من روّاد المجدّدين في الموسيقى العربية وفي الأغنية الشعبية

Tuesday 1st of January 2019 08:30:14 PM ,

منارات ,

سحر طه
فنانة راحلة
كان مدرج «بيسين عاليه"يغص بالجمهور من عشاق الفنان الكبير فريد الأطرش، مساء الحادي والثلاثين من آب عام 1974، في حفلة قدّر لها أن تكون موعداً للوداع، من دون ان يعلم احد، حتى فريد نفسه، الذي رحل بعد اربعة أشهر، في 26 كانون الاول من العام نفسه في «مستشفى الحايك» في سن الفيل.

أجواء الحفلة لا تزال راسخة في قلوب من حضرها آنذاك، اذ يتحدثون عنها او يكتبون بشغف ودمعة وحسرة على خسارة فنان قدير مثل فريد الاطرش الذي يعد علامة مميزة وفارقة في الموسيقى والغناء والعزف والتفاني من اجل الفن حتى الرمق الاخير. وبعد اربعين عاماً على رحيله يتذكر عشاقه، عندما بدأ القسم الثاني من الحفلة، هطلت الامطار بغزارة مما اضطر الفنان للتوقف اكثر من ساعة، في حين بقي الجمهور في انتظاره حتى توقفت الامطار وعاد فريد الى المسرح غناهم وأمتعهم حتى الصباح.
فريد الأطرش فنان شامل، امتلك قدرات فنية وإبداعية عدة، فهو ملحن قدير ومطرب متمكن، وعازف عود اثر في أجيال من بعده وممثل تراجيدي وكوميدي. محب للحياة وعاشق للفن، لكن شاء القدر ان يحيا العشرين سنة الاخيرة من حياته في صراع ما بينه وبين قلبه، لا ندري من الذي اتعب الاخر، هل تفانيه في فنه هو الذي أتعب قلبه، أم قلبه هو الذي أتعبه. خاصة خسارته الكبيرة لشقيقته الفنانة اسمهان في العام 1944 وهما في قمة نجاحهما الفني المشترك، من هنا بدأت متاعبه الصحية مع القلب، عاش او تعايش مع تعب قلبه، فكان تارة يغلب المرض واخرى ينال منه الاخير، حتى خانه القلب وكانت النهاية في 26 /12/1974.
تناول الكثيرون فريد الأطرش وفنه، ورغم ذلك لم ينل هذا الموسيقي القدير كل حقه من الدراسة والتحقيق والتحليل العلمي المنهجي المعمق إلا فيما ندر. لقد نال حباً شعبياً في كل شبر من المنطقة العربية. فهو لطالما انتج اعمالاً طاولت شرائح متنوعة من المجتمع العربي، فلحن وغنى الغناء المدني المتقن واجمل القصائد «عش أنت»، «أضنيتني بالهجر» وغيرها، وكتب موسيقى تحاكي الفن الكلاسيكي الغربي او على غرار القوالب الغربية مثل «موسيقى مقدمة اغنية لحن الخلود»، ومن جهة اخرى لحن وغنى اجمل الالحان الشعبية التي استقى نكهتها من البيئات العربية أولاها الشامية وصولا ًالى البيئة الشعبية المصرية.
زياراتي لمصر قبل بدء الثورة، كانت عديدة ولأكثر من مرة في السنة. لاحظت أني عندما أستقل التاكسي، غالباً ما أسمع صوت فريد الأطرش يصدح عبر الراديو. في إحدى المرات سألت السائق «البسيط"الذي كان يقلني من الزمالك الى المعادي، وكان يستمع الى أغنية «سألني الليل» قلت: بتحب فريد الأطرش؟ التفت إليّ حيث أجلس خلفه، وكأنه استغرب سؤالي؟ قال: هو في حدّ في الدنيا ما بيحبش فريد؟ سألته: لماذا؟ قال: ما عرفش ده هو بيطلّع الآه من جوّه. سألته: هل تعرف من أي بلد هو؟ قال: أنا أعرف إنو مصري وأمو شامية، بس في ناس بتقول إنه جِه على مصر من بلاد الشام وكان صغير. وأضاف بامتعاض: والله انا ما اسألش في التفاصيل، أنا بعشق غُناه وخلاص.
