عبد الـرزاق الصافـي و(زعل) الجواهري

Wednesday 12th of June 2019 08:10:31 PM ,

عراقيون ,

رواء الجصانــــي
كان اول لقاء مع ابو مخلص في بغداد صيف عام 1972 لأتسلم منه الاشعار بقبولي في زمالة دراسية الى الأتحاد السوفياتي، ومعه رسالة الى الفريد سمعان (ابو شروق) المقيم آنئذ في دمشق، لأسلمها له هناك وانا في طريقي عبرها الى موسكو،

ولم اكن اعرف ماهو مضمون الرسالة إلا حين أبلغني المتسلم انها توصية الى مسؤولين في الحزب الشيوعي السورى، للمساعدة في إخراجي من مطار العاصمة السورية – بوسائلهم الخاصة - لأن جوازي كان غير صالح للسفر، إذ كنت دخلت الاراضي السورية بهوية مقاتل (!) في الجبهة الشعبية لتحرير فاسطين، وقد نجحت المساعدة، عبر الناشط الشيوعي، عبد الوهاب رشواني.. .. ثم تكررت اللقاءات الحزبية والسياسية والاعلامية مع الرجل المعلم، رويدا رويدا وحتى تحولت الى شئ من الألفة، وسأقول الصداقة ولا أخف، وخاصة للفترة 1973 وحتى 1978 في مدرسة - صحيفة «طريق الشعب» الذي كان ابو مخلص رئيس تحريرها كما هو معروف، وكنت مكلفاً، متطوعا فيها، للاشراف على صفحة الطلبة والشباب، وبعدها على الصفحة المهنية، ولحين الاغتراب الى براغ، مع إشتداد اللـؤم والغدر والعسف البعثيين، مع نهاية السبعينات الماضية .. وضمن اجواء العمل الصحفي الجهود، كان رئيس تحريرنا يشعرنا دائما بالدفء الرفاقي والاجتماعي، حتى ولو كنا مشاغبين احيانا.. كما كان يجد فسحة وقت- برغم انشغالاته السياسية والحزبية والاعلامية- للأهتمام ولو قليلا بتحرير الصفحتين التي كنت معنيا بهما.. ويبدو ان حنين ابو مخلص لنشاطه الطلابي البارز اواسط الخمسينات كان حافزا اضافيا لأهتمامه ورعايته بشؤون الصفحة الطلابية – الشبابية، بقدر ما سمح الوقت وأتاحت الظروف ، وهكذا الحال في ما يخص الصفحة المهنية في الجريدة، والتي كانت تتابع نشاطات المنظمات النقابية، ومن بينها – قليلا- نقابة المحامين، التي كان ابو مخلص عضوا في هيئتها الادارية . ومما أتذكره ايضا عن شخصية الرجل المؤثرة، وحيويته، ما كان يضفيه من حبور وألفة في فعاليات «طريق الشعب» الاجتماعية، ومنها ذلك الاحتفال البهيج خريف عام 1974 بمناسبة مرور عام على اطلاق الجريدةعلنية، في احدى حدائق بغداد الجميلة .. فحين كان الجميع مترددون في كيفية بدء الاحتفاء، حياءً أو ارتباكاً، وأذا برئيس التحرير، عبد الرزاق الصافي، وبعد كلمة قصيرة، يدخل الحلبة، وسط اغاني وطنية، ولينطلق بعده الجميع في الرقص والحبور واشاعة اجواء الفرح والمحبة. فلكل وقت حالته، وذلك ما كان من تقاليد ومزاج (ابو مخلص) إذ لكل مقام مقال، والمسؤول السياسي والحزبي انسان قبل كل شئ، وليس بـ (ألانضباط) وحده يحيا الشيوعي الحقيقيّ، مثلما كان بعضنا يتصور في العقود الخوالي!. وبعد أن تستباح بغداد من قبل غلاة البعثيين واعوانهم، علانية وبكل صلافة اواخر السبعينات الماضية، ونتوزع في ارجاء المعمورة، نلتقي مجددا بين عامي 1980 – 1981 في براغ التي جاء اليها عبد الرزاق الصافي ليبقى فيها فترة وجيزة، لمهمات حزبية مركزية، فيتابعنا هناك ونحن في المكتب المؤقت لاعلام الحزب الشيوعي العراقي في الخارج، قبل انتقاله الى بيروت ودمشق(2) . ومؤكد ان تسنح في تلك الفترة فرص جديدة للتقارب مع الرجل ذي الطاقة الأستثنائية في العمل الدؤوب والسجايا النبيلة، في ان واحد . ويصدف ان يكون عيد ميلاد ابو مخلص، الخمسين في تلك الفترة، وتكون مناسبة للاحتفاء بها بشكل بسيط، فالرجل منغمر في المهمات، ولم يكن ذلك الاحتفاء غير ساعة ونصف من التمشي في ازقة براغ القديمة، وكانت بالنسبة له اجمل «هدية» وبالنسبة لي أقسى «عقوبة» حزبية! وأنا الذي لا يمشى الا عشرات الامتار ولبضعة دقائق فحسب، في اليوم الواحد. وفي أواخرعام 1988 يصل عبد الرزاق الصافي مجددا الى براغ ليشرف، ويتابع بعض شؤون العمل التنظيمي للجنة تنظيم الخارج .