عبد الأمير الأعسم.... الأستاذ و المفكر

Wednesday 17th of July 2019 08:22:55 PM ,

عراقيون ,

د. فائزة تومان الشمري
ولد الدكتور عبدالأمير الأعسم في النجف سنة 1940، و نشأ وتعلم في بغداد (1941 - 1958)؛ فمارس التعليم (في المدة ما بين 1959 – 1968) وحصل على بكالوريوس في علوم اللغة العربية و آدابها / بغداد (1968). فقدم لجامعة كمبردج، فأنتسب إلى كلية فتز وليام في الأول من تشرين أول 1968، وامتدت دراسته في جامعة كمبردج حتى ظفر بالدكتوراه في 5 آب 1972.

رجع إلى العراق، فـَـعُـيّـن مدرساً في قسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة بغداد في 22 أيلول 1972، بعدها رُقّـي إلى مرتبة أستاذ مساعد في 1976؛ ثم الى أستاذ سنة 1982؛ فكانت سيرته الأكاديمية الأولى في جامعة بغداد التي منحته إجازة تفرغ علمي للسنة الأكاديمية 1977 – 1978 ليكون استاذا متفرغا في جامعتي كمبردج و أكسفورد، كما كان
أستاذاً زائراً في جامعة باريس الرابعة – السوربون (ربيع 1978).
في الأول من أيلول 1989 عين عميداً لكلية العلوم الإسلامية في جامعة الكوفة، التي بقي فيها سنتين، ثم عين عميداً لكلية الآداب في الجامعة نفسها في الأول من أيلول 1991، فاستمر فيها حتى 14 كانون أول 1994، عندما نقل إلى جامعة بغداد ليشغل منصب أستاذ تاريخ الفلسفة ومناهج البحث في كلية التربية / ابن رشد، و بقي فيها عامين حتى انتخب عميداً لقسم الدراسات الفلسفية في بيت الحكمة في 15 كانون أول 1996، فترأس قسم الدراسات الفلسفية على مدى سبع سنوات؛ لكنه ترك عمله بعد 21 آذار 2003، حاصلاً على إجازة طويلة (بدون راتب) خارج العراق، كأستاذ زائر (2003 – 2004) ثم أستاذ كرسي للفلسفة و المنظق في جامعة عدن (2004 –2006).
قام عبدالأمير الأعسم في بيت الحكمة (1996 – 2003) بنشر و تحرير العديد من الكتب الفلسفية، وقدّم لبعضها الآخر، لكن قوة سيرته العلمية في بيت الحكمة كانت تنصب على إصداره مجلة دراسات فلسفية (صدرت على مدى 4 سنوات 1999 – 2002) بأربع مجلدات (=16 عدداً)، فكانت أوسع مجلة فلسفية تصدر في العراق.
كما انه دعا و رأس المؤتمرات الفلسفية العربية في بيت الحكمة (الأول 2000، والثاني 2001، والثالث 2002، والرابع 2003)، كما عقد العديد من الندوات ما بين 1997 – 2002 ، وكذلك أسس الاتحاد الفلسفي العربي في بغداد في آذار 2001، فأنتخب رئيساً للاتحاد لمدة ثلاثة سنوات 2001 – 2004؛ وكذلك أسس جمعية العراق الفلسفية 1991 (فانتخب رئيسا لأربع دورات)1992 ، 1995، 1998، 2001 وتركها سنة 2003. كما انتخب نائبا لرئيس الجمعية الفلسفية العربية في عمان 1998، ونائبا لرئيس المجلس الأعلى للجمعيات العلمية في العراق لدورتين 1997 و 2000.
