الستالينية والتروتسكية في الميزان في رواية: الرجل الذي كان يحبّ الكلاب

Tuesday 23rd of July 2019 07:18:01 PM ,

منارات ,

د. بسّام البزّاز
وأنا أترجم رواية الكوبي ليوناردو بادورا "الرجل الذي كان يحبّ الكلاب" التي صدرت مؤخرا عن دار المدى، والتي تروي، بين تاريخ وخيال، قصّة اغتيال الزعيم السوفييتي ليون تروتسكي في المكسيك عام 1940، كانت تتوزعني مشاعر كثيرة متناقضة.

هل كان ذلك البلشفي المطرود والمطارد ثمّ القتيل يستحقّ ما شعرتُ نحوه من تعاطف؟
ربّما كان انحيازي العاطفي والإنساني موجها نحو عائلته أكثر من انحيازي إليه.
فهو قد أتى من الأوزار ما يوازي العقاب الذي ناله.

صحيح انّه حمل، وهو بعدُ شاب، روحه على راحته ثائرا مؤمنا بمبادئ سامية حالما بغد ومستقبل خال من الظلم والاستغلال والقمع
لكنّ التجربة والمحك والسلطة والتناحر عليها ما لبثت أن قادته إلى عسلها المر وثمرتها المحرمة.
هو، في عزلته التي رسمها له بادورا، يحاسب نفسه. وأحسبُ أنّه حاسب نفسه على ما بدر منه يوم كان في القمة آمرا ناهيا بالسلطة التي يمسك بها وبالجيش الجرار الذي أسسه وبالجهاز السرّي إلى كان هو مؤسسه.
كنتُ سمعتُ باسم تروتسكي، أوّل ما سمعتُ، في منتصف أعوام الستينات من القرن الماضي، وأنا بعدُ طالب في المرحلة المتوسطة. كان أبي اعتاد، منذ نهاية الأربعينات، أن يضمّ إلى مكتبته أعدادا من مجلة الهلال المصرية المعروفة. أذكر أنّني رأيتُ، وأنا أقلّب واحدا من تلك الأعداد، رسما تصويريا باللون البرتقالي يظهر فيه رجل مرعوب ينظر، بيدين مرفوعتين، إلى فأس تهوي على رأسه. لا أذكر مضمون الموضوع، لكنّي أذكر التعليق على الرسم. منذ ذلك الوقت عرفتُ أنّ زعيما من زعماء الثورة البلشفيّة العظمى، يدعى تروتسكي، اغتيل في المكسيك بدفع وتدبير من زعيم آخر من زعماء تلك الثورة العظمى.
في أيلول الماضي كلّفتني "المدى" بترجمة رواية "الرجل الذي كان يحب الكلاب" للروائي الكوبي ليوناردو بادورا التي تروي في جوهرها قصة اغتيال القائد البلشفي على يد الإسباني رامون ميركادير، بأمر وتخطيط من ستالين: ربّان الثورة العظيم و "حفّار قبرها".
فالقصّة في جوهرها هي ما ذكرت: كيف تمكّن ستالين من عدوه اللدود تروتسكي بعد أن جرده من سلطاته ونفاه، أولا خارج الحدود، ثمّ طارده وضايقه ودفع به شيئا فشيئا عن مركز رسم السياسات في أوربا والعالم وصولا به إلى أقصى بقاع الأرض ليقتله هناك بيد شاب إسباني غُسل دماغه وبُرمج على مدى ثلاث سنوات؟
ذلك هو الجوهر وتلك هي الفحوى.
لكنّ الرواية تقع في ما يقرب من 600 صفحة.
فكيف لرواية تسرد حادثة، أو حتّى سيرة حياة، أن تمتد كلّ هذا الامتداد؟
الرواية هي في الواقع روايتان أو ثلاث، فضلا عن أجزاء وشظايا من سير وحيوات:
- قصّة القتيل: لييف دافيدوفيتش تروتسكي
- قصّة القاتل: رامون ميركادير دل ريو
- قصّة الراوي المزعوم: إيبان كارديناس ماتوريل
- نتف من قصص أبناء وبنات وأمهات وأزواج وخبراء ومخابرات وعملاء وساسة وكلاب! نعم أصناف وأجناس من الكلاب، لأنّ جميع من في الرواية أغرموا بالكلاب:
- القتيل وحفيده الصغير
- القاتل وأخوه الصغير أيضا
- الراوي (هذا كان نصف بيطري وشغوفا وعارفا بالكلاب)
مع ذلك فالمقصود بالرجل الذي كان يحب الكلاب هو القاتل: رامون ميركادير، وإن أوحت صورة تروتسكي مع كلابه، التي تظهر على غلاف الرواية، بنسختها الإسبانية، والتي ظهرت في ترجمة المدى، بأنّه هو المقصود بالعنوان.
