شهادة جورج أورويل للتاريخ

Tuesday 28th of May 2019 06:30:46 PM ,

منارات ,

علي حسين
" عندما أجلس لكتابة كتاب لا أقول لنفسي سوف أنتج عملاً فنياً أكتبه، لأن هناك كذبة ما أريد فضحها، حقيقة ما أريد إلقاء الضوء عليه، وهمي الأول هو أن أحصل على من يستمع، لكن ليس بإمكاني القيام بمهمة تأليف كتاب ، لو لم تكن تلك تجربة جمالية، إن أي أحد سيهمه فحص عملي، سيجد أنه حتى عندما يكون دعاية سياسية صرفة،

فإنه سيحوي الكثير مما سيعتبره سياسي محترف غير ذي صلة .جورج أورويل يجيب أورويل عن سؤال حول بداياته الأدبية فيقول:" منذعمر مبكر أيقنت إنني سأكون كاتباً، وقد كانت طموحاتي الأدبية مرتبطة بشعور العزلة التي كانت تسيطر عليّ، وامتلكت القدرة على التعبير بالكلمات، والطاقة على مواجهة الأحداث غير السارة، فخلقت بذلك عالماً خاصاً بي أهرع إليه عندما تؤلمني مصاعب الحياة".

ولد جورج أورويل واسمه الحقيقي " اريك هيو بلير " في البنغال أيام كانت جزءاً من الهند التي تخضع للنفوذ البريطاني ، يوم 23/5 من عام 1903 وكان والده يعمل موظفاً في إدارة مكافحة الأفيون، وأمه ابنة تاجر خشب فرنسي، بعد عودة عائلته إلى انكلترا دخل مدرسة إعدادية خاصة، بعدها يختار كلية إيتون ، وكان الكاتب الشهير الدوس هكسلي أحد أساتذته، لكنه يقرر فجأة أن يترك الدراسة ليرحل الى بورما للعمل في " الشرطة الملكية " ، هناك يكتشف المعاناة التي يعانيها البورميون من جراء الحكم الانكليزي، فيكتب عنها رواياته " أيام بورمية "، بعدها يقرر السفر الى فرنسا، ثم يعود إلى انكلترا حيث يعمل في مكتبة لبيع الكتب. ويسجل هذه الفترة من حياته في كتابه " متشرد في باريس ولندن "، وعندما تندلع الحرب الأهلية الاسبانية يذهب الى برشلونة حيث يكتب من هناك تحقيقات صحفية لمحطة البي بي سي ، ونجده يلتحق بالحزب العمالي للاتحاد الماركسي، ويشترك في القتال مع القوات الجمهورية، يصاب في منتصف عام 1937 بجروح، ليعود الى انكلترا فيصدر عام 1938 كتابه " وفاء لكتلونيا " يروي فيه أسباب انفصاله عن حركة اليسار، عام 1943 ينضم الى هيئة تحرير صحيفة الأوبزرفر ، يتولى كتابة تقارير سياسية وأدبية، سنة 1945 تنشر روايته " مزرعة الحيوان، التي بيع منها ملايين النسخ وترجمت الى معظم اللغات، وقد حققت له هذه الرواية الشهرة والثروة، ورغم أن مرض السل تفشى في جسده إلا أنه استطاع عام 1948 تكملة روايته الاخيرة 1984 ، ليرحل عن عالمنا بعد عامين من نشر الرواية عام 1950 وهو يبلغ من العمر ستة وأربعين عاماً.كان أول اسم مقترح لرواية جورج أورويل " 1984 " هو " الرجل الأخير في أوروبا ". يقدم لنا أورويل في روايته هذه عالماً يحكمه نظام شمولي، وتدور أحداث الرواية في لندن التي يسميها أورويل " دولة اوشانيا العظمى " حيث تدير شؤونها أربع وزارات ، هي وزارة الصدق ومهمتها تزييف الحقائق، واتلاف الوثائق التي تذكر الناس بالماضي، ووزارة السلام تتولى شؤون الحرب والإعداد لها، ووزارة الرخاء ومهمتها تخفيض الحصص التموينية المخصصة للأفراد، ووزارة الحب التي تُعنى بحفظ النظام وتنفيذ القوانين. في الرواية ترافقنا صورة "الاخ الاكبر " في كل مكان، وهي صورة لوجه ضخم بشارب اسود كثيف ، وكتب تحت الصورة " الاخ الأكبر يراقبك " ، ووسيلة الدولة في مراقبة الناس تتلخص في استخدام شرطة الفكر دوريات بطائرات هيلوكوبتر تقترب من النوافذ وسطوح المنازل بهدف التجسس على كل السكان . تبدأ أحداث الرواية عندما يقرر مواطن اسمه " ونستون سميث " يعمل في وزارة