فاضل العزاوي .. ثراء التجربة والبيان الشعري الحداثي ميزه عن أقرانه من جيل الستينيات

Wednesday 27th of February 2019 07:52:13 PM ,

عراقيون ,

فاضل ثامر
لا يمكن فهم تجربة الشاعر العراقي فاضل العزاوي الشعرية والإبداعية الشاملة بمعزل عن مجموعة من الموجهات القرائية السياقية والنصية،الموضوعية والذاتية التي أسهمت في صياغة رؤيته الشعرية الكلية.
وفي المرتبة الأولى تأتي مسألة ارتباط الشاعر بتجربة جيل الستينات في العراق الذي جاء في أعقاب أول تجربة للحداثة الشعرية الخمسينية تمثلت بتجارب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي. وفي قلب هذه القضية الدور الشخصي الذي نهض به الشاعر في التبشير بالموجة الحداثية الجديدة وقيامه شخصيا بكتابة أهم مانيفستو شعري في تاريخ العراق الثقافي

هو «البيان الشعري »الذي وقعه أربعة من شعراء الستينات البارزين آنذاك.
والى جانب هذا الموجة، لا بد وان نأخذ بنظر الاعتبار ثراء التجربة الروائية للشاعر والتي تزامنت مع نضج الحداثة الشعرية، ونشير بشكل خاص إلى روايته المبكرة الجريئة «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة»الصادرة عام 1969، والتي وصفها الشاعر في الغلاف الأخير بأنها «قصيدة مخترع شرير»، كما أكد على تداخل الأجناس في الرواية بقوله في التمهيد القصير الذي كتبه للراوية : «وتصبح الرواية قصيدة ومسرحية وفيلما ولوحة وموسيقى في الوقت ذاته دون ان تعني ذلك ».
والعنصر الثالث المهم في فهم تجربة الشاعر يتمثل في تربيته الاجتماعية والثقافية والمؤثرات الفكرية والسياسية والأدبية التي شكلت وعيه الشعري والأدبي والثقافي، فالشاعر من مواليد مدينة كركوك عام 1940، وهي مدينة عراقية عرفت باحترامها للتنوع الأثني واللغوي والديني وانفتاحها على الآخر، وتأثرها بوجود شركات النفط الأجنبية التي ساهمت في إشاعة اللغة الانجليزية. لذا تربى الشاعر في مثل هذا الجو القائم على الانفتاح على الآخر والإيمان بقيم التسامح واحترام الثقافات الأخرى التي أصبحت جزءاً من ثقافته ووعيه.ويرتبط ذلك ايضاً بتربيته الدراسية والسياسية. فبعد ان أكمل دراسته الثانوية في كركوك انتقل إلى بغداد لإكمال دراسته الجامعية طالباً في قسم اللغة الانجليزية في كلية التربية (دار المعلمين العالية سابقا)، وقد ساعده ذلك على تطوير رصيده اللغوي، الذي كانت له بدايات سابقة من احتكاكه بأبناء مدينته، فأفاد إلى حد كبير من قراءاته باللغة الانجليزية واطلاعه على كتابات شعراء الحداثة في الآداب الانجليزية والأمريكية والفرنسية، وهو موجه مهم من موجهات الحداثة الستينية، مثلما كان المؤثر الأجنبي – سواء من خلال الترجمة أو الاطلاع المباشر على اللغة الأجنبية عنصراً حاسماً في تفجير وبلورة منحى الحداثة الشعرية الخمسينية. وان كنا نرى ان اقتصار المؤثر الأجنبي على شعراء الخمسينات كان مقترنا أساسا بشعراء الرومانسية الانجليزية وببدايات حركة الحداثة الشعرية التي مثلتها تجربة ت. س. اليوت وعزرا باوند واديث ستويل وغيرهم. ولم ينتبه شعراء الخمسينات لشعراء الحداثة الفرنسية أمثال بودلير أو رامبو كما لم يتوقفوا أمام المنحى الحداثي الديمقراطي الذي مثلته تجربة الشاعر الأمريكي وولت وتمن في ديوانه «أوراق العشب»أو تجربة شعراء الغضب في الأدبين الأمريكي والانجليزي، وبشكل خاص تأثير شعراء مدرسة البيتنكس التي مثلتها تجارب الن غنربرغ وفرلنغهيتي، وغريغوري كورسو في الشعر في خمسينات القرن الماضي والتي كان لها تأثير كبير على حركة الحداثة الشعرية في الستينات.
