الاب الدكتور يوسف حبي..

Wednesday 31st of October 2018 07:10:44 PM ,

عراقيون ,

أ.د. عبد الأمير الأعسم
ولد و نشأ فاروق يوسف، الذي سيشتهر فيما بعد بيوسف حبي، في الموصل، فكان ينحدر من أسرة متدينة معروفة بحسن السيرة و الأخلاق. وتعلم بالمدارس المسيحية بالموصل حتى تأهل للدراسات اللاهوتية العليا، فسافر الى روما ملتحقا بمعهد اللاهوت، فظفر بالدكتوراه، بعد أن أتقن اللاتينية و الإيطالية، علاوة على إتقانه للآرامية القديمة والسريانية والعربية، كما كان على معرفة متفاوتة بالفرنسية و الإسبانية و الألمانية و الإنكليزية.

وصار بعد نيله للدكتوراه محاضرا في المعهد الذي تخرج فيه، فإكتسب خبرات أكاديمية لاهوتية جعلت منه مبرزا في الدراسات السريانية، مما أهله لأن يكون عضوا عاملا في المجمع السرياني عند تأسيسه قي بغداد. وشهدت على جدارته إنجازاته عندما أشرف على المجلة السريانية، فكان إهتمامه منصبا على إعادة الثقة في التعريف بالفلاسفة و العلماء و المفكرين و الأدباء السريان في تاريخ الأدب العربي المسيحي، ووجدته بعد حين يتابع المستشرق الألماني كرا 1905 فساقه هذا الاتجاه الى إصدار مجلة الرافدين التي ضمنها العديد من مقالاته و دراساته عن الأعلام السريان، كما نشر بعضها في مجلة المجمع العلمي العراقي.
وعندما ألغي المجمع السرياني و دمج بالمجمع العلمي العراقي، عين الأب حبي عضوا عاملا في المجمع الجديد، و استمر حتى وفاته في سنة 2001 وقد ناهز الستين. و كان يشغل وظيفة لاهوتية رسمية هي سكرتارية بطرياركية الكلدان، بإسناد الكاردينال روفائيل الأول بيداويد، بطريارك بابل الكلدان على العالم. و بتشجيع منه ساهم الأب حبي (مع عدد من الدكاترة ألآباء) بتأسيس كلية بابل للاهوت في بغداد لإعداد الرهبان و تأهيلهم لدراسات اللاهوتية في الفاتيكان.
وكأن الدكتور يوسف حبي لم يكن على حال واحدة، مكثرا من السفر الى إيطاليا و لبنان لإلقاء المحاضرات، و الاستمرار بصلاته بمعاهد اللاهوت في روما و بيروت علاوة مهامه في بغداد. فكانت أبحاثه بالعربية مكرسة لمدرسة حنين بن اسحق من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، و مدرسة بحيى بن عدي من القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. و لن أنسى أن الأب حبي فاجأني ببحثه المطول عن حبيش بن الحسن النصراني، مساعد حنين في الترجمة عن السريانية و اليونانية لكتب كثيرة أبرزها مؤلفات جالينوس.
عرفت الأب حبي أثناء زياراته لقسم اللغات الشرقية بكلية الآداب بجامعة بغداد، عندما يأتي محاضرا على طلبة القسم بكل ما يتصل بالسريانية، وخاصة طلبة اللغة العبرية. و استمر بمحاضراته على الطلبة بعد أن استقل فسم الدراسات الشرقية و صار كلية اللغات. و بعدها عينت عميدا سنة 1989 في جامعة الكوفة، فدعوت الأب حبي لإلقاء محاضرة عامة عن الحيرة (= أبوصخير الخالية)، التي ولد فيها حنين بن اسحق، ودورها في الدراسات السريانية منذ القرن الأول، و منذ تأسيس الكوفة عاصمة مركزية للدولة العربية في الإسلام.
و تعززت العلاقة بين الأب حبي و بيني عندما صدر قرار المجمع العلمي العراقي سنة 1995 بتأليف لجان علمية متخصصة، منها لجنة الفلسفة برآسة الصديق الأستاذ الدكتور منذر الشاوي، فضمت في عضويتها الأب حبي و الدكتور حسام الآلوسي و أنا. ثم ضم اليها الدكتور عبدالستارالراوي سكرتيرا للجنة. و كانت لجنة الفلسفة تقوم بإعداد الآراء و الاستشارات الفلسفية للمجمع، في عقد الندوات و المحاضرات الفلسفية ضمن نطاق النشاط الفكري العام في المجمع.
و لاحظت أن الأب حبي منشغلا جدا بمهامه المختلفة في لجان المجمع وجامعة بغداد و كلية اللآهوت علاوة على سكرتارية بطرياركية الكلدان، و غيرها من استشارات وزارة التعليم العالي و البحث العلمي ووزارة التربية، فكان الأب حبي يخرج في الصباح و لا يعود الى الدير الملحق بكلية اللاهوت، حيث يسكن، إلا في المساء منهكا، و العجب كان يقرأ و يكتب في الليل!
و بسبب ذلك الإنشغال المستمر، كانت مواعيده تتداخل في الاجتماعات مما اضطره مرارا التخلف اوالإعتذار عن بعض التزاماته. و هذا ما لاحظته بعد تأسيسنا لجمعية العراق الفلسفية، و كان الأب حبي عضوا مؤسسا للجمعية وأنتخب عضوا عاملا من 1992 و لغاية 2001.
و أشغلت الأب حبي معي في مشروعات قسم الدراسات الفلسفية في بيت الحكمة، عندما تأسس و مارس نشاطاته الفلسفية منذ سنة 1996، فكان يتحمس للبيت، و يراه صدى عظيما لبيت الحكمة العباسي الذي كان للسريان شأن فيه. فقد شارك في فعاليات كثيرة أقمناها في البيت، و هو الذي إقترح علي الاحتفال المئوي الثاني عشر على تأسيس بيت الحكمة العباسي، فرفعت مقترحة لمجلس الأمناء فوافق عليه، و حددت سنة 2001 هي سنة الآحتفالية.
و قدم لي بحثين مستقلين للاحتفالية، و كانا بحثين متميزين باستحقاق، وودعني للسفر الى عمان و منها الى روما لإلقاء محاضرات لمدة شهر، على أن يعود للمشاركة في الحلقات الدراسية لاحتفالية بيت الحكمة. و سافر الأب حبي الى عمان بالسيارة، بسبب الحصار، و منها يطير الى روما، لكن المفاجأة المفجعة هي أن و صل الي خبر وفاته بعد ثلاثة أيام لحادث مؤسف في طريق عمان داخل الأراضي الأردنية!
لقد مات الأب الدكتور يوسف حبي، و لم يستطع أن يلقي بحثيه في الاحتفالية الدولية لمرور 12 قرن على تأسيس بيت الحكمة العباسي، بل ألقيا بالنيابة عنه في حلقتين دراسيتين مستقلتين، و كان يعتصرنا الألم و الحزن لغيابه عنا واحدا من أبرز الباحثين في الدراسات السريانية خلال النصف الثاني من القرن العشرين في العراق.