هذه واقعة حقيقية لمستها شخصياً، لكن هناك ايضاً عدة تعليقات، تلك التي يكتبها المتصفحون حول كل اغنية، نجد انه بالفعل هناك بعض المصريين لم يعرفوا هوية او اصل فريد الاطرش.
من هنا نستشف ان شرائح عدة من المجتمع المصري تعشق بالفعل فن فريد الأطرش، إلا انه من جهة أخرى كان مثار جدل وأحياناً انتقاد، لدى بعض النقاد والصحفيين، وصولا الى البلبلة وربما اختلاق بعض الخلافات بينه وبين فنانين آخرين بالأخص المصريين منهم، ورغم ان أحداً منهم لم يقلل من قدرات الفنان، الا ان هناك من كان يحاول إيجاد هنّات أو ضعفاً في ناحية ما من نواحي فنه العديدة. لكن الأهم، ان كل ذلك لم ينل من عزيمة الفنان واصراره على الاستمرار في العطاء والتلحين والغناء والتمثيل حتى وفاته.

فريد الأطرش في زمن «اليوتيوب"ومواقع الانترنت
اليوم، وبعد تغييرات كبيرة وثورات سريعة في عالم التقنيات، ومنها في إمكانات الاستماع السهلة الى اي موسيقى او اغنية، والمتاحة مجاناً على مواقع الأنترنت، نجد أن فريد الأطرش حاضر بقوة كما هي حال كل فناني العصر الذهبي في الفن، كعبد الوهاب وام كلثوم وفايزة احمد وعبد الحليم وآخرين.
فعشاق فن فريد يرسلون كل لحظة وآن، عشرات الفيديوهات التي تتضمن أغنياته، سواء تلك التي يقتطفونها من افلامه وما تضم من استعراضات ممتعة، أو من حفلاته او لقاءاته التلفزيونية والاذاعية او تسجيلاته الكثيرة، الشعبي المعروف منها والمتداول ومنها النادر وغير المتعارف، وبذلك يستمتع رواد الانترنت والسماع والمشاهدة بهذه المقاطع الموسيقية والغنائية بشكل لافت. ناهيك عن مواقع عدة خصصها متابعوه باسمه وله فقط، ايضا تطرح اعماله ومقالات عنه وتحليل احيانا لموسيقاه وحياته وهي كثيرة، اضافة الى ما كتب عن فريد الاطرش في عشرات المواقع المتفرقة في حقول ثقافية وفنية.
أما «اليوتيوب»، الموقع الأشهر اليوم على الأنترنت، فهناك - على سبيل المثال- مقطع فيه 12 أغنية من اعمال فريد، استمع إليه خلال سنة واحدة من تاريخ نشره على الموقع، قرابة مليون ونصف مستمع او متصفح. وهذه الأغنيات هي: نورا نورا، يا جميل، دايماً معاك، إتقل إتقل، بقى عايز تنساني، يا مالكة القلب بإيدك، يا حبايبي يا غايبين، منحرمش العمر منك، زمان يا حب، إياك من حبي ورائعته «عش أنت».
على الموقع نفسه نشاهد أغنية مثل «سألني الليل» ان هناك اكثر من مئة ألف متصفح لها خلال اقل من سنتين من تاريخ نشرها. علماً ان الاغنية ارسلت عن طريق أكثر من شخص، اي ان هناك نسخاً عديدة من الاغنية على الموقع المذكور، وكل منها استقطب آلاف من المتصفحين ايضا، تضاف الى الرقم المذكور أعلاه.
مقدمة أغنية «لحن الخلود"هناك نسخة منها استمع اليها ما يقارب السبعين الف متصفح، عدا نسخاً اخرى ايضا دخل اليها الاف المستمعين. اما اغنية «عش أنت» فهناك اكثر من ثلاثة ملايين مستمع، استمع اليها. وبالطبع معروف ان هذه الارقام قابلة للزيادة يومياً، بل في كل ساعة.