الصدق، أن يدون مذكراته. ونجده بعد تردد وخوف ينفذ الفكرة فيبدأ بتسجيل أفكاره ، ويكتب في الصفحة الأولى : " 4 شباط 1984 ذهبت الليلة الماضية إلى السينما التي لاتعرض شيئا غير أفلام الحرب. كان ونستون يكره الحزب وشعاراته وجواسيسه، ولم يكن يستطيع أن يمنع نفسه من تذكر أيامه الماضية، قبل أن يتولى الحزب حكم البلاد، حيث كان الإنسان يحظى بالخصوصية ولم يكن خاضعاً للمراقبة،. وأخذ ونستون يختلس فترات من السعادة من وراء ظهر الحزب، ونجده يتعرف على فتاة اسمها جوليا تعمل في قسم تأليف الروايات، يجمعها الحب ، إضافة الى شعور بالتقزز والكراهية للحزب الحاكم ، ونوع الحياة المفروضة عليهما وعلى سائر المواطنين. كانا يحملان معا حنيناً إلى عالم حر، والى ماضٍ كان جميلاً. وسرعان ما تتحول علاقتهما إلى علاقة محظورة، علاقة حب ملأى بالمشاعر، والأحاسيس وجدها ونستون تستيقظ في أعماقه فجأة، لم يكن يتخيل أنها موجودة داخله من قبل، واستمرا في لقائهما سراً يتحدثان عن العالم، ويتبادلان الحب في غرف سرية. ثم يبدأ ونستون التفكير بـصديقه " أوبراين"، وهو أحد أعضاء الحزب الذي يشعر ونستون أن ولاءه للحزب ليس تاماً، فقد شك ونستون أن أوبراين ينتمي الى أخوية شديدة السرية والغموض تعمل ضد الحزب، ولكن لم يكن اعتقاد ونستون يمت إلى الواقع بصلة، فبعد أن أمسكت أجهزة الأمن بالعاشقين، أُخذا إلى " وزارة الحب"، من أجل الاستجواب، ليجد ان أوبراين يشرف بنفسه على التعذيب، فانهار ونستون بعد أشهر، ليخون نفسه ويخون جوليا . ويستسلم لعملية غسل الدماغ، ويتعلم أن يحب الأخ الأكبر فقط وألا تكون له أي مصالح أو مشاعر فردية، ولا يفكر بشيء، لم يسمح له الحزب الحاكم بالتفكير فيه. وعندها يطلق سراحه، ويعتبر مواطناً مثالياً، ولم يعد خطراً على المجتمع.يجمع نقاد الأدب ، الى أن الروسي " يفغيني زامياتين " هو أول من كتب الرواية التي تفضح اساليب الحكم الشمولي ، عندما قرر نشرروايته " نحن " عام 1924، التي سرعان ما منعت . تدور أحداث رواية زامياتين في دولة يقودها شخص اسمه " المحسن الكبير " وفي هذه الدولة نجد كل مواطن خاضعاً لرقابة الآخرين، فجدران البيوت شفافة ، بل إن الناس جميعاً، يعيشون تحت قبة زجاجية ضخمة تعزلهم عن الطبيعة الخارجية بكل تفاصيلها. أما أسماء الناس، فقد استبدلت بأرقام بحيث أن لكل فرد رقماً خاصاً به. وبطل الرواية رجل يحمل الرقم 503 وهو مهندس كلّف بالمساهمة في بناء مركبة فضائية ضخمة يراد لها أن تخترق فضاءات هذا العالم كي تنشر في العوالم الخارجية الدعاية الخاصة بدولة المحسن الأكبر . غير أن الرقم 503 سرعان ما يقع في غرام امرأة جميلة يتبين فيما بعد أنها تنتمي إلى جمعية تحاول مقاومة سلطة المحسن الاكبر ، وسوف تقود المرأة هذا البطل إلى عالمها وتضمه إلى جمعيتها السرية بعدما جعله هيامه بها مدركاً وضعه الحقيقي وحقيقة تلك الدولة التي يخدمها.منعت رواية زمياتين ، وبدأت المضايقات تطارده عبر حملات أجبرته على المكوث في بيته . وفي العام 1931، يتدخل مكسيم غوركي فيطلب من ستالين السماح لزمياتين بمغادرة البلاد. حيث يتوجه إلى فرنسا ليعيش فيها السنوات السبع الأخيرة من حياته مخلفاً لنا واحدة من أفضل روايات الأدب الاحتجاجي . يكتب جورج أورويل:" لقد حاول زمياتين أن يجعل نفسه مكشوفاً تماماً.. وهذا ما يجعل منه شخصية تتجاوز السلبية في ذلك البنيان المسيطر على الأفراد. لقد شعر بوضوح أن العالم يعيش في أزمة، ومن هنا قرر أن يدلي بشهادته التي تحمل ضداً فكرياً واجتماعياً ".