ديزي الأمير والبلد البعيد الذي تحب

Wednesday 19th of December 2018 07:20:55 PM ,

عراقيون ,

فاطمة المحسن
لم أكن أدرك معنى إيجابيا لكلمة"انتظار»، مثلما أدركته لحظة نطقتها ديزي الأمير في التلفون. كانت تقول: فرغت حياتي من الانتظار، من المواعيد من اللقاءات، أي طعم لها؟
بيتها المطل على البحر ببيروت ذكرّني ببيوت الارستقراطية العراقية، تتشابه أذواقهم أينما حلوا في بغداد أو لندن أو بيروت أو سواها، حتى في طريقة توزيع المقاعد واللوحات وتنظيم الطاولات. لم تجب وأنا أحتضن جسدها الصغير سوى بكلمات قليلة: لست على مايرام مادام العراق مريضا.

كنت أعبر معها الأزمنة في عودة وإياب، فذاكرتها تومض في مشاهد بعيدة، وتنطفىء عندما تحسب السنوات.أتمعن في وجهها الهادىء، وأتذكر صورة لها في احدى المجلات الأدبية في السبعينيات، مثل أميرة يبرق جبينها بالضوء.
تعيدني إلى بغداد كلما حاولت ان أبعدها عنها، حنين غريب لمن عاش فترة طويلة متنقلا بين بلدين، بل مجموعة من البلدان، ربما هو حنين الشيخوخة. تحاول إقناعي بأن العراق وأهله أفضل ما خلق الرب على هذه البسيطة، وأحاول إقناعها وأنا الجاحدة بالبلدان كلها، ليس هناك من وطن يرغب بنا أو بكل هذه التباريح. لهجتها البغدادية تمازجها كلمات موصلية. كانت تقول: أي نعم أبي أصله موصلي، درس الطب في الجامعة الأميركية ببيروت وتزوج أمي التي تنحدر عائلتها من ضهور الشوير.
ديزي الأمير القاصة التي كتبت مجاميعها القصصية المعروفة (البلد البعيد الذي نحب) و(ثم تعود الموجة) و(وعود للبيع) و(البيت العربي السعيد) وعشرات القصص التي نشرتها في الصحف والمجلات الأدبية. يختلف نصها عن نصوص النساء في الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات من القرن المنصرم، فهي لم تحاول أن تلفت الأنظار أو تثير صخبا أدبيا، وكانت بعض قصصها المرتبطة بالمرأة وقضاياها، تنطوي على سخرية خفية من نمطين من النساء: المستعرضات أجسادهن وعواطفهن، والمنشغلات بأمور السياسة. كتبت زمانها الذي نأت عن أوهامه، وربما سبقته في التخلص من كليشات الموجات الأدبية. تركت بصماتها الرقيقة وصوت عزلتها ووحدتها يرنان بعيدا، في كواليس المسرح الأدبي لا في واجهاته البراقة.
قال عنها سعيد عقل في الستينيات ((كلمات ديزي الأمير كصوت فيروز، شيء من الغيب يُحَب.ساحرة الهنيهات السعيدات، وماهمّ أنهن أحيانا مثقلات بالكآبة. من أين تجيء بهذا البث الناعم الفني في عصر القصة المواء والقراء الذين يحبون الصدم والقضم؟.))
الوحيدة التي أسمتها نازك الملائكة في مذكراتها"صديقتي»: هل كنت صديقتها حقا؟ كنت أسألها فتقول: ((لست صديقتها بهذا المعنى، بل صديقة أختها الأصغر، فهي أكبر مني سنا، وأكثر ثقافة ونضجا. كنت في الصف الأول من دار المعلمين العالية، وكانت هي في الصف المنتهي، ولكني لن أنسى جلساتها وأحاديثها ورسائلها. امرأة صريحة، ونظرتها إلى الحياة عميقة، تشعرك دائما انها الرئيسة، لها سلطة خفية وساحرة علينا وعلى كل الصديقات. كنت أتطلع اليها كمثال، والتقيها كثيرا، فقد ربطتنا صداقة عائلية، نتزاور بحكم هذا التقارب، ولكنها رحلت إلى القاهرة، ولم تعد.))
أجلستني ديزي الأمير في الغرفة الصغيرة التي تحوي مكتبتها والتلفزيون. وأول ما واجهتني المجموعة الكاملة لعلي محمود طه، شاعر نازك المفضل. كل الكتب طبعاتها قديمة، وبهت لون بعضها وتحول إلى الاصفر، عدد منها لكتّاب لم يبق منهم أثر في الذاكرة الأدبية.
تخبرني عندما أسألها عن أعمال نازك الكاملة: أحتفظ برسائلها، فقد كانت تهوى المراسلات خلاف عاداتي أنا، تكتب عن كل شيء يصادفها.

* هل كنت تطلعينها على نتاجك القصصي؟

نعم وعندما أطلب منها نصيحة، تقول: دعي عملك كما هو، إن غيرّت فيه لن يعود لك.انت تكتبين للمستقبل.
* ماذا تتذكرين من بدر السياب؟

الكثير، كان أبرز شاعر في جامعتنا، ولديه قصائد في كل جميلات الكلية.
* كتب لك قصيدة كما أتذكر؟

