من مذكرات الدكتور كمال السامرائي..دخولي إلى كلية الطب عام 1933

Wednesday 9th of January 2019 07:06:06 PM ,

عراقيون ,

اعداد : عراقيون
كانت دروس السنة الاولى اربعة هي علم التشريح بقسميه النظري والعملي، والكيمياء، والفيزياء وعلم الاحياء. وتكتمل دروس العلوم الثلاثة الاخيرة في السنة الاولى، اما موضوع التشريح فتستمر دراسته حتى نهاية السنة الثانية، الى جانب دروس هذه السنة.
وكانت حصص الدروس تبدأ على مدى السنة في الساعة الثامنة صباحا وحتى الواحدة ظهرا، ثم تليها بعد فرصة الغداء دروس عملية في التشريح فيما بين الساعة الثانية والرابعة.

واول درس تلقيته في الكلية كان في التشريح النظري، وقد دخل الطلاب القاعة المتدرجة المخصصة لهذا الموضوع، وكان المحاضر الاستاذ هولمز. فاخذت مكاني على احد مقاعدها التي صممت على شكل نصف دائري مركزها مكان الاستاذ المحاضر. وحين استقررت في مكاني رحت اداور رأسي لأتطلع الى ما في القاعة، فرأيت جسم انسان ممددا على طاولة خزفية بيضاء لماعة. وكان جسم هذا الانسان مجعدا وجافا وبلون الجلود اليابسة، فأثار مظهره في التقزز والرعب، اذ لم ار قبل ذلك انسانا ميتا بهذا الشكل واللون، فقد جال في خاطري احتمال ان تكون هذه الجثة قد سرقت من احد القبور كما نسمع ونقرأ مثل ذلك في القصص الشعبية. وما كنت اعلم انها جثة احد المتوفين في المستشفى الملكي ممن اهملهم ذووهم او نسوهم بعد دخولهم المستشفى. وكانت جثة هذا المتوفى قد استفرغ دمها من اوعيته ودفع في مكانه مادة كيمياوية خاصة لتمنع التعفن في بدنه، ثم اغرقت في حوض ملئ بمحلول (الفورمالين) فاستحضرت بعد كل ذلك الى قاعة الدرس.
وقد تحاشيت النظر الى تلك الجثة على طول درس ذلك اليوم، وصرت ارفع رأسي عاليا حتى لا تقع في مستوى نظري. ودخل الاستاذ هولمز القاعة وهو يرتدي فوق ملابسه (الروب) الجامعي فأكسبه ذلك طولا اضافيا وهيبة. وشرع يتلو محاضرته بلهجة اسكتلندية لم يكن أكثرها مفهوما بالنسبة لي، ولولا انه كان ينقل طرف العصا الطويلة التي بيده بين اقسام الجثة لما عرفت انه يحاضر في جسم هذا الميت الجاف. كما كان الفراش (شابا) يقف وهو عار من كل لباس الا من سروال صغير وقصير لستر عورته، فيستعين هولمز بالاشارة الى معالم جسمه العضلية التي يتكلم عنها في محاضرته. وحين لاحظت بعض اترابي منهمكين في تدوين ما يسمعونه من المحاضرة في دفاترهم تملكني خوف مفاجئ من موضوع الطب عموما، لا من موضوع التشريح وحده واعتقدت بأنني لا اصلح لدراسته كالآخرين من الطلاب الذين ظهروا لي انهم يفهمون هذه المحاضرة، وينقلون مختصرها الى دفاترهم. وانتظرت بفارغ الصبر انتهاء المحاضرة لأرى فيما اذا كانت الكتب في التشريح ستساعدني في تفهم ما سمعته من المحاضر.
وحين خرجنا من القاعة بعد انتهاء الدرس تسللت بخفة من جانب الطاولة البيضاء لأتجنب رؤية الميت المسجى على سطحها وقد ملأ قلبي خوفا ورعبا. وما كدت اخرج من قاعة المحاضرة حتى ركبني هم حين تذكرت ان في جدول الدروس في اليوم نفسه حصة في التشريح العملي ما بين الساعة الثانية والرابعة مساءا.