ولا يمكن إسقاط جانب مهم في ثقافة الشاعر وتربيته، يتمثل في انتمائه المبكر إلى اليسار العراقي المنظم وأيمانه بقيم العدالة الاجتماعية ومسؤوليته المثقف العراقي في إحداث مجتمعه. وكانت للشاعر تجربة خصبة في هذا المجال. اذ اعتقل بعد انقلاب الثامن من فبراير 1963 الفاشي، واقتيد – مع المئات من الأدباء والمثقفين – إلى السجون والمعتقلات، حيث أمضى فترة من الزمن في سجن بغداد المركزي (الموقف العام) وتحديدا في القلعة «الخامسة»التي كتب عنها رواية بهذا الاسم كما امضى فترة أطول في سجن الحلة. وربما يمثل فشل التجربة السياسية وسيطرة القوى الفاشية على مقدرات البلاد صدمة عنيفة أثرت سلباً على وعي الشاعر وعلى الكثير من أدباء الستينات الذين كفروا – بعد ذلك – بكل القيم والمفاهيم والمؤسسات السياسية وحولوا رفضهم وغضبهم ضد الاستبداد والدكتاتورية إلى غضب شامل ضد الأعراف الأدبية والقيم السياسية، حيث راح الشاعر الستيني يبحث له عن حل فردي لإشكالات تلك المرحلة، لم يكن يخلو من السوداوية والعدمية والذاتية في مواجهة العالم. وقد انعكس ذلك على تجربة الشاعر الفنية وأدواته، فشق له، بالاشتراك مع شعراء الجيل طريقًا جديداً نحو حداثة من طراز جديد، ربما كان «البيان الشعري» صوتا لها. إلا ان هذا الصوت الصاخب المتمرد راح بمرور الزمن يميل إلى الهدوء والاستقرار والى التصالح الجزئي مع العالم الخارجي، وخاصة منذ نهاية السبعينات وبعد ما غادر الشاعر العراق ليعيش في المنفى وتحديدا في ألمانيا منذ عام 1977 وحتى اليوم.
وبسبب اشتباك عناصر ومستويات وصفحات الشاعر الإبداعية المختلفة، يتعين على الناقد ان يدرس المتن النصي والإبداعي للشاعر في كليته لوجود مشتركات تعبيرية وبنيوية ورؤيوية متقاربة.
ولذا فانا في قراءتي لتجربة فاضل العزاوي الشعرية اتفق مع الشاعر المغربي محمد بنيس في كتابه «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب : مقاربة بنيوية تكوينية» الذي يدعو إلى اعتماد المتن الشعري الكلي للشاعر أو لمنحى شعري معين، وعدم الاقتصار على نص شعري مفرد بعينه.
ان ما يدفعنا إلى الأخذ بهذا المنحى ملاحظتنا وجود ملامح أسلوبية مستقرة وثابتة، فضلاً عن تبلور أنساق وبنيات وتوظيفات مماثلة في لغة الشاعر ومعجمه الشعري ورموزه وأقنعته التي يوظفها تشتغل وتتداخل في متنه الشعري الشامل، والى حد ما في تجربته الروائية أيضاً.