عازف العود
القطعة الشهيرة «استورياس»، للمؤلف الموسيقي الاسباني اسحق ألبينيز (1860-1909)، حوّلها فريد الأطرش عبر ريشته السحرية، الى قطعة موسيقية شرقية مبدعة، على أوتار عوده في مقدمة موسيقية استهل بها أغنية «حكاية غرامي» في فيلم «من أجل حبي"نهاية الخمسينات، ومنذ ذلك الوقت اصبحت القطعة الموسيقية بمثابة «طريقة» او «تمرين» لعازفي العود من شتى المستويات سواء اولئك المبتدئين او عازفين لهم اسماؤهم ومسيرتهم المهنية، إلا ان الجميع يحاول اثبات جدارته وتقنياته العزفية والسير على نهج فريد الأطرش.
فالراحل أظهر لنا إمكانات العود في عزف اي مقطوعة، شرقية كانت أم غربية، شرط أن يتمتع العازف بأصابع لينة مطواعة تتنقل برشاقة بين الاوتار على مداها ومساحتها الواسعة على صدر العود، اضافة الى تقنية عالية في قلب الريشة على الاوتار، اذ انها تتطلب سرعة وإتقاناً معاً في تتالي متفجر متلاحق للنوتات لا يتيح حتى لحظة تنفس للعازف، ولا تخلو المعزوفة من مقاطع بطيئة تقترب من الارتجال، لكن المدروس، لذا فهي عبارة عن توليفة موسيقية تعشقها الأذن لما فيها من الوان مشرقية تعود بنا الى زمان الأندلس، وإن سمعناها عبر عازفي بيانو ايضاً، وهناك من عزفها على مختلف الالات مثل «الماريمبا» او حتى عبر اوركسترا سمفونية، إلا أن روحها التعبيرية الشجية الانسانية وتكشف عن ملامحها الشرقية الضاربة في اعماق مؤلفها ألبينيز وربما لهذا السبب عشقها فريد وباتت جزءًا من أداءاته على العود في حفلاته.
تأثيرات خارجية
في كل انحاء العالم مؤلفون موسيقيون كثر تأسرهم جملة لحنية من آخرين فيقتطفون بضع نوتات منها او بضعة «موازير"او ما يسمى «بارات"لتكون جزءاً من لحن آخر موسع يكتبونه. وهذا أمر مألوف جداً في الغرب قبل الشرق (باخ، بيتهوفن، ليست، موزارت، تشايكوفسكي وآخرون). إلا ان البعض ممن ينتقدون، او يعيبون هذا الامر، لا يعلمون بقواعد او اصول الاقتباس التي تسمح لأي مؤلف موسيقي باتخاذ بضع جمل من اخرين لتكون جزءًا من معزوفة او اغنية له، سواء من نفس الفترة او ممن سبقهم بعقود او سنوات.
تحدث فريد الاطرش عن الاقتباس في احد لقاءاته في الإذاعة المصرية قائلاً: «أعترف أنني اقتبست من الموسيقى الغربية مرة أو مرتين لا عن ضعف فني، لكني وقعت في أسر الجمل أو الجملتين المقتبستين بحيث ضعفت أمامهما وأحببت أن أغنيهما لا عن ضعف فني، لأن الذي لحن مئات الألحان لن يعجز عن إيجاد جملة مشابهة. فمثلا جملة «ليه تهجرني أنا بحبك» من فيلم «دماء ورمال"أعجبتني هذه الجملة، ويمكنني الآن أن ألحنها ثلاثمائة مرة وفي كل مرة بشكل مختلف، وهذا ليس عيبا فالموسيقار تشيكوفسكي اقتبس مرة جملة من بيتهوفن وبرر اقتباسه أنه لم يجد أفضل من جملة بيتهوفن لتربط بين جملتين من معزوفته.
والجمل التي اقتبستها ليست لها قيمة كبيرة إلا أنها أعجبتني فضعفت أمامها، ولما أحسست أنني يمكنني أن أضعف في كل مرة أمام جملة موسيقية توقفت عن الاقتباس لأن ذلك يمكن أن يضعف موهبتي، فتوقفت وكان ذلك من ثلاثين سنة ومرور كل هذه المدة يشفع لي، إذ بعد الجملتين المقتبستين أنجزت أعمالاً شرقية أصيلة ك«أول همسة» و«الربيع"و«حكاية غرامي» و«سألني الليل» و«نجوم الليل»...وأقول إنني لا أقبل الاقتباس لأنه ضعف وليس قوة، وإذا اعترفت بالاقتباس فذلك عن أخلاق فنية لأنني لا يمكنني أن أنسب لنفسي ألحاناً يعلم جميع الناس أنها ليست لي.»
