رواية جمهورية باب الخان.. أحفوريات المكان وطلاسم البحث عن هوية

Wednesday 27th of March 2019 07:22:30 PM ,

عراقيون ,

د ماهر مجيد
تطالعنا رواية (جمهورية باب الخان)، للروائي العراقي (علاء مشذوب). منذ الوهلة الاولى، ونحن على أعتاب مغامرة الفحص النظري لغلاف الرواية الذي هو عبارة عن جدار حتَّ طلاؤه وتآكل قرميده وتقرحت روحه. حتى تتشكل أمامنا ومضات دافقة تحيلنا الى منعطفات فكرية آخذة بالتمدد صوب فضاءات اشتغالية ترتبط بعتبات النص، وقدرة هذه العتبة على سحب المتلقي للخوض بعيدا نحو معمارية النص ودواخله.

فعنوان الرواية (جمهورية باب الخان). يحمل أكثر من دلالة، إلا أنه أحجية بالوقت نفسه، لأن قدرة المؤلف على ايقاظ نوع من الوعي الجمعي والفردي، في استلهام مفردات ذات مرجعيات قبلية، وتمثلات بعدية في الرواية نفسها، أصبحت مهيمنة من هذه اللحظة. لذا كان المؤلف على قدر الوعي المتعلق بعتبات النص، وبناء فضاء اشتغالي يجد المتلقي نفسه في تيه جمالي متواصل.
إن مصطلح جمهورية، هو مؤشر مثقل بالعديد من المرجعيات التي تتراوح ما بين ما اكتنزه أفلاطون في جمهوريته الفاضلة، وما بين الفكر الثوري الذي تبلور على يد المنظرين والسياسيين الفرنسيين، وانا اعتقد إن الروائي الدكتور علاء مشذوب قد أوجد اشتغالا جماليًّا وفلسفيًّا لمصطلح الجمهورية يتوج به طروحات ما بعد الحداثة.
إنها جمهورية المهمشين، تلك الملامح الانسانية، التي تتشكل على وفق قانون الحياة وخارج سيطرة الإنسان نفسه، إنها يوتوبيا انسانية تتماحك وسطها طروحات دنيوية، تناسلت وتوالدت بفعل النقائض الفكرية لجمهورية أفلاطون غير الانسانية، والقوانين الأحادية الفعل والتصور والمعادلة السارترية لبوادر ظهور الجمهوريات على مستوى العالم، في حين شكل باقي العنوان نصاً مغايراً (باب الخان).
فالدلالة المكانية تكاد تكون مهيمنة عليه، ولكنها دلالة مجتزأة لا تكتمل دون تتبع آثار احفوريات المكان نفسه، وهو ما يعني، أن باب الخان يمتلك من الخصوصية والتأثير في طبيعة المكان مما يجعله جمهورية متمايزة بميكانيزمات انسانية، أو أن باب الخان هو بنية اسطورية يحاول المؤلف ايجاد معادلات موضوعية وذاتية في إحفوريات المكان نفسه، هذه التساؤلات التي أوقدت ايقاداً في ذهن المتلقي دفعته رغماً عنه بطريقة تماهي فكري للكبس على زر الانطلاق بعيداً في استكشاف الارض البكر والفضاء الموازي لفضائنا الحيوي الانساني. وها نحن نتلمس ماهية المكان ونتوغل في احفورياته للوصول الى فك طلاسم الانتماء لهوية تجاوز محدودية المكان الى جمهوريته فكريا وجمالياً.
ومن أجل تأكيد حقيقة وجود هذه الجمهورية الطوباوية، شرع الروائي، عن طريق سارده العارف بكل شيء، في بناء ملامح جمهوريته ورسم فضاء المكان، منذ الولادة الأولى على يد الانكليز والتحولات الجيوسياسية التي رافقت المكان حتى الوقت الحاضر (زمن الرواية)، لذا كان الراوي يسرقنا بذكاء، وهو يرسم بريشة انيقة تاريخاً معقداً من الحركات السياسية والآراء والتحولات، المكان الذي راقبنا منذ الولادة الاولى، وتلهفنا له وهو ينمو ويكبر، يزداد حياة ، انه شخصية مؤثرة فاعلة، انه دفق حياتي لا يمكن تجاوزه، هذا ما أرادت الرواية تثبيته وهذا ما حصل فعلاً، لأن الانتماء للمكان كانت القدرة الاولى التي أكد امتلاكها الروائي وهو يخرج لنا (المتلقين)، هويات الانتماء للمكان وعشقه.