كان فاضل العزاوي في اوج الحداثة الشعرية الستينية مثل قنبلة متفجرة، تقذف حممها في جميع الاتجاهات، وتطلق العنان للمخيلة لكي تشاكس كل ما هو تقليدي أو نسقي أو ثابت. فهو يؤمن – وبشكل خاص في كتاباته المبكرة – بلون من الكتابة الأوتوماتيكية التي تفيد من المدارس السريالية والروائية والمستقبلية ومن تجارب مدرسة ( البيتنكس ) في الشعر الأمريكي بشكل خاص. ولذا فقد كان الشاعر قلما يتقصد التحكم في سيل الكلمات والصور والتراكيب التي يطلقها، وخاصة في بواكير تجربته الستينية : فتبدو، نتيجة ذلك،الاستعارات والتشبيهات والمجازات والصور متباعدة الأطراف ومفاجئة وصادمة، وغريبة أحيانا، لكنها تنجح في النهاية، في ان تخلق مناخاً شعرياً فوضوياً متمرداً، لا يخلو من الضجيج والصخب واللامعنى أحياناً , وان لاحظت ان الشاعر عاد، ربما منذ منتصف السبعينات إلى ضبط إيقاع الانفلات والتفجر نسبيا في محاولة لتوجيهه نحو أهداف فنية وتعبيرية موجهة ومنظمة لتحقيق رسالة شعرية محددة، فيها الشيء الكثير من المنطقية والمعقولية، بخلاف المرحلة السابقة التي اتسمت بالتفجر شبه العفوي والتلقائي للكلمات والمرئيات دونما رابط منطقي أو عقلي أو بنيوي من خلال الانثيال الأوتوماتيكي للألفاظ.
لقد شكلت تجربة فاضل العزاوي المبكرة، بما لها وما عليها، منحنى ً شعرياً متميزاً، ربما ميّز، بعض الوقت، تجربته عن بقية مجايليه وأقرانه من شعراء الستينات، بوصفه تجريبياً ومتمرداً ورافضاً، ومدمراً لكل القيم الفكرية والأعراف الفنية والأدبية والاجتماعية والسياسية وخيّل لي، لحظة ما، ان قيمة فاضل العزاوي الشعرية، لا تزيد عن كونه مبشرا باتجاه شعري حداثي جديد وبوصفه صاحب «البيان الشعري»، وكدت أقارن دوره بدور الشاعر الأمريكي تي.ي. (هيوم) المؤسس الحقيقي للمدرسة التصويرية ( الايماجية )في الشعر الأمريكي في الفترة 1912- 1917 الذي لم يكتب الا بضع قصائد لا تتجاوز العشرين قصيدة، لكنه أصبح مبشرا وممثلا لمنحى جديد في التعامل مع الصورة الشعرية تأثر بها كبار شعراء العصر آنذاك ومنهم اليوت وأزرا باوند وايمي لويل. لكن قراءة لاحقة ومتأنية للتجربة الكلية لمتن الشاعر، وبشكل خاص منذ صدوره «الأعمال الشعرية» للشاعر في جزءين عام 2007 دفعتني إلى إعادة النظر في هذا الحكم والاعتراف بثراء تجربة الشاعر وتنوعها وحيويتها، والنظر اليه بوصفه واحدا من كبار شعراء الحداثة الشعرية العربية فضلاً عن تجربته الروائية الخصبة التي تتصادى ومنظوره الشعري والفلسفي، ولذا فنحن بحاجة إلى إعادة فحص وتقييم هذه التجربة، التي تحسب للشعر العراقي، مثلما تحسب للشعر العربي الحديث.
وخلافا للمفهوم الشائع المبكر عن فاضل العزاوي الذي كان ينظر إليه بوصفه شاعرا «موضة» طارئة ومؤقتة، ولا يعنى الا بالهم النرجسي والذاتي والجمالي وبنزعة تدميرية وعدمية عمياء، فقد كان فاضل العزاوي شاعراً إنسانياً وكونياً كبيراً، تجد في تجربته الشعرية ملامسة مباشرة للوجع الإنساني في مختلف اشكاله وتنوعاته، وربما وظف الشاعر لوناً من الكوميديا السوداء، وهو يقدم عوالمه المنتهكة والمسحوقة، انسانياً، لكنه ظل قريبا من المحنة الانسانية والكونية، بكل ابعادها وشمولها، في رفض الاستبداد والشمولية، وظل صادقا في التطلع نحو عالم الحرية والبراءة، لذا تجاوب مع حركات الطلاب عام 1968 ومع كل النضالات الجماهيرية في العراق وفي العالم، ومنها التعاطف مع الانتفاضة المسلحة في اهوار جنوب العراق فضلا عن تضامنه مع القضية الفلسطينية ومشروعات الكفاح المسلح التي مثلتها تجربة جيفارا التي الهمت شبان وكتاب وفناني العالم آنذاك .

جزء من دراسة طويلة