نشر أكثر من عشرين كتاباً (مؤلفاً و محققاً) ما بين 1974 – 2003، كما راجع محرراً و مقدماً لخمس كتب مترجمة إلى العربية، و عشرة كتب أخرى نشرت بالعربية أصلا. كذلك نشر أكثر من مئة بحث (في المجلات و الدوريات العربية و الأجنبية)، و ثلاثين مقالة (في الموسوعات )1995 – 2005. كذلك أشرف خلال سيرته الأكاديمية (1972-2003) في العراق على العديد من رسائل الماجستير و أطاريح الدكتوراه، علاوة على مناقشات رسائل و أطاريح كثيرة، كما اختير محكماً لدرجات الدكتوراه وما بعد الدكتوراه في جامعات بغداد والكوفة (1979 – 2002). وقد انتشر طلابه في الدراسات العليا في العراق والأردن وسوريا و لبنان و الجزائر وتونس والسودان واليمن. لهذا السبب و غيره ، وجد الأعسم تقديراً عالياً من زملائه في العالم العربي، علاوة على أنه نشر كتبه المطبوعة (1973 - 2019) في بغداد، بيروت، باريس، تونس، الجزائر ،عمان ، دمشق والقاهرة. لذلك، نجده معروفا مشهوراً بين المشتغلين بتاريخ الفلسفة من العرب.
فكر عبدالأميرالأعسم ُيظهره بجلاء في كتبه واحداً من المفكرين العرب المعاصرين الذين يدعون الى إعادة كتابة تاريخ الفلسفة العربية، وإعادة قراءة النصوص الفلسفية العربية، واعادة تقويم الفلاسفة العرب ، انطلاقا من حاجات العصر. وهذه المهمة تهدف، تبعاً له، إلى تأسيس فلسفة عربية معاصرة والتي يجب، برأيه، أن تكون بعيدة عن افتراضات المستشرقين (والمستعربين) . ومن هنا قدم ابحاثا في الاستشراق الفلسفي و كيفية اعتماده كمرجعية لتأصيل الدرس الفلسفي لتسوية الاختلاف و الائتلاف بين الموروث و الوافد من جهة، و ترصين العلاقة بين العقل العربي و العقل الأوروبي من جهة اخرى. كما انه نشر أبحاثا في ابن رشد بحسبانه نموذجا حيويا للفلسفة العربية، و تتمثل فيه من ناحية المنهج خصائص و مقومات بناء الفلسفة العربية المعاصرة.
بالإضافة إلى هذه المقولات المنهجية، يصّرح الأعسم بالتأويل العقلي، و يرفض فكرة النصوص المفسّرة ،لأن ذلك يجعل من معاني الأشياء غير قادرة على خلق معرفة حقيقية تبعا لعملية التجريب الموضوعي استنادا الى الشرعية الواجبة للعقل . لذلك، هنا، يبدو أنه متأ ثرا بالفيلسوف الألماني كانْط. فقد بدت أثار كانْط على الأعسم عندما بدأ بتكوين منحاه النقدي للفكر الفلسفي العربي المعاصر. و من ذلك انه يؤكد في محاضراته على تأثير البرهان، بدلا من أثر الجدل العقلي، على الفكر الفلسفي. و يفلسف الأول كشكل للحقيقة كما هي كائنة في الزمن الراهن؛ بينما الحالة الثانية كشكل للحقيقة كما يجب أن تكون. وفي الحالتين، الأعسم كتب إسهاماته في الفارابي ومنطقه، وابن رشد ومنطقه، فهناك اكتشف بان المنطق العربي لم يكن نسخة من المنطق الارسطوطاليسي، بل وجد اختلافاً في التناظر بين المنطق العربي والمنطق اليوناني، في المفاهيم والمصطلحات ونظرية التعريف.
