فان كوخ.. الحياة..سيرة حياة ترسم موت الفنان من منظور مختلف

Tuesday 29th of January 2019 07:14:54 PM ,

منارات ,

ترجمة : عباس المفرجي
في اوفر- سير- واز وجوارها، 10 كيلومتر شمال غرب باريس، عدد كبيرمن نسخ لرسوم غير ملوّنة للفنان لها صلة بالقرية، مثبتة على لوحات إعلان، تعرض كم هو حقيقي تماثلها مع الذي لا يزال هناك. هذه المواقع التي تقتفي أثر فان كوخ، تضم الكنيسة، دار البلدية، المقهى حيث اقام فنسنت الشهرين الأخيرين من حياته، وحقل الذرة بجانب المقبرة التي دُفِن فيها واخوه تيو جنبا الى جنب.

نحو قرن من الزمن، أخذت قصة النهاية شكل الأقاويل، هي الأكثر تصديقا لكونها مأساة مقدّمة في هذه الرسوم الصادرة من القلب. الى هناك يسير كيرك دوغلاس، في فلم فنسنت مينيللي المقتبس عن رواية"الشهوة للحياة"، نصف ذهنه مع الإبداع المجنون والآخر مخبول بالغربان. تدوّي طلقة رصاصة. يتعثر راجعا الى حجرته، يستلقي على الفراش، يدخن غليونه وبعد يوم أو يومين يموت.
من المتوقع، الآن، تصويب تام : في مغامرة إستغرقت عشر سنوات، وإنهماك فِرَق من الباحثين والمترجمين عن اللغة الهولندية، جمع ستيفن نايفه وغريغوري وايت سميث ما يبلغ مجلدا، رفيقا لكتابهما العظيم"جاكسون بولاك : ملحمة امريكية"(1989) ــ نفس الطول (أكثر من 900 صفحة) ومرهق في الطموح على حد سواء. يصف الشريكان فان كوخ بـ ((منظم بالفطرة))، وفي الحق، هما منظمان أيضا. ((المسيرة التي تقاذفتها العواصف)) لفنسنت، كما يريان هما، كانت سريعة ومبتسرة، لكن ذلك، كما يبدو، دفعهم الى التعديل من خلال تلمّس طريقهما عبْرها مع الإجتهاد طويل النفس. عَمَد المؤلفان بحكمة، كي يجنبا الكتاب الغرق في الهوامش، الى إيداع هذه الحواشي الى موقع على الانترنت.
إضافة الى جمع دراسات قرن عن فان كوخ، فإن نايفه وسميث أغنا الحكاية ببحوث عن المؤثرات الإجتماعية، الأدبية والتصويرية، وفوق كل شيء خلفية بلد الفنان. العائلة هي مفتاح الرموز. على وجه الخصوص، كل شيء إبتلى به فنسنت يوما، كان راجعا في الماضي الى أب وأم متسلطان والى ضغط التنشئة في بيت قس.
المزاجي، المحب للكتب، الميّال الى الحماسة المفاجئة ونوبات من خداع الذات، لم يبدأ حياته كبالغ بداية صحيحة. أولا، بدأ العمل بنشاط للإفادة من علاقات الأسرة، لكن فترة من العمل لدى العم سنت، تاجر فن في لاهاي وباريس ولندن، لم تحقق أي نجاح، كما لم يكن لدى نائب الادميرال العم فان كوخ شيئا يقدمه للفتى الذي لا يفقه العمل البحري. مستهلا عمله كمعلم، قضى بضعة شهور في مدرسة نيكولاس نيكليبي في رامسغيت. ثم ملهما بـ"رحلة الحجاج"تحوّل الى إنجيلي لكنه فقد الخريطة.
من وجهة نظر العائلة، كان فنسنت مستحيلا، مضاهيا، في أي لحظة"الإبن الضال"، أو جامعا أعشاش الطيور، أو متهربا من العمل ليكرّس نفسه للفقر أو يجعل من عاهرة حبلى ويهدد بأنه سيتزوجها. ((إنها تعرف كيف تهجرني،)) كتبَ، عارفا تماما أن كل حركة مغالية يقوم بها تغيظ الأسرة. ومن ثم، كان هناك الولوع المَرَضي بالرسم.
