيتذكرها طويلاً، حتى بعد موته!
كان قلقاً على مصير اخيه (المعتقل) وسط احداث رهيبة عصفت بالعراق في صبيحة ذلك اليوم الذي شهد اندلاع حركة (حسن سريع) في معسكر الرشيد .. وكان كل ما يعرفه، شأنه شأن العراقيين جميعاً هو ان انقلاباً جديداً قد وقع، وان الموقف ما زال مضبباً .. ولكنه فوجئ بمفرزة من حراس المحطة العالمية تبلغه عن رحلة مفاجئة تتطلب حضوره على الفور، لقيادة قطار حمولة، يحمل (مواد حديدية خاصة) الى السماوة .. فرك عينيه كثيراً وهو يتبين البلاغ الطارئ ويتفحص وجوههم، ورأى ان تلبية نداء الواجب اصوب من نومة قلقة لساعات اعتاد على ضياعها المتكرر.. ولذلك جهّز نفسه على الفور، وذهب بمعية المفرزة الى المحطة، ليتسلم تعليمات رحلة (اعتيادية) الى السماوة تستغرق اكثر من عشر ساعات (ستصبح رحلة وحشية اجرامية بعد ساعتين فقط!!)..

قلق
في العادة، كان عبد عباس المفرجي يذهب، حال وصوله الى المحطة في رحلات كتلك، الى مأوى القاطرات لجلب القطار وحده (بدون عربات)، ويتجه به الى محطة غربي بغداد لغرض ربطه بالعربات التي عادة ما تكون جاثمة هناك، ولكنه لاحظ، للمرة الاولى ان العربات كانت منقولة ومربوطة بالقطار، وان ابوابها مضروبة (سير وربد)، وعندما تسلّم (اللاين كلير) انتبه الى ان حراس القطار لم يزودوا بمفاتيح اقفال العربات، وان المحطة تبدو خالية من العمال المدنيين، كما لاحظ، وهذا ما جعله يعزف عن فرك عينيه المتكرر ويدرك ان المرحلة غرائبية جداً وليست اعتيادية كما جاء في اوراقها، ان الحضور هم من المسؤولين العسكريين وحرسهم، اضافة الى بعض المسؤولين الحزبيين، وعدد من رجال الحرس القومي (اشهر الحضور في تلك الليلة كان عبد السلام عارف وطاهر يحيى ورشيد مصلح التكريتي ومصطفى الفكيكي) حدّق سائق القطار ايضاً في وجوده الحرس، ولاحظ حركتهم الخجلة وازياءهم المدنية المنتحلة وكأنهم في حفلة تنكرية، بسبب عدم اتقانهم لإرتدائها، وادرك بفطرته ان من ارسلهم بهذه الازياء يهدف الى الامعان في التمويه، لكي يظهروا بمظهر عمال وفلاحين من ابناء منطقة الفرات الاوسط، وان مهمتهم الحقيقية هي منع واحباط اية محاولة قد تأتي من الخارج لكسر الاقفال، طالما ان فتح الابواب من الداخل هو المستحيل بعينه.
فكر عبد عباس المفرجي مرة اخرى بتعليمات الرحلة، واسباب التأكيد على ضرورة السير (ببطء تام) للحفاظ على (المواد الحديدية الخاصة) وثارت شكوكه مرة اخرى حول نوع المواد التي يحملها القطار وسبب تعينه بالذات لقيادة هذه المرحلة الغامضة.. فهو رجل مسالم، ليس سياسياً ولكنه امهر السائقين وخبير بالقطارات ورحلاتهاّ!!.

