البحث عن إيلينا فيرانتي

Tuesday 16th of July 2019 07:37:27 PM ,

منارات ,

علي حسين
لا يصعب على الإيطالية إيلينا فيرانتي المولودة في نابولي عام 1943 ، استعارة حياة الآخرين والتظاهر بانها لم تكتبها فـ :" الكتب ، بمجرد كتابتها، لا تحتاج إلى مؤلفيها" هكذا تكتب في ردها على أسئلة القراء المتلهفين لمعرفة من هي هذه السيدة التي شغلت الايطاليين منذ ربع قرن؟ .

قبل ان تجرب كتابة الرواية، كانت تملأ دفاترها المدرسية بيومياتها: " وانا فتاة صغيرة. كنت مراهقة خجولة.و كل ما كنت أجيد قوله هو كلمة نعم، ومعظم الأحيان كنت أبقى صامتة.اما في مذكراتي، فقد كان الامر مختلفا ، كنت اترك لنفسي العنان وأسرد بالتفصيل ما يحدث لي يوميا، حتى الأشياء الخاصة جدا والغاية في السرية وكل ما كان يخطر ببالي من أفكار جريئة كنت ادونه على الورق" . ولانها خجولة كانت تخاف ان تقع هذه الاوراق في ايدي الاخرين :" كنت خائفة جدا مما كنت افعله : فقد كنت أخشى أن تكتشف تلك المذكرات وتقرأ " .