وتمّيزت محاضرات الأعسم الجامعية بالعلاقة الشاملة للمعرفة في تاريخ الفلسفة (يونانية، وسيطة: إسلامية ومسيحية ، وحديثة)؛ فعلاوة على محاضراته في تاريخ الفلسفة اليونانية، القى محاضرات مكرسة في أرسطوطاليس و بخاصة منطقه ومكانته في تاريخ الفلسفة العربية ، ومن ذلك بحثه المهم في « أرسطوطاليس في بيت الحكمة العباسي» الذي أثبت فيه أن مؤلفات أرسطوطاليس كلها ترجمت في بغداد و في بيت الحكمة العباسي. اضافة الى ذلك، القى محاضرات في تاريخ الفلسفة العربية ، و اهتم بالقرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي من خلال دراسته لأبي حيان التوحيدي باعتباره مؤرخا لفلاسفة عصره . كذلك حاضر في علم الكلام الاسلامي ، و بخاصة الاعتزال و الأشعرية و الماتريدية و خلص الى أن مواطن الاختلاف بين هذه المذاهب الكلامية انما صدرت من الاجتهاد في التفسير و ليس اجتهادا في التأويل ، و عليه رأى أن الفلاسفة العرب ابتعدوا عن التفسير الكلامي و لجأوا الى التأويل الفلسفي متبعين فلاسفة اليونان، حتى و ان أظهروا تمسكا بعقيدة ما ، فهم في الحقيقة يخالفون صلب العقيدة و لكنهم لم يكونوا يعلنون عن ذلك صراحة ، بل كانوا يعلنون ولاءهم للفلسفة على حساب العقيدة بعد تطويعها للأفكار الفلسفية بشكل غير صريح.أما تاريخ الفلسفة الأوروبية (وسيطة و حديثة و معاصرة) فانه تناولها في محاضراته على نحو مقارن بانجازات الفلسفة العربية، و وجد أن الفلاسفة الأوروبيين كانوا في العصر الوسيط و عصر النهضة أكثر أمانة للتراث الفلسفي العربي من فلاسفة العصر الحديث الذين غابت عنهم مسألة الانبهار بالفلاسفة العرب ، وأيضا ،غاب عنهم الالتزام بارجاع أصول الأفكار الى أصحابها من الفلاسفة العرب على نحو يثير الدهشة للمطلع على الترجمات اللاتينية ( وحتى العبرية ) للفلسفة العربية التي كانت بين أيدي الفلاسفة الأوربيين في العصر الحديث.
أما أبحاثه، المنشورة حديثاً، فتبيّن أن آراءه في تطور الفكر الفلسفي العربي الحديث مقبولة، و لكنها مثيرة للجدل. فمن جهة أن بعض أحكامه النقدية للمناهج الفكرية العربية الحديثة أثرت كثيراً في تلاميذه في الدراسات العليا فأنجزوا تبعا له رسائل و أطاريح توضح هذا التأثير. و في الجهة الأخرى ، أشاع في أبحاثه المتأخرة مناخا خاصا من العناية بالكيفية التي يجب أن تقود المشتغلين بالفلسفة الى فلسفة عربية معاصرة ، و بخاصة أن الأعسم اكتشف أن الفلاسفة العرب المعاصرين لم يقرأوا بعضهم على نحو دقيق ، لأسباب كثيرة أبرزها عزلة الفلسفة في العالم العربي ، و أن أغلب المشتغلين بها انما يصدرون عن ذاتية متعالية حتى صار بعضهم يعتقد جازما بأن التفلسف لا يخرج الا منهم دون سواهم ، وأن اجتهادات الآخرين لغو لا قيمة له تبعا لقراءات مواقف الفلاسفة الأوربيين المعاصرين. ومن هنا ، لم يجد الأعسم نفسه قارئا للفلاسفة العرب المعاصرين فحسب ، بل انه تصدى لمجمل التيارات التي استحكمت في بطء نمو الفلسفة العربية المعاصرة.