العراقي المجهول
الاسوأ من كل ذلك ان القطار قطع حتى هذه اللحظة اكثر من (140) كيلومتراً (!) وهو يسير ببطء شديد، تنفيذاً للتوجيهات القاضية بضرورة الالتزام بسرعة القطار البطيئة جداً.. ولكن القلق الذي انهك عبد عباس لم يستمر طويلاً، والقطار الذي تهادى كثيراً ملتزماً بالتعليمات سيتحول الى (صاروخ)، اما الشكوك التي احاطت السائق فستصبح كمثل الصاعقة، وتقع على رأسه بعد جملة بدت وكأنها معجزة من السماء!
يقول سائق القطار (اثناء توقفي قبل منتصف الطريق في احدى المحطات، صعد شخص مجهول في الثلاثين من عمره وقال لي: (خالي، تعرف ان حمولتك ليست حديداً، بل بشر، هم من افضل ابناء شعبنا)!!؟؟
ارتعد (المفرجي) منذهلاً من هول الصدمة، ومن حقيقة لا يمكن تصديقها.. فكيف يمكن لأي انسان ان يتحمل حرارة شمس تموز التي تصل الى اكثر من (50) درجة مئوي وهي في الظل، والى اضعافها في داخل عربات حديدية محكمة الاغلاق وغير مبطنة، ومعرضة لأشعة الشمس اللاهثة منذ عدة ساعات متواصلة ؟!، بل كيف سيكون عليه الحال داخل تلك الافران المستعرة بعد ان يقطع القطار اكثر من (288) كيلومتراً حتى وصوله الى السماوة وهو يسير بمثل هذه السرعة البطيئة، التي ستتطلب ساعات اضافية كثيرة على معدل العشر ساعات المقررة لرحلة اعتيادية؟!
لم يصدق عبد عباس هذه الجملة الصاعقة، ولكن المشاهد العديدة، المثيرة للظنون عادت فتلبسته مرة اخرى، بوجوه اكثر وضوحاً مما كانت عليه ولكن اكثر حيرة ايضاً!، ما دعاه الى تبليغ مساعدة (الفايرمان) بالذهاب فوراً الى العربات ومحاولة التأكد من صحة ادعاء ذلك (العراقي المجهول) لماذا يبقى مجهولاً حتى هذه اللحظة؟!

وبعد لحظات بعمر الاعوام، عاد (الفايرمان) مصعوقاً وهو يصرخ بأعلى صوته (حجي، طلع الحجي صدك)!! أي ان المعلومة كانت صحيحة تماماً!!
ركاب قطار الموت
ما لم يكن يعرفه السائق انه في حوالي الساعة العاشرة من نهار الثالث من تموز، أي بعد ساعتين تقريباً على تغير الموقف لصالح السلطة، انعقد بمقر وزارة الدفاع، في ظل اجواء مشحونة بروح الانتقام، اجتماع خاص لما يسمى بـ(المجلس بالوطني لقيادة الثورة) لدراسة احداث (حركة الرشيد العسكرية) واتخاذ القرارات اللازمة بشأنها، وكان عبد السلام عارف اول المتحدثين بضرورة الانتقام العشوائي، يقف وراءه كل من احمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وعبد الغني الراوي وعدد من العسكرين الآخرين.

وفي الاجتماع الثاني الذي عقد مقر وزارة الدفاع ايضاً، كان الاقتراح الاول هو اعدام جميع الضباط والمدنيين المعتقلين في السجن العسكري رقم واحد، ويقدر عددهم بأكثر من الف معتقل!
وفي ساعة متأخرة من تلك الليلة اتفق الجميع على تشكيل (محكمة عسكرية) لمحاكمة المشاركين والمتهمين بحركة حسن سريع العسكرية، والغاء فكرة الاعدام العشوائي وتقليصها الى مجزرة دموية (محددة) تشمل اعدام عدد من الضباط والمدنيين من السجن رقم واحد.. ولكن العدد تصاعد فيما بعد ووصل الى (520) معتقلاً من داخل السجن وخارجه المذكور، بعد ان شمل معتقلين من ذوي التعليم العالي يمثلون كل خريطة المجتمع العراقي القومية والدينية والسياسية، تم انتقاؤهم من قبل المجلس نفسه، وشكلوا ما عرف بـ (ركاب قطار الموت) حين تقرر اعدامهم خارج بغداد، بعد نقلهم الى سجن (نقرة السلمان) قرب الحدود العراقية السعودية.

