الصافي النجفي يكتب عن نفسه.. كيف هربت من السلطات البريطانية وتركت العراق ؟

Sunday 3rd of March 2019 07:29:01 PM ,

ذاكرة عراقية ,

رباعيات الخيام وترجمة الصافي ..
..رحت أواصل قراءة الصحف يومياً في أيام الحرب العظمى وكأنها فرض واجب عليَّ، رغبة مني في الاتصال بكل ما يجد في العالم. مطالعتي للصحف والمجلات في سن باكرة، وتعرُّفي إلى الحياة العصرية، جعلتني أشعر بواجبي نحو بلادي، لا سيما وقد احتلَّ الإنكليز العراق في ذلك الوقت. فما كادت تضع الحرب أوزارها حتى تفاهمت مع عدد من شباب النجف وبعض رجالها، وفي طليعتهم رفيقي الذي كنت ألازمه سنوات، رغم أنه أكبر مني سناً وعلماً،

وهو المرحوم الشيخ محمد رضا اشبيبي رئيس المجمع العلمي العراقي سابقاً. وكان من رفاقي المرحوم سعد صالح، الذي شغل وزارة الداخلية فيما بعد. تفاهمت مع الشبيبي وسعيد وغيرهم على أنه من الضروري أن نغتنم فرصة الاستفتاء المقبلة على مصير العراق بناءً على مبادئ الرئيس الأميركي ويلسون الأربعة عشر، ومنها أن لكل شعب حق تقرير المصير بنفسه. وقد أقنعت أخي الأكبرالسيد محمد رضا بالسير معنا في هذا الطريق، ثم أقنعنا العالم الشيخ عبد الكريم الجزائري بالتضامن معنا. وكانت له مواقف بارزة في تطور أحداث العراق فيما بعد.. وهكذا انطلق عددنا يزداد مع الأيام، ورحنا نتصل بزعماء العشائر، وبطلاب المستقبل. وعندما قدمت لجنة الاستفتاء إلى العراق حاول الإنكليز بواسطة أنصارهم المماطلة والتلاعب والانحراف عن النهج الصحيح لاستقلال العراق. وقد أدى سوء التفاهم بين الوطنيين العراقيين والإنكليز إلى عقد الاجتماعات السريَّة تمهيداً للثورة. كانت تلك الاجتماعات تعقد في بيتنا الذي كان أحد مراكز مؤتمرات الثورة فيما يخص ناحية النجف... وكان لنا اتصال بسائر مراكز الثورة في سائر المدن العراقية. وكنَّا نكاتب الثوار بواسطة (الحبر السري) إلى أن عقد اجتماع كبير في الجامع الهندي بالنجف، ألقيت فيه خطب حماسية وأشعار مثيرة. وعلى الأثر أصدر الحاكم الإنكليزي في بغداد أمراً إلى حاكم النجف بإلقاء القبض على الفئة المحرِّضة، وكان من بين هذه الفئة إسمي واسم سعد صالح. ولم أكن أعلم بذلك حين ذاك. ولكني علمت هذا منذ عشرين سنة، حينما قرأت ذلك في عدد من مجلة الحرب العظمى التي كان يصدرها الأستاذ عمر أبو النصر. وكان ذلك العدد خاصاً بثورة العراق. ثم أخذت بذور الثورة تسري في العراق سريان النار في الهشيم حتى اندلعت لأول مرة في بلدة الرميثة، ثم امتدَّت إلى معظم أنحاء العراق.. وهنا أصبحت الاجتماعات في بيتنا علنية من قبل الزعماء والضباط الذين كانوا يساهمون في توجيه الثوار. وقد كان ذلك في أوائل أيلول (سبتمبر) سنة 1920. وبعد أن استمرَّت ستة أشهر، ساق الإنكليز قوة كبرى، اضطر الثوار على أثرها إلى الانسحاب من مواقعهم متَّجهين إلى جهة الكوفة.. وعندما أصبحنا نسمع المدافع تطلق بين ذي الكفل والكوفةعقدنا أنا ورفيقي سعد صالح ورفيقان آخران، اجتماعاً قررنا على أثره مبارحة العراق حتى نرى كيف ستتطور الأمور.. قطعنا الجزيرة بين دجلة والفرات، واقتربنا من حدود بلدة "الحيّ" الواقعة على ضفاف دجلة، فانفصل عنِّي رفيقي سعد صالح، وذهب مع رفيقيه إلى "العمارة" ومنها إلى الكويت، ثم عادا فيما بعد إلى العراق. أمَّا أنا فواصلت سفري إلى "الحيّ" بعد أن غيَّرت هيئة لباسي، وانتقلت منه إلى "كوت الإمارة"، ومن هناك دخلت الحدود الإيرانية عن طريق جبل الأكراد.. وبعد شهر تقريباً وصلت إلى طهران فقرأت في الصحف الفارسية نبأ دخول الجيش الإنكليزي إلى بلدة