كانت التحولات العمرانية والسياسية والاجتماعية التي رافقت حياة هذه الشخصية – المكان ــ حاضرة بقوة، مع أجيال وجنسيات وقوميات وانتماءات اجتماعية كبيرة ساعدت كثيراً في بلورة شخصية المكان ومنحته قدرة التأثير بالآخرين بعد ان عاش سنين طويلة يتأثر. وهذا ما جعل من المكان إحفوريا، مجسداً للكثير من الملامح الانسانية، بأزيائها واكسسواراتها، بمهنها ،برغباتها الدفينة والمعلنة، بإحساسها بالظلم والفاقة والحاجة، برغبتها في الانتهاء من الحياة والتمسك بها. مكاناً مثقلاً محملاً بالعديد من الأماني والافكار، مسجلاً للعديد من الأصوات التي مازالت منذ عشرات السنين تدور في فلكه مثل صدى دائم لا انفكاك منه، انه هوية لا يمكن اكتسابها الا بعد ان يتم تعميدك في جمهورية باب الخان.
ويبدو أن الروائي لم يمهلنا كثيرا حتى اخذنا على حين غرة حينما اقحمنا في فضاء مكان متمدد، فأخذ ينحت بأزميل نحات ماهر تفاصيل المكان بدقة تكاد تكون اثنوغرافية، تفاصيل صغيرة لنوعية المكان وطرازه، ازقته، حواريه، ومحلاته، شخصياته، حرفه الشعبية، اعتقد أن الروائي قد احتاج لزمن طويل يهضم به التفاصيل ويصوغها بشكل جمالي بلاغي، فالجغرافية الجافة والاسماء التقليدية بدأت تأخذ ملامح مغايرة، قدرة الروائي العجيبة في التعامل مع تفاصيل حياتية قد تكون منقرضة، او بسيطة بحيث لا يمكن أن تجلب الانتباه لها.
هكذا كان الروائي في سرد ووصف أحداث ومهن شعبية منقرضة، بدقة كبيرة، وبل وبتوصيف طبيعة وصناعة هذه الحرفة، وكيفيات التعامل مع تفاصيلها، انها قدرة كبيرة تنم عن ذكاء وحنكة في قراءة الحياة الانسانية في المجتمع الكربلائي، وكأن الروائي أراد أن يقول إن نسغ الحياة في كربلاء لا ينقرض حتى في تفاصيله الدقيقة أو مهنه التي عفى عليها الزمن وغادرها صناعها وروادها.
إذ عمد الراوي كلي المعرفة على تبني مستوى سردي ذي لغة بلاغية، يتداخله جمل وصفية وضعت بعناية وكأنها مشرط جراح، انجز بدقة كبيرة عملية تجميل الملامح، التي اصبحت بسبب مشرطه فائقة الجمال. ولكن ما كان متميزاً الى درجة الإبهار هي تلك القدرة على المزاوجة بين انسانية المكان نفسه، وانسانية الإنسان، فالراوي حينما يستعرض المكان لا يكتفي بحاضره، ولا بأساسه، وإنما يسعى جاهداً الى رسم تاريخانية المكان نفسه، تاريخانية تتجاوز تاريخانية الانسان، بل يغدو الإنسان بدون هذا المكان كائنًا مشوهاً لا حقيقة لوجوده، فكان التاريخ يتحرك مع تحرك الشخصيات، لاسيما الشخصية الرئيسة (سيد عدنان) الرجل العراقي الكربلائي، المفتون حد الجنون بشمائل العراق ونزواته، قدرته العجيبة على صناعة الطيبة واختزال التاريخ.
هذه الشخصية التي اصبحت رمزاً حقيقيّاً لا يمكن فهم تقلبات الشخصية العراقية إلا بمتابعة سيرة حياته وعلاقاته ومعتقداته، وما يؤمن به من أفكار وقيم. لذا كان سيد عدنان حاضراً في الكثير من التفاصيل داخل جمهورية باب الخان، فهذه الشخصية حينما تتجول في المكان لا توصفه فقط، وانما تمتد عمودياً لتوغل في التاريخ المرتبط بتفاصيل المكان او المهنة او الشخصية التي تشغله: كان سيد عدنان يشم رائحة أبيه، وهو يتفقد هذه الأماكن الموغلة بالقدم والعبقة بالتاريخ، يقف تحت طاق حجي أحمد، ويتذكر ما قصه أبوه عن هذا الرجل الذي كان يبيع الثلج صيفاً والمحلبي شتاء.