أبو الياس عاشق ومتابع لفريد الاطرش يطرح اقتباسات الراحل على موقع عنوانه «منتدى سماعي للطرب العربي الاصيل"واضعاً صفحة خاصة بهذه الاقتباسات مع نشر الجملة الاصلية وجملة فريد التي اقتبس منها لحنه. وهو أمر علمي ومنطقي يحول دون التجني والتجريح بل وضع الحقيقة أمام الجمهور كما هي نقتطف هنا بعض الاقتباسات من محرر الصفحة على الموقع المذكور.
مطلع أغنية «أنا وإنت وبس"
اقتبسها من مطلع «طلعت يا محلا نورها» للشيخ سيد درويش.
فيلم «الخروج من الجنة» سنة 1967. استأذن فريد من ورثة سيد درويش أن يجعل هذه الجملة مطلعا لأغنية «أنا وإنت وبس"وكان من شهامة الورثة أن أذنوا له فكان له ما أراد، وقد تصرف فريد في الجملة فلم يأخذ منها إلا جزءاً من المطلع هو» طلعت يا محلا».
تحدث الموقع مطولاً ايضاً حول اقتباس الراحل موسيقى ألبينيز «استورياس"في اغنية «حكاية غرامي».
«ليه تهجرني أنا بحبك»
كل الذين خاضوا في اقتباسات فريد الأطرش نوهوا إلى هذا الاقتباس لا لشيء إلا لأن الموسيقار اعترف به في حديثه الإذاعي الشهير عن الاقتباس. ورد في أكثر من مرجع عربي أن الموسيقار اقتبس جملة» ليه تهجرني أنا بحبك» من موسيقى مقدمة الفيلم الأميركي «دماء ورمال"الذي عرض سنة 1941، وقد شاهدت الفيلم والقول لأبو الياس - ولم أجد الجملة الموسيقية في المقدمة وإنما في تانغو داخل الفيلم اسمه «القمر الأخضر"من تلحين الموسيقار فيسنتي غوميز. وهنا يورد الكاتب المقطع الاصلي من التانغو الاميركي ومقطع «ليه تهجرني» لفريد الاطرش.
[ «أنساك وأفتكرك ثاني»
يعتبر المؤرخون ان «لاكومبارسيتا» أعظم معزوفة تانغو في جميع العصور، وقد وضع ألحانها موسيقار من أوروغواي اسمه جيراردو هرنان ماتوس رودركيز سنة 1916، ولم يرقص العشاق في القرن العشرين على إيقاع لحن مثلما رقصوا على لحن لاكومبارسيتا، من هذا المنطلق بمجرد أن اقتبس فريد جملة منها قال العارفون بموسيقى التانغو العرب هذه لاكومبارسيتا.
الاقتباس ورد في أغنية «أنساك وأفتكرك ثاني» نهاية الثلاثينات وبالضبط في جملة «من يوم ماسبتك وأنا حيران».
«يا حبيبي طال غيابك»
من تانغو «زهور الأوركيد في ضوء القمر»
الاغنية غناها فريد في فيلم «عفريتة هانم» سنة 1949، اقتبس جملتين موسيقيتين كاملتين هما:
«انت اللي بيهواك فؤادي وانت نديم الحياة باهتف باسمك وانادي والقلب فاض به أساه"والنقل جاء من تانغو اميركي شهير اسمه «زهور الاوركيد في ضوء القمر»، لحن الموسيقار فانسان يومانس وقدم في فيلم سينمائي عام 1933. وغيرها بضعة اقتباسات اخرى.
من المشاهد الأكثر تأثيراً على موقع اليوتيوب، مشهد فريد الأطرش في مقابلة تلفزيونية يحضر مشهد من احدى حفلاته وهو يسلطن على تقاسيم وعزف على العود ونرى شدة تأثره وعبراته ودمعات خجولة مع كل نغمة حتى بلغ التأثر أشده مع ختام المقطوعة.

عن جريدة النهار اللبنانية