جثة عبد الكريم قاسم
لقد شاهدت انا وزميلي الدكتور اسماعيل ناجي الجثث فوق المشرحة (بعد الانقلاب على قاسم) وكان عبد الكريم قاسم يبدو قصيراً ونحن ننظر اليه وكان شاحب الوجه شحوباً مريعاَ اما ملابسه فكانت خالية من بقع الدم الا من ثلاث بقع صغيرة في قمصلته العسكرية عند الصدر وكانت ملابسه نظيفة حتى ان حذاءه كان لونه قهوائياً يلمع اما الآخرون فكانت وجوهم مهمشة لا يعرف اصحابها.
.
الجمعية الطبية البغدادية
اسس لاطباء بغداد سنة 1920 جمعية طبية باسم الجمعية الطبية البغدادية وقد نسبوها الى بغداد لان اعضاؤها كانوا جميعا من بغداد حصرا وهم خليط من العراقيين الذين درسوا الطب في استنبول او في بيروت ومن الاطباء الاتراك الذين تخلفوا عن الالتحاق بالجيش التركي الذي انسحب من العراق بعد موقعة الكوت الشهيرة سنة 1917 كما كان بينهم تسعة من البريطانيين الذين عملوا في جيش الجنرال مود يوم دخل بغداد في تلك السنة ومنهم الدكتور دبليو دنلوب والدكتور جي سبنسر والدكتور بي هيكز والدكتور هاري سندرسن والدكتور اي نورمن والدكتور جي ودمن والدكتور ايل براهام والدكتور جي هالينان كما كان من الاطباء العرب طبيب الملك فيصل الاول الدكتور امين المعلوف والدكتور حنا خياط والدكتور صائب شوكة والدكتور فائق شاكر والدكتور سامي شوكة والدكتور افلاطون والدكتور اليهودي ساموئيل اداتو وسامي سليمان ومحمد كاني ومظفر بك والاطباء الاربعة الاخيرون من الاتراك وحين اجتمع الاطباء لاختيار اللجنة الادارية واللجنة التنفيذية للجمعية الطبية البغدادية تم اختيار الدكتور حنا خياط رئيسا لها ومفتش الصحة العام الدكتور هالينن نائبا للرئيس والدكتور صائب شوكة سكرتيرا والدكتور سامي شوكة امينا للصندوق ومستر كرايز امينا لمكتبة الجمعية والدكتور هيكمز والدكتور براهام والدكتور معلوف.
والدكتور الخياط من قدامى اطباء العراق ذو ثقافة فرنسية وقد عمل زهاء عشرين سنة في الحكومة العثمانية قبل التحاقه بركب الامير فيصل بن الحسين في حكومته المؤقتة في دمشق وكان لكليهما لحية كثة تغطي خديهما فقرمطا شعرها في ساعة واحدة ولدى حلاق واحد قبل ان يخرج الفرنسيون فيصلا بالقوة من سوريا وصحب الدكتور الخياط الامير فيصلا الى العراق حين استدعي ليتوج ملكا عليه.اما هالينان فقد دخل العراق مع الجيش البريطاني في سنة 1920 وعين مفتشا عاما للشؤون الصحية في اليوم الاول من شهر نيسان لسنة 1922 وهو من الاطباء الانكليز الذين يذكرون بخير في العراق ويعبر من بين الذين الحوا على استحداث كلية طب في العراق.
اما الدكتور صائب شوكة سكرتير الجمعية الطبية فلقد عاد من استانبول سنة 1920 وعمل جراحا في المستشفى العمومي الجديد (new general hospital) الذي شيده الانكليزو خصيصا لرعاياهم من الهنود ولاهالي بغداد ايضا كان بناؤه من اللبن والطين والقصب وجذوع النخل وموقعه على يمين مدخل الطريق المترب المؤدي الى الاعظمية وكان يراس هذه المستشفى الدكتور دنلوب ومن الذين عملوا فيه ايضا الملا خضر وهو شخص بدين من جانب الكرخ وقد انتقل مع الدكتور صائب الى المستشفى الملكي بعد ان غلق المستشفى العمومي الجديد وصار بعد ذلك من البارزين الذين عملوا في دائرة التشريح.