شتائم وتشجيع!
وفي تلك الليلة التموزية الساخنة، سمع المعتقلون في سجن رقم واحد - وفي غيره من السجون طبعاً- حركة واصواتاً غريبة تتصاعد .. ثم فتحت ابواب الزنزانات الواحدة تلو الاخرى، وتليت قوائم بأسماء عدد كبير من المعتقلين.. بعدها قام حرس السجن بجمع المعتقلين على الرصيف، وتم ربط ايديهم بالحبال خلف ظهورهم وراح الضباط (الاشاوس) يكيلون الشتائم والاهانات، بينما كان ضباط الصف يهمسون في آذانهم بعبارات التشجيع اثناء عملية الربط، التي تعمدوا ان تكون خفيفة!
ثم دفعوا بعدها الى عربات نقل عسكرية، اتجهت بهم الى الطرف الآخر من بغداد، وعندها ادركوا ان حركة السير تبدو طبيعية، وان الحياة مازالت هادئة، على عكس تصوراتهم حول ارتباك النظام واضطراب الحياة، وهذا ما زاد في احباطهم!..

وبمجرد ان لاحظوا ان العربات الناقلة تتجه بهم صوب المحطة العالمية، اعتقد اغلبهم انهم ذاهبون الى ساحة الرمي في ام الطبول!

الاعدام خنقاَ!!
وصلت عربات، النقل العسكرية الى محطة القطار قبيل منتصف الليل، وهناك قضى المعتقلون وقتاً طويلاً وقوفاً امام المحطة، ثم فوجئوا بالحراس يقتادونهم نحو قطار حمولة لنقل البضائع، يتألف من عربات تشبه الاسطبل، او (طولة) حيوانات، محكمة الاغلاق، عارية الا من القار الساخن جداً..
شحنت (البضاعة السياسية) المؤلفة من خيرة شباب العراق بعد ان فُكّت قيودهم واربطتهم من (كلبجات) وسلاسل من حديد، وظلت حبال القنب التي ربطت حول ايديهم من قبل ضباط الصف فتحرروا منها بسهولة، ولكنهم شعروا بالرعب وضعفت معنوياتهم فور اغلاق الابواب الثقيلة وحلول الظلام عليهم بدلاً من خيوط الصباح الذي بدأ يتنفس!
وبعد ترتيب كل شيء، بما في ذلك احضار (الركاب المزيفين) الحرس، واكمال الاجراءات الفنية، تحرك قطار الموت ببطء، لتبدأ اشهر رحلة اجرامية في التاريخ العراقي، حكم على ركابها الافذاذ بالاعدام (خنقاً) و (شيّاً) قبل ان تنتهي في السماوة، وقبل ان ينقل ضحاياها بالباصات الى نقرة السلمان على بعد (400) كيلومتر!! التفاصيل

ومن ركاب هذا القطار :
- الضابط محمود جعفر الجلبي / عضو محكمة الشعب معتقل في سجن رقم (1) و سجن بعقوبة و نقرة السلمان .
- الضابط لطفي طاهر/ شقيق المرافق الضابط الشهيد وصفي طاهر .
- الضابط ساجد نوري / حماية الزعيم الشهيد عبدالكريم قاسم .
- الضابط نوري الونة .
- الضابط حسن عبود .
- الضابط غضبان السعد .
- الضابط غازي شاكر الجبوري .
- الضابط ابراهيم الجبوري .
- الضابط عبدالسلام بلطة .
- الضابط الطبيب رافد صبحي اديب .
- الضابط الطيارعبدالنبي جميل .
- الضابط الطيار حسين علي جعفر .
- الضابط طارق عباس حلمي .
- الضابط عزيز الحاج محمود .

اما من المدنيين الراكبين فكان /
مكرم الطالباني , عزيز الشيخ محمود , عبدالوهاب الرحبي , كريم الحكيم , الدكتور احمد البامرني , علي حسين رشيد , جميل منير العاني , شاكر القيسي , حامد الخطيب , فاضل الطائي , عبد الصمد نعمان , علي ابراهيم .

هذه الرحلة التي عاشها هؤلاء المناضلين الذين لم ينظر اليهم فرد من الحكومة ليكرمهم تكريماً اجتماعياً و لم يذكرهم احد من صحافيينا او كتابنا او محطاتنا الفضائية و عرضهم الى الشعب العراقي و العربي ليتعرف عليهم وينظر على ما عانوا .