في العشرين من عمرها قررت التوقف عن كتابة المذكرات ، وتحولت رغبة الكتابة عندها إلى : " كتابة قصة من بنات خيالي " ، ورغم انها لم تجد الوقت الكافي للكتابة كل يوم ، الا ان اصرارها على الكتابة جعلها تنهي اول رواياتها ، تبدأ رحلة البحث عن ناشر ، وستعثر عليه بعد اكثر من خمسة وعشرين حيث قرر احد اصحاب دور النشر ان يجازف وينشر روائية لكاتبة مجهولة ، رفضت ان تضع اسمها الحقيقي على غلاف الكتاب واختارت اسم " إيلينا فيرانتي " .
عام 1992 تصدر الرواية بعنوان " حبّ مزعج " ، لم تكن تتوقع لها النجاح ، فأصيبت بما يشبه الذعر عندما اخبرها الناشر ان الطبعة الاولى نفذت خلال اسبوع ، كانت وهي تكتب الرواية تحاول ان تختفي وراء اسم مستعار ، لان الاحداث التي ترويها يتعلق جانب منها بسيرتها الذاتية ، وحكاية امها التي وجدت ميتة ، وكان الشرط الثاني انها لن تعطي احاديث صحفية عن الرواية ولن تساهم بالترويج لها :" الكُتب لا تحتاج لاحاديث ، انها بحاجة الى قراء فقط " ما أن ينتهي من كتابتها .
بعدها تتوقف عن الكتابة عشر سنوات ، لتعود عام 2002 مع رواية "أيام الهجران" – ترجمها الى العربية الجزائري عمارة لخوص - وفيها يتداخل اليومي بالحدث العام الذي يجري في ايطاليا لترصد لنا فيراتي تقلبات النفس البشرية وامراضها الاجتماعية ، ورغم نجاح الرواية الا ان الكاتبة ظلت متمسكة بان تختفي وراء اسم مجهول ، فهي لاتزال خائفة :" من الخروج من قوقعتي " ، وحين راسلها احد الصحفيين ليعرف سر الأختفاء وراء اسم مستعار ، قالت له ألم تقرا ما كتبه يوما رولان بارت عن موت المؤلف ، فالكتب ما ان تؤلف حتّى تكون في غير حاجة إلى مؤلّفيها.
في العام 2003 تصدر روايتها الثالثة " الابنة الغامضة " - صدرت بالعربية بترجمة شيرين حيدر – حيث يجد القارئ نفسه أمام استاذة جامعية في منتصف الأربعينيات من عمرها تلتقي بالصدفة بشابة وطفلتها. حيث يتحول هذا اللقاء كشف لعلاقات إنسانية متعددة أوّلها علاقة الأمومة التي تربط الصبية بطفلتها، والتي تربط السيدة الأربعينية بابنتيها. ونجد الروائية تناقش بجراة ما طرأ على المؤسسة العائلية من تغيرات ، وجد النقاد في شخصية الاستاذة الجامعية ظلال من رواية غوستاف فلوبير الشهيرة " مدام بوفاري " ، وحين يرسل لها احد الصحفيين عبر بريدها الالكتروني سؤال عن روايات فلوبير تجيب فيرانتي :" اكتشفت فلوبير عندما كنت صغيرة جداً في نابولي. فوقعت في حبه من اللحظة الاولى ، وعندما قرات مدام بوفاري للمرة الاولى ، قمت بسحب الرواية وشخصية إيما إلى العالم الذي اعيش فيه ، ولكن قبل "مدام بوفاري" بفترة طويلة ، كنت أحب ( نساء صغيرات ) التي ابدعت فيها الاميركية لويزا ماي ألكوت ، هذه الرواية هي وراء حبي للكتابة."
العام 2011 يصبح حاسماً في حياة فيرانتي حيث تصدر روايتها " صديقتي المذهلة " ، والتي ستصبح فيما بعد الجزء الاول من رباعية نابولي الشهيرة حيث باعت اكثر من عشرة ملايين نسخة – ترجمها الى العربية معاوية عبد المجيد - .كانت في البداية تريد ان تروي جانبا من حياة مدينتها نابولي من خلال تتبع حادثة اختفاء لينا او ليلا كما تسميها صديقتها المقربة إيلينا ، ففي صباح احد ايام عام 2010 تتلقى إيلينا اتصالاً هاتفيا من ابن صديقتها ليلا يخبرها ان والدته البالغة من العمر 60 عاما اختفت منذ اسبوعين ، ولا احد يعرف اين ذهبت ، وتدرك إيلينا ان اختفاء صديقتها عمل لم يات من فراغ ، وان هناك اسباب لايعرفها سوى ليلا المختفية . في تلك الليلة تبدأ إيلينا في وضع كل ما يمكن أن تتذكره حول ليلا على الورق ، ابتداء من عام 1950 في نابولي عندما بدأت صداقتهما في اللحظة التي قررتا فيها صعود السلالم المؤدية الى شقة الدون آخيل . بعدها تكبر الرواية لنجد انفسنا في حي فقير من احياء مدينة نابولي نتتبع حكاية الطفلة العبقرية ليلا من خلال صديقتها إيلينا التي تنجح في ان تصبح روائية ..