«المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية» لنيوتن: الفلسفة لفهم العلم والعالم

Tuesday 12th of February 2019 07:31:30 PM ,

منارات ,

ابراهيم العريس
نعرف جميعاً انه مرة في خريف كل عام، ولأيام عدة متتالية، يجلس كثر من الناس في جميع أنحاء العالم متابعين البرامج التلفزيزنية، مهتمين خصوصاً بمعرفة أسماء الفائزين بجوائز نوبل التي تعتبر أهم الجوائز العالمية التي تمنح لمبدعين في مجالات عدة ومن شتى انحاء العالم. في العادة تثير جائزتا الآداب والسلام أكبر قدر من النقاش والاحتجاج أحياناً،

لكن بقية الجوائز وهي ذات طابع علمي، ندر أن اثارت مثل هذا وبالتحديد لأن معظم الفائزين بها يكونون عادة بعيدين من الأضواء ومن الشهرة. وهم ربما يبقون كذلك بعد فوزهم.

فالعلوم لم تعد تهيّج العواطف، كما انها لم تعد الى حد كبير قضايا ذات طابع فردي. غير ان الوضع لم يكن هكذا في الماضي. ففي نلك الأزمان كان لكل اكتشاف علمي او مجرد تجديد بسيط في مجال العالم حكاية شيّقة وتاريخ تتلقفه الإبداعات الكبرى. وفي هذا السياق بالتحديد، يمكن هنا التوقف عند حكايتين من حكايات العلم تتعلقان بعالم واحد...
تقول الحكاية الأولى إن «اكتشاف» العالم الانكليزي اسحاق نيوتن لقانون الجاذبية، بدأ حين كان جالساً ذات يوم في حديقته يتأمل، تحت أشجار التفاح، في أحوال العلم والعالم، فإذا بتفاحة تسقط من على غصن شجرة. ولمع ذهن العالم الشاب مع سقوطها. قال في نفسه متسائلاً: «لماذا سقطت التفاحة الى أسفل، وليس الى أعلى أو الى اية جهة أخرى؟». وهكذا أعمل الرجل فكره وراح يمعن درساً وحساباً حتى توصل الى ذلك القانون الذي سيجعل من «اكتشافه» واحداً من أكبر العلماء في تاريخ البشرية. أما الحكاية الثانية فتقول ان نيوتن نفسه، إذ كان ذات يوم شتاتي صاح، يتأمل قوس قزح الذي رسمته رطوبة الجو، أدرك بعد تفكير عميق، ونظرة تجريبية، ان «اختلاط ألوان قوس قزح في بعضها بعضاً هو الذي يولد اللون الأبيض»، وهنا أيضاً أوصله ذلك الى استنباط قانون تشتت اللون، خصوصاً بعدما صنع تلك الاسطوانة الملونة التي راح يديرها بسرعة، فإذا بألوانها تختلط منتجة لوناً أبيض. وهذه الاسطوانة عرفت على مدى التاريخ باسم «اسطوانة نيوتن».
واضح ان الخيال يمتزج في هاتين الحكايتين بما نعرفه عن التعقد العلمي. غير ان الخيال الذي استنبطهما، لا يتعارض طبعاً مع حقيقة أن اسحاق نيوتن، تمكن، عبر عمل دؤوب وجهد خارق، من العثور على بعض أهم القوانين العلمية في المجالات الكثيرة التي خاضها، مثل مجال دراسة الضوء والجاذبية، والعلاقة بين الكواكب والأجرام والدينامية وغير ذلك، من أمور خاض فيها ذاك الذي يمكن اليوم زائر جامعة كامبريدج، أن يجد عبارة محفورة على تمثاله تقول انه «تجاوز النوع البشري بقوة فكره».
خاض نيوتن في الكثير من الشؤون العلمية، كما نعرف، وأكد مراراً وتكراراً مركزية الانسان في الكون، وعارض ديكارت في بعض أهم نظرياته، وأكمل عمل كبلر وغاليليو. ووضع الكثير من الكتب والدراسات، ولكن يبقى كتابه «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية»، أهم مؤلفاته، لأنه تمكن من أن يلخص في أجزائه الثلاثة أفكاره وتجاربه الكثيرة، ويثبت الكثير من القوانين والقواعد. صحيح ان معظم هذه كانت معروفة ومدروسة منذ الاغريق، وأن عصر النهضة عاد وطوّرها معقلناً إياها، غير ان جهد نيوتن كان اضافة مهمة اليها، وقوننة لها. ولعلنا لا نكون مبالغين إن قلنا أن واحداً من أهم اسهامات نيوتن كان تبسيط تلك القوانين التي كانت قلة في زمنه والأزمان السابقة عليه قادرة على فهمها. وبالتالي كان المجتمع ككل عاجزاً عن تصور حقيقتها. والعالم هيغنز نفسه، الذي عاصر نيوتن، وكان من ألمع الأذهان في زمنه كان لا يفتأ، قبل شروحات نيوتن، يقول إن نظرية الجاذبية ليست أكثر من هراء.
