بهيجة الحكيم زهرة الفن التشكيلي العراقي

Wednesday 7th of November 2018 06:55:49 PM ,

عراقيون ,

سمر منير
منذ صغري أرتبطت عيني بجمال شكلتهُ يديها، كنت أجهل من تكون ولا ادرك حقاً مدى أحترافها وشهرتها، لكني أحببت بعيون طفلة الوانها التي كانت تزين عدة لوحات على جدران بيتنا، وكانت معظمها هدايا شخصية لوالدي بحكم معرفتهما الشخصية بها، كنت أبصر انذاك في تلك اللوحات فرحاً وكأن هناك نغماً موسيقية ما تشدك نحو هذا الجمال..

وبحكم عمل والدي وهذهِ كانت من أجمل النِعم في حياتنا التقينا منذ الصغر بشخصيات نحتت في شخصنا أجمل الذكريات، في يوم ما أخذني والدي معهُ لأحد المعارض الفنية وأنا الطفلة الصغيرة التي لا تزال تجهل لغة الكبار فما بالك بمجتمع ومكان فيه النخبة من مثقفي العراق، فرأيت امامي سيدة جميلة قوية بأبتسامة تعطيك فرح لا تعرفه فيها شيء من أمي ربما ووجها الطيب أوحى لي بشبه ما لا أعرف، ثم فهمت بعدها أن هذهِ السيدة هي صاحبة اللوحات التي أحبها في بيتنا، كانت تشبه زهورها… فيها بريق ما من تلك المرايا التي تناثرت في بعض من لوحاتها..
هي بهيجة الحكيم..امرأة عراقية ترى في عينيها روح الحضارة السومرية وتُبصر من ما صنعتهُ يديها حضارة فرح لم يعرف الفن التشكيلي العراقي بساطة وعمق يأخذك نحو سعادة فردوسية هو شعورك عندما ترى لوحاتها التي تلتمس فيها رقة أنثوية وتألق متجذر في الحياة.
أسمها الكامل (بهيجة نوري مهدي الحكيم)، ولدت عام 1937 في مدينة كربلاء المقدسة، هي أم لثلاثة اولاد، في طفولتها كانت تسجل ذاكرتها الفوتوغرافية كل ما تتأثر بهِ من أحداث والوان فنسجت مخليتها من القباب الذهبية والفيروزية وقطع القماش الاخضر الذي عقدهُ المؤمنون بالذهبي كلوحة أغنت ذاكرة تلك الطفلة التي سعت بكل قواها نحو حلمها البعيد، لتمتزج كل تلك الألوان بذاكرة بيضاء وتنسج أبداع موهبتها في زمن أخر.
يُذكر أنها كانت تقول دائماً أحببت المرايا منذ صغري فكانت تجمع قطعها من هنا وهناك وتضعها في دفاترها ليصبح أجمل وبعد سنين أصبح أحد أهم مميزات لوحاتها… غادرت بهيجة الطفلة مدينة ولادتها في وقت مبكر من طفولتها وذلك في خمسينيات القرن الماضي وتوجهت مع والدتها نحو تلك العاصمة الكبيرة التي كانت في عينيها مدينة الأحلام، بغداد حيث بدأت الأحلام يتأخذ منحى أخر، فأكملت هناك دراستها الثانوية في مدرسة الأعظمية عام 1952وتخرجت في كلية الملكة عالية / فرع الفن عام 1957، لتقوم بعدها بتدريس الفن في العديد من مدارس كربلاء ومنها دار المعلمات والفنون البيتية وثانوية الوحدة ومعهد المعلمات في بغداد/ الكرخ، وفي ثانوية الخنساء في البصرة وذلك ما بين (1957-1981) لتصبح بعدها مديرة متحف الفانين الرواد / بغداد ما بين (1982- 1994)، أشتهرت الفنانة بهيجة الحكيم وتفردت لوحاتها برسوم الطبيعة والورود والزهور بشكل خاص وتميزت لوحاتها بالألوان الزاهية التي تُعبر عن فرح روح يتناغم مع فرشاة ولون لينتج عنه أبداع حقيقي وكذلك كانت للوحات بهيجة الحكيم زخرفتها الخاصة التي تسمح لفضاء الأخر بالأبحار نحو عالم يسمو بالأنسان نحو العمق البسيط في فردوس الحياة الذي صنعهُ الخالق محاولة بذلك أن تحاكي المستحيلات التي طالما عشقها الفنان العراقي والمهتم بمسألة تحرير أشكاله من البُبعد المكاني والزماني نحو فضاءات رحبة.