فالرواية، إذن، ثلاث روايات. أو بالأحرى ثلاثة خطوط، ثلاث حيوات بشريّة، متوازية متداخلة، لكن بتواريخ مختلفة: تبدأ الأولى منفردة من عام 1929، حين نفي لييف دافيدوفيتش من بلده. وتبدأ الثانية من عام 1938، حين عُرضت على رامون ميركادير فكرة القيام بعمل يدخله التاريخ. أمّا الثالثة، وهي التي تحكي القصّة كاملة، فتبدأ من عام 1977، حين التقى القاتل بالراوي في أحد شواطئ كوبا صدفة ليستودعه سرّه وقصّته.
والرواية هذه هي مزيج من القصّة Story والتاريخHistory . خيال وحقائق. أسماء حقيقية لشخصيات تاريخيّة لاعبة، لها تاريخ ولادة وتاريخ وفاة. لها أفعال ولها أقوال. لكنّ فيها من الخيال ومن المعالجة الدرامية ما يسدّ نقص المعلومة ويعوّض غياب المشهد والوثيقة، كما صرّح بذلك المؤلف.
والرواية، بعد ذلك، عرض، لا لحياة شخص أو أشخاص، بل لطرف مهمّ من التاريخ الحديث: تاريخ الاتحاد السوفييتي وتاريخ أوربا وتاريخ كوبا. ومع التاريخ السياسة. ومع السياسة الحروب. ومع الحروب المعاهدات والاتفاقات والتوافقات والصفقات والخيانات والطعن في الظهر والغزو من دون سابق إنذار وقضم البلدان وخيانة الشعوب بعد اللعب عليها وإيهامها بمعسول الكلام وحلو الوعود.
صحيح أنّ الحدث يتصل باغتيال سياسي. لكنّ وراء الاغتيال سياسة واستراتيجيّة وهوسا وتنظيفا وتمهيدا للتربة باغتيالات وإعدامات وتصفيات داخل البيت وعلى عتبته، وبعيدا بعيدا عنه.
صحيح أنّ الحدث يتصل بفرد، لكنّ الوصول إلى ذلك الفرد كان يستدعي الوصول إلى العشرات والمئات والآلاف سواه. لأنّ الهدف أسمى من الأرواح. ولأنّ الغاية أبعد من العدل. إنّها السلطة. سلطة الفرد: القائد-الضرورة. الزعيم الأوحد. الربان العظيم. المارد الجبّار. القاهر المغوار.
الرواية، بعد كلّ ما قلنا، ترسم صورة واضحة عن كواليس السياسة ودهاليزها، بعيدا عن كلّ شعور ومنطق. إنّها سياسة الروبوتات الذكيّة- الغبيّة. سياسة الكعكة التي تقطع بغض النظر عن الزينة والفواكه التي عليها. العقول التي تضع الهدف والغاية ثمّ تعصب عيونها عن السبيل وما يكلّفه من تضحيات وأرواح. ومن دون اعتبارات معنوية أو أخلاقيّة: إنّها سياسة النفوذ والقوة وليّ الأذرع وكسر العظام والأنوف والرؤوس. سياسية الأنانيّة والتفرد وصناعة المجد الشخصي الذي يدخل صاحبه من أوسع أبواب التاريخ، ليلقي به، من بعدُ، إلى مزابله.
استمتعتُ بالترجمة أيّما استمتاع، على الرغم من طول القصّة وتشعباتها.
واستمتعتُ برفقة شخوصها، على ما في الكثيرين منهم، أو معظمهم، من شرّ واستهتار (يبدو أنّ الشرّ هو ما يصنع الرواية والقصّة والحدث. فما من قصّة تبنى على خير تام. ولا على نصف خير. ولا على ربع خير. لا بدّ للشر أن يشغل 90% من أيّة قصّة). وتعاطفتُ مع المنفيّ، مع نتاليا زوجته على نحو خاص، وهي تجاهد من أجل أسرتها: بين زوج مطارد مهدد تشاركه حتّى لحظات الموت المحدق به، وأبناء موزعين مهددين في أمنهم لا تدري متى يأتيها "خبر" أحدهما أو كليهما. خفتُ مع خوفهم. وقلقت مع قلقهم. وسخطتُ على مطارديهم وطالبي دمائهم. وبكيتُ مع بكائهم.
مع ذلك ما زلتُ أظنّ أنّ للسياق التاريخي قولا آخر وحكما لا صلة له بالعاطفة أو بالقصص، وهذا ما تقع مسؤولية بيانه على المؤرخين الذين يحسبون الحالة وفق معطيات لا أتوفر عليها وموضوعية أعترف أنّني لا أمتلكها.
صحيح أنّ الحدث التاريخي صار بعيدا عنّا زمانيا، لكنّه ما زال، بلا شك، يمثل قطعة مهمة من القطع المعروضة في "فيترينات" متحف التاريخ المعاصر الحديث.