فريد الاطرش حامل لواء الاغنية الشعبية العربية

Tuesday 1st of January 2019 08:35:32 PM ,

منارات ,

جميل بشير
ومع بداية الربيع نتذكر الزمن الجميل حيث عبير الموسيقى الراقية والفن والابداع كان العنوان.. نتذكر ايام الشرق الموسيقي الجميل حيث كانت ((الاطلال))، ((ليالي الانس))، ((الجندول))، ((الربيع))، ((في يوم من الايام))، ((عتاب))، ((أخذوا الريح وأخذوا الليل))، ((اوعدك))، ((الوداع))، على سبيل المثال لا الحصر، كانت تملأ سماء الشرق بشذى الالق والدهشة،

ومرّ هذا الربيع وكانت اسعد لحظة تمر في حياتي هي دراسة اكاديمية علمية نادرة حصلت عليها وكنت ألتهم فيها النقطة والحرف والكلمة والجملة لعمق ما جاء فيها والتي تؤكد علمياً بأن الخالد فريد الاطرش كان الجسر الذي حمل الاغنية الشعبية وارتقى بها وخلّدها، وقيمة هذه الدراسة التي وضعها الموسيقار الكبير العراقي جميل بشير، انها شفافة ومنصفة لكل كبار ذلك الزمن مع التحليل الذي يجب ان يزيّن كل المكتبات الموسيقية العربية.. وحفاظاً على عذرية الكلام واهميته سأنقل حرفياً ما جاء في مقالته والتي من الحرام ألاّ نتركها لأجيال آتية.
ان قالب فني له لازمة موسيقية في الغالب تكون واحدة ثم يعقبها المذهب الغنائي والغصن الأول وعودة للمذهب. ثم الغصن الثاني وعودة للمذهب يصاغ المذهب عادة من مقام تكون الأغصان ايضاً من المقام نفسه ولضرورات التلوين اللحني يلجأ الملحن إلى تغيير مقامات الأغصان عن مقام المذهب الاصلي دون الخروج على القالبية المقامية للمذهب. لا يمكن القول أن الأغنية الشعبية انطلقت من فريد الأطرش فلقد سبقه في هذا المضمار سيد درويش بتلاحينه الرائعة وعظمة الطاقة الإبداعية التي صاغ بها أغانيه الشعبية، وغير أنه يمكن التحديد تماماً أن فريد الأطرش حقّق وحدة الانسجام النغمي العربي في الأغنية الشعبية عن طريق استخدام آفاق مقامية متنوعة لبيئات عربية متعددة، ومن المؤكد أن فريد الأطرش استمدّ خلاصات تجاربه الفنية في الالحان الشعبية من محتوى روحي اعتماداً على طاقاته الداخلية فهي نتاج لمزاياه وسجاياه وتجاربه. والمخطط العضوي لفن الأطرش الشعبي يستمد أنواره من التأمل الباطني الخازن لمعرفة عميقة بالأنغام العربية المتعددة مصرية، سورية، لبنانية، عراقية، سعودية، سودانية، تونسية، إلى آخره مع إضفاء طابع عصري يتآلف ايجابياً مع اتجاهات الأسماع الفنية، إذا ما وضعنا في حسابنا أن فريد الأطرش كان يجيد الغناء وفقاً للنص وهو عازف نادر على آلة العود وآلات عربية وأجنبية أخرى منها (البيانو) وهاضم كبير للأنغام البدوية والريفية ومستوعب للأصول المقامية العربية والشرقية وصاحب صوت رخيم ممتد ومتنوع في المسافات، له قدرة عميقة في مجال الإبحار الصوتي كما يتمتع بملكة عجيبة على الصعود والهبوط، وعلى الرغم من أن لبنان وسوريا كانتا معقلاً للموسيقى الشعبية، إلاّ أن مصر نجحت في تحوير هذه الاهمية وجعلها تتّسم بالطابع المصري البالغ الشفافية، وهذا ما قام على جهود كبار من الملحنين، سيد درويش (طلعت يا محلا نورها، زوروني كل سنة مرة، الحلوة دي قامت) زكريا احمد (يا صلاة الزين، غني لي شوي شوي، القطن) فريد الأطرش (أحبابنا يا عين، تطلع يا قمر بالّيل، ياللا توكلنا على الله، يابنت بلدي).
هؤلاء كرسوا جزءاً كبيراً من فنهم لهذا الجانب أكثر من غيرهم من الملحنين الكبار الآخرين. منهم محمد عبد الوهاب (ياللي زرعتوا البرتقال، هليت يا ربيع) فالموسيقار محمد عبدالوهاب بثقله الفني اللامحدود لم يعط للأغنية الشعبية من تجليات عبقرية مثلما أعطى لفنون الغناء الأخرى فعبد الوهاب لم يجد في الأغنية الشعبية ارضية حقيقية لانطلاق اهتماماته الرئيسة الواسعة في مجال التجديد الحي لملامح الفن الموسيقي العربي، بل هو حتى في كتابته لألحان الأغنية طلع علينا بمزج فني لخطوط لحنية متوازنة بين عمارة الفن القالبـي للأغنية الشعبية وبين الطابع اللوني والميلودي لفن الطقطوقة الممتلىء الفياض فإن عبدالوهاب يريد لفنه كتابة موسيقية معقدة وبأنغام رحيبة وحوار مقامي أخّاذ ذي حدوسات لونية فسيحة، وتلك لا يوفرها فن الأغنية الشعبية لهذا لم يطل الوقوف عند هذا النوع من التأليف واتجه الى طريقه المعروف، أما الموسيقار رياض السنباطي، فإنه اكتفى بألحان محدودة في مجال الأغنية الشعبية لعل أبرزها ((على بلدي المحبوب ودّينـي)) التي أدتّها سيدة الغناء العربي أم كلثوم، إذ اتجه السنباطي إلى تطوير القالب الفني للقصيدة الكلاسيكية ويأتي دور الموسيقار فريد الاطرش في تحليل