وللأعسم آراء متناثرة في التاريخ و الوعي بالتاريخ ، و الحداثة و ما بعد الحداثة، وفي اتجاهات الفلسفة العربية المعاصرة ، و في المشروع النهضوي العربي المعاصر، ومكانة الفلاسفة العرب في سياق التيارات الفلسفية المعاصرة ، و حاجة العربية الى تحديث المصطلح الفلسفي ، و غيرها من الآراء التي تناولها بالدرس و التحليل في افتتاحياته لأعداد مجلة دراسات فلسفية التي نشر فيها أبحاثه في ابن رشد و حاجة الفكر الفلسفي العربي الى تحديث الرشدية العربية بعد اعادة قراءة ابن رشد اللاتيني و العبري . و من آرائه في الفلاسفة العرب : ان جابر بن حيان سبق الكندي في الدرس الفلسفي . و أن الكندي لم يعرف الترجمات اليونانية الكاملة بل عرف مضامين النصوص عن طريق المترجمين السريان . و ان الفارابي هو أهم الفلاسفة العرب على الاطلاق لأن تاريخ الفلسفة العربية الى عهودها المتأخرة مطبوعة بطابعه، وأن انتحال الفلسفة اليونانية المتأخرة تعدى الى الفارابي الذي نحل عليه « كتاب الجمع بين رأيي الحكبمبن أفلاطون و أرسطوطاليس» ، و هو كتاب خطيركما يراه الأعسم ،لأنه من الأعمال المنتحلة عند الأفلاطونيين المحدثين مثل فرفوريوس الصوري الذي انتقلت ترجمته المجهولة الى العربية دون تمحيص و تدقيق، فنحل بعد ذلك على الفارابي الذي كان قد ألف كتاب « فلسفة أفلاطون» و كتابه الآخر « فلسفة أرسطوطاليس» . وتأسيسا على هذا، فان أية مقارنة بين دقة الفارابي في هذين الكتابين الأخيرين يوضح أغلاط مؤرخي الفارابي من القدماء و دارسيه من المحدثين في نسبة كتاب الجمع اليه !! ومن آراء المفكر الأعسم المثيرة للجدل أن ابن سينا بدأ فارابيا ثم خالفه في التأويل فانتهى سينويا مشرقيا تفريقا عن فلسفة الفارابي المغربية (= فلسفة مدرسة بغداد ) ، وهنا يظهر الغزالي الذي يراه الأعسم سينويا في صلب فلسفته مع أنه انتقد و ناقض ابن سينا فارابيا و لكنه تابعه في فلسفته المشرقية. و الأعسم يحدد موقف ابن رشد من الفارابية و السينوية فيراه فارابيا خالصا في المنهج ، و أنه رد على ابن سينا حيثما خالف الفارابي ، و نقض أقوال الغزالي حيثما وجده يخالف السياق الأرسطوطاليسي العام. لذلك، يرى الأعسم أن ابن رشد لم يكن أمينا على أرسطوطاليس فحسب، بل انه التزم بمنهج التفسير الفارابي و تأويله!
إن علاقات الأعسم مع الفلاسفة العرب المعاصرين واسعة في الأنشطة، وضخمة في تكوين اتجاه جديد لآرائه في مستقبل الفلسفة في العالم العربي. وبناء عليه، ُقـّيم كواحد من المفكرين العرب الموصوفين بالفكر التنويري الحر. ومن أصدقائه: حسن حنفي وزينب الخضيري ومصطفى النشار ومصطفى لبيب (مصر)، محمد المصباحي ، وطه عبد الرحمن (المغرب)، فتحي التريكي، و عبد القادر بشتة ، و عبد الرحمن التليلي (تونس)، أحمد ماضي، و هشام غصيب (الأردن)، ماجد فخري ،و ناصيف نصار، وعلي زيعور(لبنان) وأدونيس و أحمد برقاوي ويوسف سلامة (سورية). وعلى المستوى الغربي عرف الأساتذة : آربري ، و اروين روزنثال ، و أم. سي. لاينز (من كمبردج)، ورتشالد فالزر ، و ماك-آرثي، و فريدريك زمرمان (من اوكسفورد)، و جوزف فان أس (من توبنكن)، و روجيه أرنالديز، و دي بوركي، و شارل بيللا (من السوربون/باريس)، ومحسن مهدي (من هارفارد) ، و جوزب بويج مونتادا (من مدريد). وكانت لديه حظوة عند المفكر عبد الرحمن بدوي، وعلى سامي النشار ، وأميرة حلمي مطر .
لقد كان يخطط (رحمه الله) لنشر كتب عن سيرته الفلسفية ، وفلسفته الخاصة، و سيرته السياسية (1958 – 2003) التي توضّح الموقف الأيديولوجي الذي اعتقده لزمان طويل و كيف اكتشف مؤخراً بأن الفكر الفلسفي العربي قد زيّف وانتحل خلال منحنيات الفكر السياسي المعاصر في العالم العربي.
وأخيرا، فإنه استطاع أن يؤسس الاتحاد الفلسفي العربي ويرأسه في دورته الأولى 2001-2004، وقد انتخب في المؤتمر الفلسفي العربي الخامس في 16 كانون أول 2004 في طرابلس (لبنان) من قبل الجمعية العمومية للاتحاد ، الرئيس الفخري للاتحاد الفلسفي العربي مدى الحياة.