علي الشوك.. غياب مرحلة مضيئة

Wednesday 16th of January 2019 07:31:36 PM ,

عراقيون ,

علي حسين
عندما أصدر علي الشوك كتابه "الأُطروحة الفنطازيّة" العام 1970، كان الأمر أشبه بحدث ثقافي غريب:"كنتُ أُريد أن أكتب اللامكتوب"هكذا يخبرنا في مذكراته التي اختار لها اسم"الكتابة والحياة"الصادرة عن دار المدى. أوراق يأخذنا صاحبها للغوص معه في مرحلة مهمة من تاريخنا السياسي والثقافي، بدأت في واحدة من أجمل مناطق بغداد"كرادة مريم"العام 1930،

ومرت بمحطات كان فيها مصراً على أن يستبدل دراسة الهندسة المعمارية، بالرياضيات التي عشقها وغيّرت مصيره بالكامل ليتّجه إلى مهنة واحدة هي الكتابة:"في يوم من أيام 1947، اتخذتُ قراراً في أن أصبح كاتباً! أما الرياضيات التي كنتُ أدرسها، فستكون نزهتي في حياتي».
في"الكتابة والحياة"نحن أمام شخصية تشبه حكيماً قادماً من زمن مختلف، يخشى على بلاده التي غادرها مجبراً بعد تجربة مريرة مع السجن والتعذيب، ويخفي خشيته بنوبات من الحنين والآسى أحياناً، على زمن جعل من العراق مجرد ذكرى لحلم يريد له البعض أن يمرّ سريعاً.
لم يشبه علي الشوك في الثقافة العراقية أحداً. عمل في أقصى غرائب الثقافة وعاش حالماً باليوتوبيا التي قرر مع أصدقائه ذات يوم أن يقيموا نموذجاً لها في واحدة من مناطق بغداد، بعيداً عن عيون السلطة. رائد بلا منازع في فن الكتابة الأدبية، وخبير بدقائق اللغة، مُلمّ بقواعدها، سابر لأغوار جملها ومفرداتها وحروفها وكلماتها جميعا.
ظل يؤمن بأن الثقافة يمكنها أن تسرّب شعاع نور للمحبطين وللحالمين، ولهذا انتمى في شبابه للحزب الشيوعي، الذي وجد أفكاره مغرية، لأنها ببساطة تعد بحلّ التناقضات الطبقية، وتساوي بين الناس، لا أحد يستغل الآخر، هذا هو الحلم الباقي حتى بعد انهيار البلدان الاشتراكية.
في المذكرات نحن أمام كاتب يلاحقه شعور بالذوبان في الجسد الكبير للعراق، عبر شبكة مختارة من أصدقاء، وأحبّاء، لهم في مذكراته مكان متميز.
أعدت مع"الكتابة والحياة"قراءة مرحلة مهمة من تاريخنا، وكلما خيّل إليّ أنني أعرف علي الشوك من خلال كتبه، أكتشف وأنا أغوص في المذكرات أنني لا أعرفه جيداً. لأنّ العشاق الكبار أمثاله لا يوجدون لحظة واحدة خارج الكتابة والحياة.
كان علي الشوك مغرماً بما يقدمه للقراء، سواء في مجال العلوم، او الرياضيات او الموسيقى التي يعشقها حد الوله، او الادب ومغامرات كتابه الكبار. يعتقد ان الفن والثقافة سيصنعان بلداً يكون ملكاً للجميع، ومجتمعاً آمناً لا تقيد حركته خطب وشعارات ثورية، ولا يحرس استقراره ساسة يتربصون به كل ليلة... عاش علي الشوك أسير أحلامه، متنقلاً في كل مجالات المعرفة، من الدادائية الى الاطروحة الفنطازية، مرور بالموسيقى الالكترونية وجديد الثورة العلمية متأملا في الفيزياء، باحثا في اسرار الكلمات، منقبا عن الاساطير التي ظلت ترافق البشرية، ليضع مرساته الاخيرة مع الرواية التي ظلت عشقه الاول منذ ان شارك اصدقاء له بترجمة ملحمة شولوخوف"الدون الهادىء»، ليصدر عددا من الروايات شكلت بمجموعها سيرة ذاتية لصاحبها، وسيرة ثقافية للعراق ابتداءً من فترة الخمسينيات ومروراً بالستينيات وحتى نهاية الثمانينيات، الا ان النهاية المؤلمة هي رحيله على سرير المرض غريبا يئن على بلاد تنكر أبناءها.
يكتب غابريل غارسيا ماركيز: أن المتفردين لا يرحلون كأفراد.. يرحلون، كمرحلة بصموا على بدايتها وصار رحيلهم خاتمتها.