عندما أصبح الوتري عميداً لكلية الطب

Wednesday 22nd of May 2019 06:49:03 PM ,

عراقيون ,

د. هاشم مكي الهاشمي
كان الوتري وأثناء تسنمه مهام عمادة كلية الطب الأولى ، موزع الجهود بين العمادة وتمشية أمرها وبين الردهات الباطنية والعصبية، والعيادة الخارجية ورئاسة مجلة الكلية الطبية؛ فقد كان يذبج المقالات العلمية الضافية في إعداد المجلة كمقالات أصلية أو مترجمة أو مراجعة للمقالات المهمة في الطب الباطني، كما أنه بدأ بترجمة كتاب «والشن» للأمراض العصبية. وكذلك كان يذكر الفعاليات التي تحدث في الكلية.

كان للأستاذ الدكتور هاشم الوتري عين نافذة على سير التدريس في جميع المراحل الدراسية؛ ولهذا كان يقوم باستضافة الأساتذة للاعتراف بالكلية الطبية في المحافل الدولية، لإعلاء اسمها عالمياً ، فقد استضاف الأستاذ اللورد موران وهو رئيس كلية الأطباء الباطنيين في الملكية والطبيب الخاص للمستر شرشل في سني الحرب الثانية، والأستاذ ماكدونالد رايت أستاذ الأمراض العضبية في جامعة أدنبره، أملاً في رفع شأن الكلية بمجهوده الفريد.
لقد كان رجلاً متعدد المواهب والنزعات، يعشق لغته العربية الصيلة ، ولم يبخل على كليته وطلابه بجهد أو وقت وعلى مرضاه وطلابه بنصيحة أبداً . كذلك وثق الوتري علاقته مع كلية الأطباء الملكية في لندن ، ودعا عدداً كبيراً من الأساتذة الأجانب الذين كلفوا بدراسة المناهج ، وللإشراف والمشاركة كممتحنين خارجيين أثناء الامتحانات النهائية، مما ساعد على اكتساب المستوى الجيد الذي وصلت إليه الكلية الطبية وسهولة قبول خريجيها للدراسات التخصصية في بريطانيا.
غن الاستاذ الدكتور الوتري هو الذي علمنا ، وتحت إشرافه ، عملية بزل السائل الشكوي من العمود الفقري. ودعانا نحن الطلبة لمشاهدة بزل مع إجراء أشعة، بوضع إبرة بحوض السيستيرن في أسفل الجمجمة من الخلف والمريض جالس على كرسي، وعملها بيده بطعنة واحدة بعد أن لبس كفاً وعقم المنطقة ، واخذت صور شعاعية أثبتت بأن المريض مصاب بورم النخاع الشوكي.
إننا جميعاً لا نحمل الود والاحترام لهذا الرجل فقط بل رأينا فيه أكثر من منزلة الوالد والمعلم الملهم والذي يريد أن يدفع بعجلة التقدم إلى الأمام . لأننا كما كان يقول ، سوف تستلمون الراية من بعدنا ، فكلنا إلى زوال . وأثناء الدوام الرسمي، لم أره يوماً بدون صدريته الناصعة البياض ، وهو لباسه التقليدي والدائم.
وحبذا لو أصدر أحدنا كتاباً عن هذا الرجل وتأثيره على الطب في العراق، لأن كلية الطب بجهوده وجهود مريديه وطلابه كانت مناراً للطب في المنطقة كلها ، أدخله الله تعالى وسيع جناته وحباه كل ما يستحقه ، إنه سميع مجيب.
يعود الفضل الأكبر لقبول طلاب كلية الطب، حسب درجاتهم في البكالوريا للدراسة الثانوية، للأستاذ الدكتور هاشم الوتري. كانت الكلية في السنين الأولى تستلم ملفات المتقدمين حتى من الذين لم يكملوا مرحلة الدراسة الثانوية أو الناجحين منها. ولكن الأستاذ الدكتور هاشم الوتري في بداية من الأربعينيات من القرن الماضي، وقف كالطود الشامخ أمام كثير من المحاولات التي أرادت اجتياز هذه العقبة، وما إن مارسها بإصرار وعناد حتى استقامت وأصبحت نهجاً مسلماً به.