كان في نهاية العشرينات، عندما وهب نفسه للفن، بما وصفه هو نفسه ((هوى يتفاقم بالحساسية،)) وبدأ بمطالبه المسرفة من أخيه الأصغر تيو، الذي كان حينها (بفضل العم سنت) تاجرا ناشئا. كان فنسنت يؤكد بأنه زارع جيد يحتاج، الآن، الى بذور. ((أنا أحرث في قماشة لوحتي كما يفعلون هم في حقولهم،)) كتب في رسائله الموجهة الى تيو، التي هي فريدة في تاريخ الفن ؛ رسائله الحافلة بالعوز، تقارب الألف، كما عدد لوحاته التي أنتجها في أقل من عشر سنوات، وتقريبا بعدد تخطيطاته. كتبها في الليل كي يصفّي ذهنه من النوبات المرضية والإنهاك، وكانت في الجوهر تحوي مطالبه، نقودا ومواد رسم.
((إمتزجت الإستعارات وتشكّلت تحت وابل من حماسته،)) يقول المؤلفان. ذلك لأنه كان معتمدا كثيرا على إقناع أخيه بمهاراته، الذي، رغم إخلاصه وتفانيه، لم يستطع ان يعوّل عليه الى الأبد. عيشهما معا في باريس لمدة سنتين برهن على المحاولات الكافية التي بذلها تيو، وحين رحل فنسنت الى آرل، صار بمقدور تيو التفكير بنفسه قليلا. ((لم يستبق على شيء وعلى أحد،)) كما قال لخطيبته جو بونجيه.
بالنسبة لفنسنت، وهو مفتون بحلم تأسيس جماعة فنية صغيرة في آرل، أخذ الواقع شكل غوغان، متملقا الإنضمام اليه وإن بغير قناعة بسبب أزمة الكلام التي كان معرّضا لها ليل نهار. ((بين فنسنت وغوغان، أحدهما بركان بكل معنى الكلمة، والآخر مهتاج عقليا، صراع ضار كان يهيأ نفسه،)) يكتب المؤلفان. ما حدث بعدئذ ــ مفارقة غوغان وحادثة بتر فلقة الأذن ــ كان إنهيارا. ((كل ما يمكن للمرء أن يأمله هو أن تكون معاناته قصيرة،)) قال تيو الى جو، بعد عودته من زيارة فنسنت في المستشفى.
الإنطباع الأول لجو بونجيه عن أخي زوجها، حين إلتقته في باريس بعد سنة ونصف، أثار دهشتها. رأت ((رجلا قويا عريض المنكبين، بوجه مبتسم يطفح بالعافية، ومظهر موطد العزم)). هل كان هذا نفس الرجل الذي تمتلئ رسائله بالهواجس، وصوره معلقة في بيتها، والذي كانت حُذرت من مسلكه الفظ؟ بعد عشرة أسابيع مات فنسنت. يعرف الجميع أنه اطلق النار على نفسه في حقل القمح، وقد يكون بسبب معاناته من السفلس، الصرع، الجنون، أو لأي سبب دفعه لفعل ذلك.
على فراش موته، قيل ان فان كوخ قال : ((إنه أنا الذي أردت قتل نفسي.)) كم كان رواقيا، يحْرف الشبهات. جبريته، صبره، يمكن أن يعدّا شيئا شبيها بالإستشهاد.
أيقونة فان كوخ ــ الزارع، الحارث، في البحر المدوّم، في حقول المحيط ــ كانت موضوعة في قافية ووزن شعري. ((أنا أرسم بقلبي،)) قال. ((ضربة الفرشاة تعمل مثل الساعة.)) غالبا ما يمكنك عدّها : أربع أوخمس ضربات في كل مرة تنزل على قماشة اللوحة أو الورقة تشبه دقات القلب أو نقرات الطبل.