من هنا يتضح عظم الدور الذي ألقي على عاتق فريد الأطرش، ويستطيع المتتبع الحاذق الملمّ بتفاصيل الاساليب الموسيقية العربية أن يكشف في موسيقى الاطرش جميع التغيرات التي طرأت على فن تلحين الأغنية الشعبية، فقد عرف هذا الفنان الكبير، كيف يوفق بين فن البيئات العربية المتنوعة في التصميم والإنشاء وميل الحسّ الشرقي الى الميلوديا، كما انه استطاع أن يقبض على خصائص التكوين الأسلوبي لقالب ((الموال)) ومزجه بطابع الأغنية كما في اغنية ((يا ديرتي ما لك علينا لوم)) التي أدتها أسمهان بسحر فـيّاض وعبر الفترة التاريخية التي ملأها فن فريد الأطرش، فقد أنتج لنا هذا الموسيقار الكثير من الأغاني الشعبية، التي شغلت الناس وملأت حياتهم وقد ادخل الإيقاعات السريعة، الحادة والعنيفة في بعض الأحيان على الأغنية الشعبية مازجاً على نحو مبهر الانغام العربية مضيفاً عليها الطابع الفني لشخصيته، مانحاً اياها لونية جميلة من الوحدة الفنية ((ليه تشتكي أرضنا والنيل ساقيها، جبر الخواطر على الله، الحياة حلوة، هلّ هلال العيد، من الموسكي لسوق الحميدية، حبيبة أمها، يا دلع، تؤمر على الراس وعلى العين)) وكثير غيرها. والتي تحمل في خصائصها التطور التدريجي المشروع محافظاً على خاصّتين أساسيتين، نقاء الأسلوب، والجمع الصحيح بين الشكل الغربي والمضمون المحلي، حاول فريد الأطرش في الأغنية الشعبية أن يعتمد على الرحابة النغمية للمقام الأصلي الذي يلحن منه الاغنية وذلك بجمعها الفذ بين العذوبة اللامحدودة والتوقد الفياض الخازن للحدس الجمالي، عندما يطلق صوته العريض في موال يقطع به سير الأغنية الشعبية ليبلغ فيه جدية التأملات الوجدانية العميقة للاسماع، ثم يعود الى لحن الاغنية، اذ يختار لمواله مقاماً قريباً من المقام الأصلي. أما الإيقاعات المتنوعة التي استخدمها الأطرش لتآليفه اللحنية الشعبية فهي صورة للاستحداث الذي أراده لفن الاغنية الشعبية التي اكتست بهذه الإيقاعات بالروح الحية الطريقة المدهشة. ورغم أن هذه الإيقاعات كان بعضها غريباً، فإن هذا اللون الغربي لم يؤثر على عراقة الأصالة الشرقية للأغنية الشعبية.
ويمكن للاسماع أن تحس فعلاً في اغنية شعبية واحدة مثل ((يللا توكلنا على الله)) بالتناسق والتآلف والرشاقة في الذوق الفني والصقل النغمي البينوي مع الاجادة الفائقة في استخدام الالوان!! وفريد الاطرش اتجه الى مصادر متطوّرة وغنيّة من إيقاعات وقوالب موسيقية أوروبية، لم تكن متداولة بالمعنى المعرفي في الموسيقى العربية، فلم يهدف فريد الاطرش الى ادراج نغمة شعبية في أعماله الكلاسيكية الكبرى إلا تدعيماً لطرائقها التلحينية ذات الخصائص الفياضة بالتفرد، حيث أصبحت الكلمات والجمل تترجم الى الموسيقى ترجمة دقيقة اعتماداً على تأثيرات وإيقاع ((السيراند)) الجياش والعاطفي وبطريقة أصيلة وغنية بالتلوين والإلقاء والنبرة المعروفة ضمن القوالب الأوروبية التي أدرجها فريد الأطرش في مونولوج ((أفوت عليك بعد نص الليل)) مع خطوط زاخرة بالظلال اللحنية الرقيقة التي تتحلّق بفرادة تتعالى بموهبة أصيلة على مستوى الاقتباس والنقل إلى مستوى الخلق والمصانعة، ذلك أن دراسات فريد الاطرش الفنية في المعاهد الموسيقية الأجنبية خلقت عنده نزوعاً نحو هذه الموسيقى، كانت الدليل العظيم لتجاربه الناجحة والمؤثرة في أعماله الموسيقية التي ما زالت تحتل أسماعنا)).
ومن خلال ما تقدم تتضح عراقة الفهم العميق لدور الأنغام الشعبية في أعمال فريد الأطرش، التي توفرت على تحويلات شعبية سامية مع اتصافها بالنضارة والبهجة، فهو في هذا يمكننا الادعاء بأن أحداً من الفنانين الكبار لم يضاهه في لونه الشعبي، فإن الغنى النغمي والمقامي الذي يحتويه لم يجهر به كاملاً، اذ سد المرض عليه الكثير من مساعي موهبته الفنية، في حين أن فريد الأطرش أراد استجماع كل قدراته الفنية، غير أن ما تركه لنا يبقى شاهداً على ثراء الآفاق الروحية لهذا الفنان العظيم)).
عن موقع زرياب الموسيقي