الجمعية الطبية البغدادية تقترح تاسيس كلية طب
كان من اعمال الجمعية الطبية البغدادية القاء محاضرات تثقيفية في الطب ومعالجة المشكلات الصحية في العراق.. على اطباء بغدادج الذين لم يتجاوز عددهم اربعين طبيبا بما فيهم البريطانيون الذين يؤلفون الاكثرية وفي عصر يوم من ايلول سنة 1921 عقدت الجمعية اجتماعا في احدى قاعات المستشفى بالكرخ تلى فيه مفتش الصحة العام الدكتور هالينان تقريره عن تفشي الامراض بين العراقيين والنقص الخطير في عدد الاطباء العاملين في العراق الذي لمسه في جولته التفتيشية في ألوية العراق وكان عدد الاطباء العراقيين تسعة فقط ومن البريطانيين والهنود والايرانيون والاتراك والسوريين زهاء مائة وسبعين طبيبا وفتح هالينان الباب لمناقشة علاج هذه الحالة المؤسفة وعرضت لذلك اراء ومقترحات كان اكثرها منصبا على استقدام اطباء من الاقطار المجاورة فنهض الميجر هيكر المسؤول عن الامراض السارية بمديرية الصحة العامة وتلا عرضا وافيا عن حالة العراق الصحية بضرورة احداث مدرسة لتعليم الطب في العراق لتزويده اطباء من اهل هذا البلد واستحسن المستمعون رايه وصفقوا له استحجسانا لما جاء به من راي وحسن نية ونشرت الصحف وفي مقدمتها جدريدة العراق محضر هذا الاجتماع والفكرة التي طرحها الدكتور هيكز بتفصيل صحفي منمق وكل من المؤيدين لحماس للفكرة الدكتور سامي شوكة والدكتور امين المعلوف الي كان يؤئذ مدير الأمور طبابة الجيش العراقي وكان مما قاله ان تاسيس مدرسة لتعليم الطب في القطر ضرب من الاستقلال الاقتصادي والمهني لا يقل اهمية عن الاقتصاد السياسي فمن يدرك هذه الحقيقة لابد ان يؤيد تاسيس هذه الكلية.

مع الاميرة راجحة
كنت الطبيب المولد للاميرة راجحة بنت الملك فيصل الاول ملك العراق اثناء حملها الاول من زوجها عبد الجبار محمود من طياري القوة الجوية العراقية , وذي وسامة ورجولية وخلق دمت.. وقد احال نفسه على التقاعد بطلب منه بعد ايام قليلة من زواجه من الاميرة راجحة)..
وفي مساء يوم 20 حزيران سنة 1940 , طلبني زوجها عبد الجبار بالتلفون لازورها , وافهمني الموقف فجلبت معي ما يلزم ودخلت مخدع الاميرة في بيتها المتواضع المأجور في الكرادة الشرقية قسم داخل , وكانت الى جانبها عمتها الاميرة صالحة اخت الملك فيصل الاول , وسيدة اخرى هي اخت زوجها عبد الجبار , ومن الفحوص المتعاقبة اثر اعراض المخاض وقد جاوز الليل منتصفه , ادركت انني بحاجة الى طبيب مخدر يساعدني في التخدير , ولابد أن اخبر طبيب العائلة الهاشمية سندرسن عن قراري بتوليد الاميرة بالملقط , ولابد لي ان اخبر الاميرة بذلك... فقالت لي بامتعاض (( ابعد عني هذا الرجل يادكتور فلا اريد ان اره!!))..
فقلت اذن ساكتفي باخباره , قالت (( ولا ذلك فانا اقرر مصيري بنفسي , وعمتي و زوجي شاهدان بذلك)).. وحاولت ان اتصل بطبيب اخر وقد اقترب الفجر , فاخفقت ولم يكن هناك اطباء للتخدير , ولما اشتدت بها أللام الطلق واوضحت لها ضرورة استدعاء سندرسن , رضيت على مضض , فاتصلت به فجرا في الخامسة صباحا و اوضحت له الموقف فقال , ساحضر حالا.