المادية الجدلية أونظرية الثورة الاشتراكيةوحل مشكل النهضة

Tuesday 21st of May 2019 06:19:18 PM ,

منارات ,

قراءة في مشروع طيب تيزيني
د. علي المرهج
خسر العرب وأهل الشام قبل ايام الدكتور طيب تيزيني (1934ـ 2019) صاحب "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي" أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق. درس الفلسفة في بريطانيا وألمانيا، ينتمي للتيار اليساري الماركسي مع تبني لفكرة القومية العربية. وأختير في خواتيم القرن المنصرم واحداً من أهم مائة فيلسوف في العالم

يؤمن طيب تيزيني بأن حركة التاريخ العربي تسير وفق جدلية الصراع بين المثالية والمادية من جهة، وبين الدين والعلم من جهة أخرى. حاول في أغلب كتاباته تطبيق المنهج الجدلي المادي (الماركسي)، ورغم تأثر الفكر الفلسفي العربي والإسلامي بالفلسفة اليونانية إلَا أن تيزيني يعتقد أن هذا التأثر والتأثير هو من باب التفاعل الحضاري لا النسخ للتجربة ولا تعني التبعية الفكرية.
حاول أن يقرأ التاريخ العربي منذ الجاهلية مروراً بتحولات المجتمع في الرسالة الإسلامية بما فيها النص القرآني المُقدس وصولاً للنهضة الفلسفية في العصر الوسيط وفق المنهج الجدلي (الماركسي) وتطبيقاته وفق (المادية التاريخية).
لا ينظر تيزيني للإسلام بوصفه ديناً فقط، إنما هو هو "رؤية دنيوية" فيها معالجة لمشكلات الواقع والحياة الاجتماعية مؤكداً على ما أسماه "التربية الجماهيرية الاشتراكية" التي من خلالها يُمكننا تحقيق "العدالة الاجتماعية"
إن النظر للإسلام نظرة مثالية يعني جعله مجرد فكر تجريدي يخدم أصحاب رأس المال والطبقة البرجوازية والاقطاعية. أما النظرة المادية للإسلام بوصفه فكر تحرري إنما يدفع باتجاه بناء إنسان واع، حر، لأن الإسلام في فترته الكفاحية الأولى كان ضد "الذي جمع ماله وعَدده".
ينظر للقرآن لا بوصفه نصاً دينياً مُقدساً، إنما يتعمل معه تيزيني بوصفه "تراث حقوقي وأخلاقي واقتصادي واجتماعي".
في تراث الإسلام الكلامي كان المعتزلة الذين دخلوا للنص من باب العلم والأخذ بمعطيات العقل ومن ثم التأكيد على "وحدة النظر والعمل"، ومن هنا جاء ابرازهم لموقع "الإنسان" والتأكيد على أهميته في فهم الكون والعالم وترتيب العلاقة مع الذات الإلهية، لأن الإنسان حُرَ، وهذه الحرية هي التي جعلت العقل المُسلم فيما بعد يتصدر مشهدية الحضور في الثقافة والفكر والعلم في القرنين الثالث والرابع الهجري بل وحتى الخامس الهجري على ما فيه من محاولات لقمع التفكير الحر وتكفير الفلاسفة من قبل الغزالي.
ركز تيزيني على قدرة العقل الإسلامي على "التثاقف" أو "التلاقح الحضاري" والافادة من علوم الغير، تلك الدعوة التي تبناها الفلاسفة وظهرت جليَة وواضحة في كتابات الكندي وابن رشد تصريحاً، وفي كتابات الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل تبنياً في كتابيه "من التراث إلى الثورة" و "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط".
ما يؤكد عليه تيزيني مراراً وتكراراً أن هذا التأثر و"التثاقف" لا يعني بأي حال من الأحوال تبعية العقل العربي الإسلامي للعقل اليوناني كما يذهب لهذا الرأي بعض المستشرقين أمثال رينان الذي يؤكد على أن "الفلسفة الإسلامية هي فلسفة يونانية كُتبت بحروف عربية"!.
