المدفعي روحية الموروث الغنائي العراقي بأنغام معاصرة

Wednesday 5th of December 2018 06:49:09 PM ,

عراقيون ,

علي عبد الأمير
في اوائل تسعينيات القرن الماضي*، وبعد ان كشفت الكارثة العراقية عن ساقيها، وبدت الحياة الاجتماعية والثقافية شبه نكتة ثقيلة في بلد يأن تحت وطأة الأزمات من اقصاه الى اقصاه، كان صاحب المسار الخاص في المشهد الغنائي العراقي، الفنان إلهام المدفعي، ينظم ببغداد حفلا موسيقيا جمعه الى عدد من الموسيقيين الشبان، وتحديدا في العام 1992 وضم من يعتبرون المدفعي"شيخ طريقة»،

بجمعه النغم العراقي الأصيل الى اجوء الموسيقى الغربية الخاصة، وكان لصاحب السطور حديث مع الرجل الذي بدا متفهما حتى الملاحظات النقدية القاسية، دون ان يعترض على الجملة التي سمعها :"انا من جيل بدت له تجربتك أقرب الى المغامرة الروحية الجميلة والملهمة، ويعزّ عليّ ان اقول لك ان هذه البلاد لم تعد مناسبة لفنك الذكي والخاص، الحياة فيها صارت قاسية والثقافة تتراجع والذوق يتردى...».
بعد نحو ثلاث سنوات، كان المدفعي بالكاد يجد في سطح مبنى"نقابة الفنانين الاردنيين"في جبل اللويبدة، وسط العاصمة عمّان، مساحة ممكنة لتقديم اول نشاط موسيقي وغنائي، وكانت تلك فرصة شخصية لتجديد اللقاء، والكتابة عن امسية ستفتح لصاحب المزاج الغنائي النادر، الف باب وباب ليس في عمّان التي صارت بغداده الشخصية وحسب، بل في عواصم عربية واوروبية والى اميركا ايضا.
كتبت عن تلك الأمسية بفرح حقيقي، كأنني اخبر القراء الاردنيين، وعبر بوابة الصحيفة الاكبر:"الرأي"عن النغم المتفرد الذي يعنيه بث روح متجددة في الموروث الغنائي العراقي، كما هو نغم المدفعي الذي احدث تحولا حقيقيا في مزاج الشباب العراقي مع بداية سبعينيات القرن الماضي، عبر فرقة غنائية لها شكل الروك وبمضون نغمي محلي صرف.
فرح الكاتب الشخصي، جاء ايضا من اكتمال حديث ثنائي مع المدفعي كان ابتدأ في بغداد، وكيف انها صارت ضيقة على صاحب الحلم الموسيقي البسيط، وان عمّان ستكون البداية الجديدة لتلك المغامرة التي كانت شهدت صعودا وهبوطا بالتزامن مع انتقالات حياتية لصاحبها الذي هاجر الى بريطانيا للدراسة، ومنها الى الامارات للعمل في السبعينيات، والعودة الى بغداد وهجرتها لاحقا.
بعد سنة ونصف في الولايات المتحدة الاميركية قضاها متجولا في قاعات ومسارح احتشدت بعراقيين وعرب مهاجرين في اكثر من عشرين ولاية اميركية قطع خلالها (240) الف ميل.
غنى المدفعي من جديده الغنائي مثلما استعاد معه الجمهور اغنيات حملت روحية الموروث الغنائي العراقي في طريقة معاصرة ابتكرها في السبعينات الهام المدفعي الذي اعطى الجيل من الشباب العراقي مثلا في جراة التعاطي مع الموروث دونما"تقديس"لعناصر اصالته ودونما مبالغة في"الاغتراب"منه. ومن ذلك المزيج النادرن قدم اغنيات"جلجل علي الزمان»،"اشقر بشامة»،"فوق النخل»،"هيا بينا»، و"زارع البزرنكوش»، ومن اغنيات السبعينات الشهيرة غنى"القنطرة بعيدة"التي سبق ان غناها اول مرة المطرب سعدون جابر.
واخذ الحنين مأخذه عند مئات الالاف من العراقيين الذين حضروا حفلاته حين غنى لهم:"خطار عدنا الفرح"التي كانت احدى اغنياته الجديدة حينها، وحملت لاحقا عنوان الاسطوانة التي سجلتها له اكبر انتاج الاسطوانات وهي شركة EMI وقامت بتوزيعها لاحقا على مدى واسع في المنطقة العربية وبعض المدن الاوروبية التي تميز بحضور جاليات عربية وعراقية كبيرة اضافة الى المدن الاميركية التي سبق له ان زارها في جولته، ومع ارقام توزيع كبرى للإسطوانة، كان طبيعيا ان تقدم الشركة العريقة في الانتاج الموسيقي"الاسطوانة البلاتينية"للمدفعي مع تجاوز ارقام المبيعات، حاجز ربع مليون اسطوانة، وهو مؤشر نادر ما يحققه مطرب عربي في ذلك الوقت.