أصبح للفنانة بهيجة الحكيم موروث كبير وغني جداً من الأعمال واللوحات الفنية الرائعة والتي ترى في أغلب نصوصها مبعث فرح وأمل وأحلام جميلة تحاكي تأريخ أنوثة ووطن من أسمى القمم الجمالية وأبسطها في ذات الوقت.
لتنطلق فنانتنا من عالم النبات المتواضع ومفردتها (الوردة) في رحلتها نحو القيم الجمالية التي ما أن تراها حتى تأسر العين والقلب وتأخذك نحو الذات المقدسة وطيوفها اللونية، وبالأضافة للألوان هناك سحر خاص لقطع المرايا التي كانت تزين الكثير من لوحاتها وفي بعض لوحات أخرى كانت تصوغ وتزين بالفضة والذهب لتضيف الى اللون معادن تغني الوان وتجعله حقيقياً مرتبطاً بخير الأرض الذي أحبته وأحبت بريقه.
ويقال أنها أتخذت من الوردة قضية فنية كرست لها معظم لوحاتها لأنها أستوحت من بساتين كربلاء المقدسة وجعلت الوردة بوابة دخول ل بوابة مغادرة الى تلك المدينة وحضورها الدائم في مخليتها، فضلاً على أنها كانت دائمة التنقيب عن أسرار الورود وعطوره وتكويناته الزهرية التي تعد رسوما شعرية لا تتقصد فيها أن تحاكي الذاكرة الطفولية الغنية الخضراء (في مدينة كربلاء المقدسة) لكنها كانت تحاكي الدلالات الأنثوية بسياقات جمالية جديدة فتزين زهراتها بالحلي والألوان لتصبح كأميرة تأسرك بجمالها وأناقة حرفتها عين ناظريها وهي بذلك كشاعر يُعبر عن مشاعره بالكلمة.
كانت الفنانة بهيجة الحكيم في أغلب نتاجاتها الفنية الأخيرة تبحث عن الخلود في الفن ولأنها من أحفاد كلكامش فقد تأثرت جداً بهذهِ الفكرة فكانت نبتة الخلود بالنسبة لها هي لوحاتها وزهراتها التي ستبقى مدى الحياة.
أنتهت رحلة حياة الفنانة الكبيرة بهيجة الحكيم بعد صراع مع المرض في 11/ 11/ 2008 في عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية (عمان).
ينسب بعض النقاد الفنيين سر نجاح الفنانة بهيجة الحكيم لعدة أسباب نذكر منها:
انها كانت فنانة شبه متخصصة في رسم الطبيعة.
وهي من بيئة وأسرة ذات طابع ديني الأمر الذي شكل كسراً لحاجز فاصل في الحياة الأجتماعية في العراق وهذا جعلها فنانة أكثر تمييزاً وأثارة.
فضلا عن أنها من الفنانات التشكيليات المتميزات في العراق.
وأن الظهور المميز للمرأة في مجتمع نادراً ما تكون تحت بقعة الضوء فيه.
ناهيك عن روح الطفولة التي تميز لوحاتها والتي تأخذ الناظر نحو ذاكرته الأولى وتوقظ فيه أجمل سنواته.
يُذكر أن الفنانة أقامت العديد من المعارض الشخصية داخل وخارج العراق فضلاً عن مشاركتها المتواصلة في أغلب المعارض الفنية التي اقامتها نقابات الفن التشكيلي داخل وخارج العراق، لتصبح بهذا الفنانة بهيجة الحكيم أحد أهم الأسماء التي خُلدت في ذاكرة المتذوق للفن والمثقف العراقي.
هي وجه من كثير من الوجوه المشرقة التي نرى فيها رقي الفن العراقي بصورة عامة والتشكيلي بصورة خاصة وتعرف من خلال حياتها قوة المرأة العراقية التي تتحدى كل الظروف لتصنع الحياة لذلك تُخلدها، كل الظروف وتبقى لها بصمة في كل المجالات والمحافل وهي منذ بدء حضارة ما بين النهرين شخصاً خلاق ومبدع ومهم يرسم بالنور لوحة وطن.