فتيزيني يرى فيما طرحه المفكرون والفلاسفة العرب والمسلمين إنما هو معالجات لقاضاي في "تراثنا الثقافي"، فمع الكندي كان "التثاقف" محاولة لتبرير فكرة "الخلق من عدم" فلسفياً، وبالتالي فهي محاولة "لتأطير الدين باطار فلسفي" كما يرى تيزيني، ومع الفارابي كانت "الملَة" في خدمة "الحكمة" لأجل تنقية "الملة" ومعالجة الفهم المغلوط لعلاقة ما في الأذهان لما في الأعيان.
في الفلسفة المغاربية نزوع نحو تفلسف عقلاني فيه تطوير لتوظيف الفهم المادي لعلاقة الإنسان بالله، وتلك رؤية نجدها واضحة في كتابات ابن طفيل في فصل الشريعة عن الحكمة رغم التلاقي في خاتمة المطاف، فالطرق إلى الله "بتعدد أنفاس الخلائق" كما يقول ابن عربي.
وقمة العقلانية تمثلت في ابن رشد سواء في تبنيه للفلسفة الأرسطية ودفاعه عن أرسطو على أنه "الرجل الذي كمل عنده الحق" أو في دفاعه عن المعرفة العقلانية المتأتية من طلب الإنسان للتدرج في التعلم وفق قاعدة الضرورة أو التلازم بين العلَة والمعلول، الأمر الذي يقتضي سعي الإنسان لتنمية معارفة فيما يُسمى اليوم بـ "نمو المعرفة العلمية" التي يحصل عليها الإنسان بالتأمل والنظر والافادة من عقول أصحاب الفكر.
ولم يخرج ابن خلدون عن مقتضى هذه الرؤية ولكن وفق رؤيته الاجتماعية لا الظانطولوجية، فهو فيلسوف اجتماعي شغوف بالكشف عن عوامل النهوض والأفول في الحضارة وفق رؤية فلسفية مُستمدة من فهم حركة التاريخ مُنتقداً اعتماد التفسير الميتافزيقي للوجود وعلاقة الإنسان بالطبيعة والحياة.
وهذه رؤية يتشارك بها محمد عابد الجابري مع تيزيني على ما بينهما من اختلاف في الرؤية والمنهج.
يؤمن تيزيني بمفهوم غرامشي "المثقف العضوي" يكون فيه المثقف مُشاركاً في التغيير الثوري اجتماعياً وسياسياً مُبتدءاً بضورة استخدام "المنهج الجدلي" لغرض تفعيل ما أسماه "فن المُحادثة" الذي هو أحد معاني الجدل. لذلك هو يرفض ظاهرة "الثقافة للثقافة"، ويدعو لأن ينتظم المثقف في حزب سياسي يُحقق فيه أهداف سامية تنفع المجتمع وتخلصه من "التبعية" و "التخلف" و "الاستبداد".
إن مهمة المثقف هي "التثقيف النظري بالواقع" وكشف عيوب هذا الواقع سياسياً واجتماعياً وثقافياً.
ينظر تيزيني لكل الأديان السماوية والوضعية بوصفها نمطاً من أنماط التفكير الجدلي لا سيما الأديان في الشرق الأقصى مثل: البوذية والكونفشيوسية والتاوية، فهي جميعها "رأت أن العالم في صيرورة وتبدل دائم" وتلك كانت رؤية الفيلسوف اليوناني "هرقليطس" (فيلسوف التغيَر والصيرورة)، وكان السفسطائيون من أوائل الفلاسفة الجدليين حينما وجدوا في الجدل أداة ومنهج للوصول للحقائق وفق رؤية ذاتية معيار صحته النفع الشخصي.
وفي فلسفة افلاطون حول "الجدل الصاعد" و "الجدل النازل" تأسيس معرفي لأهمية هذا المنهج في فهم طبيعة النفس وعلاقتها مع العالم الطبيعي من جهة والعالم المثالي من جهة أخرى.
مع هيجل تحول الجدل إلى فلسفة لها منطلقاتها ومُتبنياتها، فصار مبدأ "التناقض" فيه حجر الزاوية.
"أنت أنت بقدر ما تكون هو، وهو هو بقدر ما يكون أنت" هذه مقولة يعتمدها تيزيني كتعبير عن فرؤيته لمفهوم الجدل بوصفه نظرية وللتناقض بوصفه المبدأ الأساس الذي يتأسس عليه الجدل.
تحقيق "النهضة" وتجاوز حالة "التخلف" في مجتمعنا مهمة المثقف والعالم على حد سواء، وذلك باعتمادهما على مبادئ ثلاث هي: الحقيقة الموضوعية، والحرية العلمية، والالتزام السياسي، وهذه مابدئ ينبغي أن يتحصن بها ويقتدي "الباحث العربي الثوري".