نعم (ضحكت) كما كتب للكل.
* هل كنت ونازك تلتقيان به، أو بعبد الوهاب البياتي؟

كان السياب يقود لجنة طلابية لرعاية الأدب في الجامعة، وأعتقد انني ونازك كنا فيها، ذاكرتي الآن تخونني. في كل الأحوال لم أكن وقتها أنشر نصوصي، ولكني كنت أهتم بالأدب، كنا نلتقي، نعم كنا نلتقي كذلك بالبياتي.
* سنعود إلى لبنان؟ ماهي حكايتك مع خليل حاوي الذي نُشرت رسائله الموجهة اليك؟
خليل من بلد أمي وجيران بيتهم الكبير الذي كنت أقصده كل صيف، وربما كنا على قرابة، وهناك التقيت به. وعندما سكنت بيروت، كنت أراه في كل مكان أمامي. لم أكن أشعر بما يشعر، ولكن مكانته الأدبية وثقافته تقربه مني كصديق، رغم اختلاف أمزجتنا. كان يحضر إلى بيت خالتي التي تحب الشعر وتحفظه، وكنا نجلس نشرب القهوة في بيتها أو في المقاهي. يدعوني إلى محاضراته في الجامعة، وكنت أستشيره في الشؤون الأدبية. كانت حاجتي اليه كأديب أكبر من قضية الحب أو العلاقة العاطفية. أتذكر انه كان يردد دائما أنت عراقية، ولهذا أراك دائما متحفظة.

عندما رجعت إلى بغداد كان يكلمني بالتلفون من بيروت باستمرار، وأعتقد أنه على حق، فقد كنت متحفظة بسبب تربيتي العراقية. خطبني، ولم أوافق لأنه عصبي وغير مستقر.

* ومن أي بلد بعث رسائله؟

أتصور من انكلترا عندما سافر هناك، ربما من أميركا، وأنا احتفظ بما لم يُنشر من الرسائل.

* لماذا لم تراودك فكرة نشرها، فهي الآن في ذمة التاريخ الأدبي؟

هي أسراره الشخصية وأحترمها لهذا السبب.
* لنعد إلى بيروت، كنت تكتبين في وقت ظهور رواية"أيام معه"لليلى بعلبكي، وانتشار روايات غادة السمان، هل تعرفت عليهن، وما هو الاختلاف بين أدبك وأدبهن؟

ليلى بعلبكي لم أكن أعرفها شخصيا، وغادة ربطتني بها صداقة أعتز بها، غادة ذكية ورائعة وصريحة ومثقفة. حذرني منها الأصدقاء ولم أمتنع عنها، فقد قالوا انها ستفضحني في قصصها، قلت أنا لا أملك أسرارا لتفضح.

قصصي تتميز عن سواها من الكتابات النسائية، بطريقتي التي لا تحوي غرابة ولا تثير العجب. كل شيء في حياتي وكتابتي طبيعي، لم أكتب كي أجعل الرجال يغرمون بي، وربما كنت محافظة بسبب تربيتي العراقية، لا أسير مع رجل وحدي إلا وأتلفت، أمر مضحك أليس كذلك؟.

* تحدثت عن بيتكم وبيت نازك الملائكة، كنتم تقيمون الحفلات المختلطة، ووالدتك اللبنانية سافرة، ووالدة نازك شاعرة ومثقفة وكانت كذلك لاترتدي العباءة، لماذا كل ذلك الانكماش والعزلة التي عشتيها ونازك، خصوصا أنت التي نشأت في عائلة مسيحية، لماذا الخوف من الرجال؟.

نعم، كانت والدتي، رغم حبها الأدب وانفتاحها، تردد أمامي: الرجال ذئاب، وكلهم يكذبون في الحب. عندما ماتت، ذهب والدي وتزوج في فترة لم نكن نتخيلها. كادت زوجته تطردنا من البيت انا وأخي وأختي.ذهب أخي إلى أميركا، وعشت في البصرة مع أختي التي تزوجت هناك، وأصبح أطفالها أطفالي، ودخلت مجتمع المدينة عبر طالباتي، بعد أن اشتغلت مدرسة في مدرسة ثانوية للبنات. ربطتني بأهل البصرة عشرة عمر ومحبة مازالت تسكن أعماقي، صداقات لم أجدها في مكان آخر، ولكني لم أفكر بالزواج أو الارتباط، فكلمات أمي أثّرت بي.
* عشت في لبنان سنوات الستينيات والسبعينيات، يوم كان مجتمع بيروت الأدبي يضج بالأفكار الرديكالية سياسيا واجتماعيا، لماذا لم تجرفك موجة الانتماء إلى التيارات الحزبية، أو بريق الحرية الذي شغل الأديبات والأدباء؟

رحلت إلى لبنان بعد أن كتبت له مجموعتي (البلد البعيد الذي نحب)، كان بلد أمي، ولهذا لم أبارحه حتى في الحرب الأهلية، ولكن طبيعتي التي تفضّل العزلة والهدوء وتربيتي العراقية، أبعداني عن الانغمار في مجتمعه الأدبي تماما. بالطبع كانت لي صداقات مع الأدباء، وكنا نلتقي في المقاهي وفي المؤسسات والصحف والحفلات، ولكني فضلت العيش لوحدي.
* كتبت عن الحب، ولكن معظم بطلات قصصك وحيدات أو محبطات أو يعانين من سوء تفاهم عاطفي، على عكس ماكنت عليه من صفات: جميلة وأديبة معروفة ولا تعانين من مشاكل تبعدك عن سعادة الحب.

لم أتصور الحب يوما إلاّ على نحو يرتبط بالضياع والقلق والمشاكل، ولهذا بقيت دون زواج، ولا أشعر بالندم لقراري هذا، حتى بعد أن بلغت هذا العمر دون ولد أو ابنة ترعاني.
* أين تعود بك ذكرياتك، إلى أي مكان وزمان؟

إلى بغداد الأربعينيات والخمسينيات، لأنها كانت الفترة السعيدة في عمر العراق، وفي عمري أيضا، ولكنها انتهت، وأعرف انها لن تعود.