كان إدارياً أصيلاً بالإضافة إلى كونه طبيباً بل أستاذاً في الطب السريري الباطني. ففي أثناء توليه عمادة كلية الطب الثانية عام 1946 ، لمس تداخل المسؤوليات بين الدوائر التابعة ضمن العمادة ، فأقام نظام الهرم الإداري، بحيث يكون مقر العمادة بعميدها رأساً للهرم ، وتتبعها مديرية لكل من مدرسة الطب، ومدرسة الصيدلة ، ومدرسة طب الأسنان المزمع إنشاؤها ، ومدرسة الموظفين الصحيين، ومدرسة الممرضات، ومديرية المستشفى التعليمي، ومديرية حماية الأطفال، ومديرية مستشفى الحميات، ومعهد البحوث الطبية، ومعهد الأمراض المتوطنة. وأضحى منصب العميد يوازي منصب الوزير الذي لا تلعب به السياسة دوراً في إدارته . وعمل على أن تصبح العمادة نواة دار الحكمة وهو الاسم التاريخي لجامعة بغداد، والتي أنشئت في عهد الخليفة المأمون العباسي. فقد أعلن عن تشكيل بيت الحكومة في عام 1952 وانتخب الوتري رئيساً ، والدكتور جلال العزاوي نائباً للرئيس ، والدكتور مهدي فوزي عميداً لكلية الطب، ولم تدم تلك طويلاً فألغي الأمر توطئة لتأسيس جامعة بغداد عام 1956.
وما إن وطد عرى العلاقة الوثيقة مع كلية الأطباء الملكية في لندن، وأكمل تشكيلات النظام الإداري للعمادة والمديريات التابعة لها وأكمل ملاكاتها ، حتى استدار نحو امر ىخر وهو إعطاء شخصية مميزة وكيان لكلية الطب، بإنشاء واستحداث الدراسات التخصصية العليا بعد التخرج، والممارسة العملية تحت سمع وإبصار الأساتذة المعتمدين ، ووضع ضوابط لها، ومنح الدكتوراه بالطب الباطني والماجستير في الجراحة ، والدكتوراه في فلسفة العلوم الطبية غير السريرية . وقد انضوى تحت مظلة الدراسات المتقدمة عدد لا يستهان به من المستحقين ، والذين أثبتوا كفاءة في حقول أعمالهم . ولكن مع الأيام بدأ نجمها بالأقول تدريجياً وتم إلغاء منح الشهادات بعد أن تخلى الوتري عن منصب العمادة.
لم يكن الأستاذ الوتري متحيزاً لهذا أو مناصباً العداء لذاك لأمور شخصية . فقد اتهم بالحتيز لأمور شخصية من خلال عدم قبول بعض الأطباء في الأسرة التدريسية لأنه لا يحبذ التحاق حملة الشهادات التخصصية من بريطانيا ! . وهذا تجن صارخ لعلى الرجل لأن المرفوضين بالالتحاق بالأسرة أو الهيئة التدريسية لكلية الطب كانوا من حملة الشهادة التخصصية العراقية قبل أن يذهبوا إلى المراكز التخصصية في بريطانيا ، وهو نفسه (الوتري) كان من أشد الداعين إلى تقوية وتوثيق عرى الصداقة والروابط العلمية بين تلك الكليات الأجنبية والكلية الطبية العراقية. فعلى المؤرخ أن يجد سبباً آخر لعزوف الأستاذ الوتري بعدم موافقته على ضم تلك الزمرة إلى الهيئة التدريسية ، وليس لسبب شخصي فهو أرفع من ان يتحيز جزافاً .
وفي صباح اليوم الخامس عشر من تموز عام 1958 وفي غمرة الأحداث ، استدعانا الأستاذ الوتري ونحن في دور الاقامة مع جميع الأطباء في المستشفى التعليمي ، وكان الرجل خارج منصب العمادة التي كان يرأسها الاستاذ الدكتور صائب شوكت ، وكان محل الاجتماع هو القاعة الملحقة بالجناح الثامن، ووقف قائلاً باسم اساتذة كلية الطب والمستشفى التعليمي وباعتباري أقدم الأساتذة عمراً ومركزاً ، اؤيد الثورة ورجالها ، متمنياً للكلية أن تقوم بمهامها الأساسية لإخراج أعلى مستويات للأطباء ، وهنا قال سأبدل أسم المستشفى الملكي بالمستشفى الجمهوري.