وكان الهام المدفعي قدم عروضا موسيقية غنائية لطالما كانت تحول أمكنة مختارة في عماّن الى امسيات وجد وشجن عراقي، اضافة الى عروض غنائية يشترك معه في احيائها موسيقيون عراقيون شباب ينشطون في الحياة الموسيقية الاردنية.
وفي تحول بارز ولافت في عمل الهام المدفعي الغنائي، تضمنت اسطوانة"خطار"عملا مصاغا بطريقة"الجاز الشرقي (ORIENTAL GAZZ) مزج فيه الساكسفون بالقانون والغيتار والباص غيتار والايقاعات، بعنوان"الله عليك»، التي ما انفكت الى اليوم تحفة حقيقية تمثل المزاج الروحي الجميل الذي جاءت عليه تجربة المدفعي.
كما تضمنت الاسطوانة غناء المدفعي وفق لحن تصويري – رومانسي، لقصيدة حملت توقيع الشاعر عبد الوهاب البياتي بعنوان"قطرة المطر"وغناها اعتمادا على توقيعات منفردة راقية يجيدها المدفعي على الغيتار.
بعد أيام من عودته، احيا المدفعي وفرقته الموسيقية التي جمعت بين شرقي الالات وغربيها امسية غنائية شيقة في المركز الثقافي لكلية تراسانطة، بالعاصمة الأردنية، وغنى المدفعي الذي صدرت اسطوانته الثانية، مجموعة من الاغنيات التي تشير لاسلوبه الخاص الذي تشكل قبل اكثر من ثلاثين عاماً حين عاد من انجلترا بعد دراسته الهندسة، واسس فرقة في بغداد حملت اسم"13 ونصف"بدأت بتقديم نمطاً من الغناء بدا"مفاجئاً"وغريباً على الاسماع •
انه الغناء الذي يتطلع الى البقاء في بيئة عراقية بل و(بغدادية) تحديداً، دون ان يخفي سعيه للوصول الى معايشه حقيقية للعصر وتغيراته وتبدلاته الذوقية، وهكذا اجتمعت في غناء الهام المدفعي صفتان: الموروث الغنائي العراق والبغدادي الى جانب التوزيع والالات الموسيقية المعاصرة (الغربية) •
بذلك حاول المدفعي ان ينقل سعي الفئة الاوسع من الشباب العراقي وابن المدينة (المتعلم) تحديداً، في ان تكون منبثقة من واقعها المحلي الخاص دون ان تنقطع عن العالم ومسايرة تحولاته التقنية والذهنية •
الى جانب الهام المدفعي الذي تجد اغنياته رواجاً كبيراً في عمّان ومن الجمهورين الاردني والعراقي المقيم على حد سواء، كان هناك في الامسية موسيقيون بارعون امثال روبرت على (الغيتار) الاسباني حيث عزف بطريقة تؤكد مهارته اللافتة والمتجددة، وانور ابودراغ على آلة (الجوزة) وهي احدى اكثر الالات الموسيقية التراثية العراقية حضوراً، وتصاحب مؤدي المقام العراقي ضمن فرصة خاص تسمى"الجالغي»، الى جانب ذلك نجد العازفين شيراك ميناس (باص غيتار) ماهر حنحن (كونغا) وسارو (درامز) وانس غانم حداد (كمان) وطالب (طبلة) و(خشبة) وهي طبلة صغيرة جدا لها استخدامها الخاص في ايقاعات الغناء الريفي العراقي .
وحين يغنى الهام المدفعي،"خطار"التي تعني"ضيف"او"ضيوف"بالدارجة العراقية، ورغم حزنها (العراقي) المقيم اذ ترى كلماتها: ان الفرح ضيف"خطار"ومن الصعب علينا ان نعيشه طويلاً، الا ان براعة لحنية اوجدها المدفعي جعلت من المستمع يعيش لحظتين قلقتين في آن: ان يكون (حزيناً) و(مبتهجاً)!
كما غنى"يللي نسيتوته"و»فوق النخل"و»يازارع البزرنكوش"و»چلچل علي الرمان"وهي من اللوازم الغنائية العراقية الموروثة، الا ان براعة الهام المدفعي جعلها تكتسب مشاوير حياة جديدة حين ادخلها في"جو غنائي معاصر"اكان ذلك في طريقة الغناء ام العزف الموسيقي الحر غير المتقيد بقوالب ثابتة، واضافة الى اغنيات المدينة العراقية او ما يعرف اصطلاحاً بـ»البستة"وهي الاغنية الخفيفة التي كانت تصاحب مقاماً من الدرجة الموسيقية ذاتها، غنى المدفعي اغنيات عراقية خارج هذا التصنيف مثل اغنية"القنطرة بعيدة"التي ابدعها المطرب سعدون جابر اواسط السبعينات، كذلك اغنية"مالي شغل بالسوق"التي غناها المطرب حسين نعمة"واشقر بشامة"للمطرب فاضل عواد.