لنتعرف على سيرة مدينة خلال فترة زمنية تجاوزت النصف قرن ، ونشعر ونحن نتابع بلهفة مصائر الأبطال خلال الاجزاء التتالية من الرواية ( الاسم الآخر – الهاربون والباقون – حكاية الطفلة الضائعة ) كأن الاحداث في المدينة أبدية لاتنتهي ، حيث تقع ليلا وألينا في الحب والزواج والخيانة والبحث عن دور في العالم ، والتمييز ، والولادة ، وتربية الأطفال ، وأحيانًا تكون الحياة سعيدة ، وأحيانًا غير سعيدة ، وتتعرضان لتجربة الخسارة والموت..ووسط حي عمالي بائس تاخذنا فيرانتي في رحلة مشوقة ، يمتزج فيها الحب والطموح بظلال ما بعد الفاشية، ومعارك اليمين الإيطالي ضد اليسار واغتيال ألدو مورو والألوية الحمراء في السبعينات من القرن الماضي، لكن الشيء المدهش هو وصف حياة النسوة داخل هذا الحي ، مشاعر الغيرة والعلاقات الجنسية والصداقة التي تختلط احيانا بالغيرة ، والشجاعة المتعلقة بالامل ، حتى تبدو لنا فيرانتي مهمومة بالعالم النسوي اساسا حيث تبدو الرباعية وكانها دفاع عن عالم المراة في مواجهة عالم ذكوري عنيف وعبثي وخلال مقابلة اجريت مع فيرانتي قبل اشهر من خلال بريدها الالكتروني قالت :" أن النساء - أمهات أو عازبات - يعانين الأمرين في الموازنة بين إدارة متطلبات الحياة اليومية وبناء مساحات الإبداع الذاتي، وهن غالبًا ما ينتهين إلى التضحية بطموحاتهن من أجل مشاعرهن نحو الشركاء والأبناء" .
على مدى اربع سنوات تواصل فيرانتي اصدار الأجزاء الاخرى من الرباعية لتختمها بالجزء الاخير " حكاية الطفلة الضائعة " ، وعند سؤالها عن جزء خامس قالت :" كان من الصعب أن أستيقظ ذات يوم أفكر ، لقد انتهت قصة ليلا وأيلينا".صحيح انني انتهيت من ذلك. لكن الامر مثل الولادة فقد ة تملكني شعور فظيع بالفراغ وكانني وسط طريق طويل ، لكنني أعرف قصصًا أخرى وأتمنى أن أتمكن من كتابتها" .
لكن هل انتهت حكاية فيرانتي ؟ بالتاكيد لا ، فقبل اكثر من عام ونصف قرر صحفي يدعى إيطالي كلوديو غاتي أن يبحث عن سر الكاتبة صاحبة الاسم المستعار ، والتي ترجمت كتبها لاكثر من اربعين لغة وباعت ملايين النسخ ، وزعم غاتي الذي قام بإجراء تحقيق في شخصية فيرانتي الحقيقية انه توصل إلى نتيجة تتعلق بالشخصية الحقيقية للكاتبة مؤكدا أن فيرانتي هي في الواقع مترجمة مقيمة في روما اسمها آنيتا راجا.تعمل في نفس الدار التي تنشر كتب فيرانتي ورواياتها ، ما الطريقة التي توصل بها الصحفي كلوديو غاتي إلى أن شخصية فيرانتي الحقيقية هي آنيتا راجا، وقد اعتمدالصحفي في تحقيقه على مراجعة حسابات دار النشر الإيطالية. ولاحظ أن واردات الدار ارتفعت في عام 2014 بنسبة 65% مقارنة بالسنة التي سبقتها وذلك بفضل نجاح كتب فيرانتي في أميركا بشكل خاص. وفي عام 2015، بلغت نسبة الارتفاع 150% أي ما يعادل 7.6 مليون يورو. ويلاحظ غاتي أن مدخولات آنيتا راجا ارتفعت هي الأخرى بالنسب ذاتها وعلى مدى الفترة نفسها.ويقول الصحفي في تقريره بأنه لا يوجد أي مترجم آخر أو أي كاتب يعملان مع الدار ارتفعت دخله بهذه النسبة وذكر أن هذا الدخل المرتفع سمح لآنيتا راجا بعقد صفقات عقارية ضخمة على مدى السنوات الأخيرة.
لم ترد آنيتا راجا على هذا التحقيق ، وأثار الأمر غضب الكثيرين من قراء فيرانتي الذين وجدوا ان ما فعله الصحفي هو تدخل في حياة مبدعة حاولت أن تحتفظ ببعض الخصوصية لنفسها، ، فيما اصدرت دار النشر بيانا ادانت فيه انتهاك حياة خاصة بهذه الطريقة الفجة ، واضافت ان فيرانتي ربما تتوقف عن الكتابة بسبب هذا التدخل السيء في حياتها ، لكن في العام 2017 ابتهج قراء فيرانتي من جديد فقد قررت أن تعود إلى العمل، وقالت دار النشر : " نعرف أنها لا زالت تكتب، ولكن في الوقت الحالي لا أستطيع أن أقول أي شيء أكثر من ذلك". ، بعدها اكدت فيرانتي من خلال
مقابلة اجريت معها عبر البريد الإلكتروني :" إنني أرغب في التحرر من جميع أشكال الضغط الاجتماعي أو الالتزام. وأن لا أشعر بذلك النوع من الالتزام حينما أصبح شخصية عامة وهذا ما سيمنحني الحرية الكاملة في التركيز حصرا على عملية الكتابة" .
وعندما سألت أين تكتب ؟ اجابت :" أنا أكتب في أي مكان. ليس لدي غرفة خاصة بي. أعلم أنني أحب المساحات الخالية ، مع جدران بيضاء فارغة. لكن هناك حقيقة مهمة وهي عندما أكتب ، سرعان ما أنسى أين أكون " .