كما يصلها ثانية، اواخر عام 1989 للمشاركة والاشراف، مع السكرتير الاول للحزب عزيز محمد، في، وعلى، اجتماع موسع لمسؤولي وممثلي التنظيمات الحزبية في الخارج، عشية بدء تفكك منظومة البلدان الاشتراكية... كما يأتينا ابو مخلص من لندن الى براغ عام 2001 في زيارة «لتغيير الاجواء» هذه المرة، ويتجدد اللقاء، وأسعـدُ بزيارته الينا في مكاتب مؤسسة «بابيلون» ومركز «الجواهري» للأعلام والثقافة(3). وفي كل تلك الزيارات كانت اللقاءات تتجدد مع الرجل الذي لم تتغير سجاياه الموصوفة، دعوا عنكم ديمومة وفائه السياسي والحزبي للمبادئ التي آمن بها، وناضل من اجلها دون كلل على مدى عقـود حياته العامرة، وبكل اصالة وإقتناع، وبدون تبجح أو ادعاء، لـ»أن الإناء ينضح بما فيه» كما يقولُ المثل المعروف. لقد كان الرجل خلال زياراته البراغية الخاطفة، أو القصيرة المحدودة ، حريصا على ادامة وتوثيق عرى الصداقات والعلاقات مع معارفه، القريبين وغيرهم، وحتى إن كانوا على خلاف معه، أو مع الحزب بالأحرى. بل وحتى مع «إشكاليين» في شخصياتهم. مفّوقاً الشأن الانساني، على التشدد والغلو الذي كان يسود لدى البعض من أقرانه بشأن العلاقات الاجتماعية، للمخالفين أو المختلفين - بصدقٍ أو بمزاعم- حزبيا أو سياسياً أو «فكريا!» . ولا بدّ من الاعتراف بأن مثل ذلك المنحى لم ينقص من الرجل الوثوقِ بقدراته وقناعاته، بل زاده سمواً كما أدعي. واذا ما كانت السطور السالفات تؤشر لبعض محطات مع، وعن عبد الرزاق الصافي، في بغداد ودمشق، فثمة سطور أخرى جغرافيتها وتاريخها في دمشق، خلال عقد التسعينات عندما كان الرجل مقيما هناك ومعنيا بالعديد من التكليفات السياسية والحزبية الشيوعية، وفي مقدمتها شؤون الاعلام والعلاقات الوطنية والعربية وغيرها. وكنت في زيارات دورية لها، مما وفـرّ فرصاً جديدة للقاءات هناك، فرادى او مع اصدقاء، وكذلك في امسيات بدارة الجواهري الكبير التي كان يأتيها عبد الرزاق الصافي دون مواعيد مسبقة، وتلكم حال لا تتكرر مع الاخرين. قلت لا تتكرر وأعني ان محبة وألفة مميزة جمعت الرجلين، تجذرت في بغداد، ومرت ببراغ – قليلا- وتعمقت في دمشق. ولربما ان الكثيرين لا يعرفون بأن رضاء الشاعر الخالد، ومحبته العميقة، حين يعجبُ ويحبُ، ليست بالأمر الهيّن . وكان ابو مخلص من أولئك المفردين الذين أحبوا الجواهري، وقيموا عطاءه وعبقريته، بصدق، فبادلهم ذلك بمثله أو بأضعافه. ويكفي أن نضرب مثلاً بأنه – الجواهري- كان يخاطبه حين يكتب له بـ»الصافي» واضعا الكلمة بين قوسيّن، لتأكيد صفة الموصوف(4). وما دمنا في سياق الحديث عن علاقة الجواهري مع (أبو مخلص) فسأتطرق الى عتاب «ساخن» للجواهري معه، وأنا هنا شاهد عيان ايضاً، إذ كنت في دمشق حينها. فقد حدث ان احتفت «مجلة «الثقافة الجديدة» عام 1989 بتسعينية الشاعر الرمز، وكانت تصدر في دمشق، وأذ بالجواهري يثور على صاحبها - اي الحزب الشيوعي العراقي- وعلى عبد الرزاق الصافي، المسؤول الاول عن اصدارها حينئذ. والسبب في ذلك هو أن الجواهري يقول بأنه ولد عام 1903 وأن «الشيوعيين» قصّروا (! ) من عمره اربعة اعوام، فأحتفوا بتسعينيته وهو أبن ست وثمانين.. وقد سارعت بايصال الخبر عاجلاً الى (ابو مخلص) الذي لم تمرّ ساعات قليلة حتى جاء مساءً الى الجواهري، مبرراً، ومخففاً ، ثم لـ»يّلمح» الجلسة بأريحيته النافذة، ولتمرّ «العاصفة» بسلام، بل ولتتحول الى نسائم محبة اضافية (5). ربما أطلتُ، ولو أن لديّ بعض لقطات أخرى، تعكس بعض ملامح عامة عن شخصية عبد الرزاق الصافي التي أستقطبت الاهتمام والتقدير المتميزين من عارفيه واصدقائه ومحبيه.. ولكن فلنؤجلها لوقت لاحق، مع أعترافي هنا بأن بعض ما سبق من سطور، وما سيلي يحمل في بعض طياته – من بين ما يحمل - اعتزازا شخصيا، وربما حتى تباهياُ، بأني عرفتُ عبد الرزاق الصافي، عن بعض قرب، وتعرفتُ عليه، وتعلمتُ منه، وكم طمحتُ للقاءات أكثر معه. ولكن ها هو يفارقنا، مبقيّاً إرثاً تليدا في النضال المجيد، والأخلاق الانسانية، ترفدُ الباقين، واللاحقين بكل ماهو سامٍ وجميل.