وضع اسحاق نيوتن كتابه «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية» منتصف ثمانينات القرن السابع عشر، ونشره في لندن في العام 1687، ليعتبر منذ ذلك الحين «واحداً من أكثر الأعمال العلمية عبقرية في التاريخ الانساني». والكتاب، كما أشرنا، يتألف من ثلاثة أجزاء تسبقها مقدمة للمؤلف، يشن فيها هجوماً عنيفاً ضد خواء الدراسات الاكاديمية، مقترحاً انه في كتابه سيطبّق الحسابات الرياضية على دراسة الظواهر الطبيعية. وفي الجزءين الأول والثاني من الكتاب، راح يمعن، على ما يعرض ج. د. برنال صاحب كتاب «العلم في التاريخ»، في تحليل الكثير من الأمور والظواهر والقوانين، الى جانب دراسته المعمقة لقوانين حركة الكواكب. وكان «هدفه الأساس»، وفق برنال «اثبات أو شرح كيف ان الجاذبية الأرضية تستطيع المحافظة على نظام الكون» وهو «أراد ان يوضح ذلك ليس من طريق الفلسفة القديمة ولكن بطريقته الكمية الفيزيائية الجديدة». ويرى برنال ان على نيوتن، للوصول الى ذلك، أن ينجز واجبين: أولهما «هدم كل الأفكار الفلسفية القديمة والحديثة»، وثانيهما «إقرار افكاره ليس فقط لصحتها، ولكن لأنها الأكثر موثوقية في عملية عقلنة الظواهر المختلفة». ويؤكد برنال هنا ان «نظرية الجاذبية الأرضية» التي «اكتشفها» نيوتن و «انجازاته الأخرى في العلوم الفلكية تمثل آخر الحلقات في سيرورة إضفاء الصورة التي رسمها ارسطو للكون، تلك السيرورة التي بدأ كوبرينكوس في رسمها. وهكذا، بعدما كانت الصورة الأولية تحدثنا عن أن الكواكب تتحرك بفضل «محرك الأول أو بالملائكة بأمر من الخالق»، صارت الصورة الجديدة صورة سيرورة «ميكانيكية تصل تبعاً لقوانين طبيعية لا تحتاج الى قوى دائمة ولكن تحتاج الى العناية الإلهية لخلقها ودورانها في أفلاكها». وهكذا تمكن نيوتن في التفاف ذكي من أن يترك «الباب مفتوحاً» لضرورة وجود العناية الإلهية من أجل استقرار النظام الفلكي». ومن الملاحظ ان ذلك الفكر «التصالحي» - وفق بعض الدارسين - جاء في وقت انتهت فيه «المرحلة الهدامة لعصري النهضة والإصلاح، وبدأت مرحلة وفاق وتراضٍ بين الدين والعلم».
هذا بالنسبة الى الفكر الذي يسيطر على الجزءين الأولين من الكتاب، أما في الجزء الثالث فإنه يتوصل الى الاستنتاجات الفلسفية، ومن هنا يسمي الجزء «أنظمة العالم». وفيه يجدد المبادئ الفلسفية الأربعة التي ينبغي ان يستلهمها، في رأيه كل بحث وعمل في مجال العلوم الفيزيائية. وهكذا نجده هنا مُطبّقاً على نظام العالم، المبادئ الفلسفية التي حددها في مقدمة الجزء الأول. وهذا ما يجعل مؤرخي العلم يقولون ان «على رغم ان أعظم اكتشافات نيوتن هو اكتشافه قوانين الجاذبية الأرضية، انطلاقاً من دراسة ديناميكية حركة الكواكب، إلا ان اثره الأكبر في العلم هو في ايجاده الطرق العملية التي استخدمها لتحقيق نتائج. فحساب التفاضل والتكامل، الذي أوصله الى ذروته، أعطى العالم طريقة عملية للانتقال من التغير الكمي للأشياء الى الكم نفسه والعكس بالعكس، كما قدم الطرق الرياضية الدقيقة الموصلة الى حل المسائل الفيزيائية. وهو إذ وضع قوانين الحركة التي لم تربط الحركة بالقوة فقط، بل ربطت القوة بتغير الحركة أيضاً، قضى نهائياً على البديهيات القديمة التي كانت تعتقد ان القوة ضرورية لاستمرار الحركة من دون اعتبار لدور الاحتكاك».

عن الحياة اللندنية