النجف واعتقالهم خمسة من زعمائها كان أحدهم أخي الأكبر السيد محمد رضا.. وقد وضعوه في سجن خاص في الكوفة، ووضعوا المشنقة أمامه تهديدا له، وجزاءً له لجعل بيته مركزاً للثوَّار. وبعد أن أمضى أخي في السجن خمسة أشهر أفرج الإنكليز عنه بعدما قرروا إعطاء العراق استقلاله. بعد ستة أشهر من إقامتي بطهران طلبت وزارة المعارف عدداً من المعلمين على أن يؤدّوا الفحص أولاً، فتقدمت بطلبي للتعليم، وأجروا لي فحصاً أعطوني على أثره أعلى درجة في النحو، وهي درجة العشرين، وعيَّنوني مدرِّساً اختصاصياً للآداب العربية في ثلاث مدارس ثانوية هي "المدرسة العلمية" و"المدرسة السلطانية" و"المدرسة الكمالية". وكنت أدرِّس في اليوم ساعتين ولكن ضعف بنيتي القديم مع المرض العصبي الذي أصابني في العراق منعاني من مواصلة التعليم، فاستعفيت بعد سنتين، وأخذت أتمرَّن على الكتابة بالفارسية. وبعد ستة أشهر تقريباً شرعت أكتب في أمَّهات الصحف والمجلات هناك، منها صحيفة "شفق سرخ"، ومجلة "أرمغان" لسان حال النادي الأدبي في طهران. وعلى ضوء ما كنت أنشر من مقالات أدبية، انتخبت عضواً في ذلك النادي، ثم عُيِّنتُ عضواً في لجنة التأليف والترجمة في عهد وزير المعارف السيد محمد تدين. اتفقت مع الوزير على ترجمة كتاب "علم النفس" لعلي الجارم وأحمد أمين لقاء أجر معيَّن. ثم ترجمت رباعيات الخيام نظماً من الفارسية إلى العربية، تلك الترجمة التي طبعت مرة واحدة في طهران مع الأصل الفارسي، وكانت هذه الطبعة تحتوي مع الأصل الفارسي على لوحات فنية رائعة. وحين نفدت هذه الطبعة تلكأت في إعادة طبع تلك الرباعيات عندما رأيتها تضر بأكثرية القرَّاء الذين كانوا يسيئون الاستفادة منها إذ كانوا يقرأونها في الحانات ويزيدون من معاقرة بنت الحان، بينما كنت أهدف من الترجمة الناحية الفنية والجمالية فقط. بعد أن مرَّ عليَّ ثماني سنوات في طهران جاءني الطلب من حكومة العراق ومن أصدقائي من زعماء الثورة العربية الكبرى (1920)، يدعونني للعودة للمساهمة في خدمة العراق الذي أصبح مستقلاً. فعدت بدافع الحنين وبدافع خدمة الوطن سنة 1927. وعندما بلغت الحدود العراقية، وكان زيِّي قد تأثَّر بالزَّي الفارسي، جاءني رؤساء المخفرالعراقي ليفتشوا حقيبتي فقلت لهم: أنتم تفتشون حقيبتي وأنا فرح بكم جدّ الفرح لأني رأيتكم طليعة العراق المستقل، وقد ذهبت إلى إيران لاجئاً من ثورة العراق الأولى حتى أشاهد هذا اليوم الجميل. عندما سألوني عن إسمي وشخصيتي وشرحت لهم ذلك تساقطت دموعهم من الفرح وأخذوني إلى المخفر واحتفوا بي، ثم ودَّعوني بكل شعور فياض. وحين وصلت إلى العراق حاولت وزارة العدلية التي كان على رأسها السيد داوود الحيدري تعييني قاضياً في بلدة الناصرية، ولكن جو العراق القاسي والدوسنطاريا التي كانت أصابتني في طهران، مضافاً إلى أمراضي السابقة، هاجمتني ومنعتني من القيام بتلك الوظيفة. فقضيت ثلاث سنوات أعاني أقسى الآلام والأمراض وكان أشدّها في السنة الأخيرة حيث وقعت طريح الفراش لا أستطيع الحراك أثناءها. وكاد أهلي أن ييأسوا من شفائي إلى أن قيَّض الله لي طبيباً سورياً هو الدكتور سعد الدين عيسى فأشرف على علاجي. وبعد أشهر قمت من فراش المرض، فأشار عليَّ بالمجيء إلى سورية ولبنان للاستجمام. فقدمت إلى دمشق سنة 1930، وبقيت منذ ذلك التاريخ أنتقل بين البلدين. وقد دخلت في أثنائها بضعة عشر مستشفى سواء في لبنان و في سورية أو القدس دون أن أحصل على شفاء كامل يشجعني على العودة إلى العراق.

عن كتاب "أحمد الصافي النجفي"
للكاتب السوري زهير المارديني