والى جانب الغناء العراقي غنى المدفعي في امسيته التي استمرت قرابة الساعات الثلاث دونما ملل او رتابة اغنيات"زوروني بالسنة مرة"»عليم الله»،"امتى انا اشوفك"وفيها نكتشف قدرة المدفعي على صنع جو غنائي خاص عماده البهجة والروحية في الاداء الموسيقي والغنائي، فبدت الاغنيات وكأنها خاصة به وليست طريقته في ادائها مجرد اعادة تقديم.
وطافت بالقاعة مجموعة من الشباب النشوان بالاغنيات وهي ترقص على ايقاع"التشوبي"الذي انتظمت فيه مجموعة من الاغنيات قبل ان يغني المدفعي بتأثر بالغ قصيدة (بغداد) التي حفلت بصياغة شعرية وموسيقية لا تخلو من شجي كأنه بذلك يقارب المدينة الجميلة والحزينة في آن، وانطلاقاً من جو بغداد عاد المدفعي لغناء نماذج من المزاح البغدادي كما في اغنيات"انا منين وانت منين"و»النوم محرم"وغيرها.
وشارك الفنان الهام المدفعي في موسم فني- ثقافي شهدته بيروت حمل اسم"لبنان 2000"وتضمن امسيات موسيقية وغنائية لفنانين من مختلف القارات، اضافة الى معارض تشكيلية وعروض مسرحية. واضافة الى اشتراكه في هذا الحدث فان المدفعي كان مدعوا للمشاركة في برنامج"يا ليل ياعين"المنوع والذي تقدمه الفضائية اللبنانية LBC، ليكون بذلك اول فنان غير لبناني يستضيفه البرنامج، كما كان مدعوا لاقامة عدة حفلات غنائية تتوزع ما بين بيروت وعدة مدن لبنانية.
والعروض الغنائية التي قدمها في لبنان فضلا عن تلك التي يقدمها في الاردن، تعتمد تدفق وحرارة العرض الحي (Live) بما فيها من ارتجال موسيقي للالات، وارتجال غنائي بحسب الجو العام، وبما ينسجم مع جو عراقي وعربي تشير اليه اغنيات تستمد من الموروث الشعبي امتداداتها النغمية والروحية.
وقضية اتصال عروضه الغنائية بالموروث، تجد حقيقتها في انسجام الالات العراقية والعربية: العود والقانون والجوزة والسنطور والايقاعات بمختلف انواعها، مع الغيتار حيث يلعب المدفعي عليه برشاقة وخبرة كبيرتين كذلك مع الايقاعات الغربية، واصبح الاسلوب الذي يشتغل عليه مؤشرا على احياء لبعض الوان الغناء العراقي والعربي لا سيما ان المجموعة التي تصاحبة، تتوفر على اصوات طيبة المستوى.
ويبدو ان حالة التجوال والبحث الدائب عند المدفعي على مستقر مكاني ونفسي، تولد عنده دافعا لايجاد مستقر نفسي تحققه الاغنيات والشكل الموسيقي، طالما انه غير ممكن كمستقر مكاني، فهو شديد الالتصاق بملمح مدينته غنائيا وموسيقيا، واللون البغدادي يكاد يغلف عموم طريقة المدفعي في الغناء.
وكمعادل موضوعي لفقدانه حميمية المكان الذي تربى فيه ونشأ - يعود الهام الى احدى العوائل البغدادية والعراقية المعروفة بتأثيرها السياسي والاجتماعي والثقافي- يجد في ردود وانفعالات وتحيات العراقيين الموزعين على بقاع العالم اليوم، مايروي الظمأ، فآلاف الرسائل التي وجهت اليه في الفترة الاخيرة من خلال البريد الاليكتروني، ومن عراقيي المهاجر والمنافي، تشير الى ان اسلوبه الغنائي يلاقي اعجابا متواصلا، بل هو رسالة بغدادية مليئة بالوجدان النقي لمن تقطعت بهم السبل عن المكان الذي يحبون.
ومن ملامح اسطوانته الثانية، كان اسلوب (الجاز) الذي غلف الاسطوانة الاولى، ومن خلال القوة التي يمنحها هذا الاسلوب موسيقيا، فانه تمكن من توفير مزيج من الموروث الغنائي العربي والعراقي. ضمن فضاء تجريبي لا بيتعد في اجوائه عن دلالات التجريب المسرحي.
******