عندما سُجن الجواهري بسبب فقراء اليهود

Sunday 30th of September 2018 06:52:24 PM ,

ذاكرة عراقية ,

عباس غلام نوري
لقد كان انقلاب بكر صدقي العسكري حدثاً بارزاً في الساحة العراقية، أعقبهُ تشكيل جمعية إصلاحية من نخبة من المثقفين ولاسيما من جماعة الأهالي، فضلاً عن رئيس الوزراء باسم”جمعية الإصلاح الشعبي”وكان الجواهري يتعاطف معهم ويستثمر جهودهِ الفكرية والصحفية لخدمة أغراضهم بعد أن فسحت السلطات البريطانية، ولو بشكل غير مباشر المجال أمام هذه الفئات اليسارية بعد تفاقم المبادئ النازية وغيرها من الأفكار التي كانت تعادي بريطانيا.

وكعادة الجواهري في الاندفاع المعهود وسرعة اتخاذ القرار نجدهُ يبدي تأييداً للانقلابيين على الرغم من كونه لايرتبط لا من بعيد أو قريب لجماعاتهم، ولاسيما جماعة الأهالي التي خططت للانقلاب، وكانت قاعدته الجماهيرية إن صح التعبير، او إحدى أهم أركان النظام الجديد، مدفوعاً”أي الجواهري”ليس بالموجة الوطنية وحدها بل بشحنة إضافية من الانفعالات والتصورات التي تتجاوز حجم الانقلاب الى ثورة وطنية واكثر من ذلك الى ثورة اشتراكية ولاسيما أن الجواهري كان ناقماً على حكم ياسين الهاشمي لما لقيه من جراء سياسة حكومته وهو في سلك التعليم كما ذكرنا، فضلاً عن رغبته بالفوز بكرسي النيابة كما وُعدَ إلا أن عقبات وقفت بوجههِ حالت دون ذلك. وكان الجواهري يرى في رجال الانقلاب أشخاصاً مناوئين للاستعمار وأعوانهم وهم كذلك يشاطرونه في الاتجاهات والآراء، لذلك تقدم الجواهري بطلبٍ الى وزارة الداخلية للحصول على امتياز لإصدار جريـدة مع أحد أصدقائه

وهو الأستاذ الأديب”مصطفى علي”وكانت الجريدة باسم”الانقلاب"، وفعلاً حصلا على امتياز الجريدة وصدر عددها الأول في 25 تشرين الثاني عام 1936، وكانت الأعداد الأولى للجريدة تفصح عن تأييد للانقلاب ومتجهة كل الاتجاه له وناطقة بلسان صاحب الانقلاب الحقيقي. ويقول عبد الكريم الدجيلي”حين حدث الانقلاب اندفع الجواهري بكل قواه لمساندته وسرعان ما أصدر جريدته تلك وكان المفروض أن يفوز بعضوية المجلس النيابي خاصة ورئيس الوزراء حكمت سليمان وجعفر أبو التمن وزير المالية على صلة وثيقة به إلا أن صالح جبر، وزير العدلية، وقف نداً حال دون دخوله الى البرلمان الجديد.
لم يلمس الجواهري أي تغيير في الحكومة الجديدة، رغم مساعيه مع الآخرين في الدعوة للإصلاح وتضمين الجسد السياسي بعناصر جيدة وجادة، وبدأت الخشية والحذر تنتابه من فشل جميع المساعي الرامية للإصلاح أولاً وفشل طموحهِ في الفوز بكرسي النيابة ثانياً، وبدأ عندها يكشف عن خشيتهِ هذهِ ولاسيما في مقال أسماه”ماذا بعد خمسة أشهر”مؤكداً أن لاتغيير طرأ على البلد ولم تحرك السياسة الانقلابية ساكناً تجاه الشعب ومواقف الحياة لديهم، ورثته عن الوزارة السابقة ليذهب للقول”لكن الحقيقة مرّة ولكنها على كل حال حقيقة آمال المخلصين المتعلقين بهذهِ الوزارة، وإن ما كان ينتظر أن يتم على يد الانقلاب أضحى وكأنه سحابة سوداء من التشاؤم وأن من كان يظن أن الإصلاح الفعلي الذي ينال من صميم الأوضاع الاجتماعية ليحقنها ويمس حياة الفرد العراقي في كل نواحيه الفاسدة، ظل محل شك وخوف من بقاء كل شيء قبل الانقلاب".
على الرغم مما تقدم، لم تكن علاقة الجواهري مع رجال الانقلاب ودية، فسرعان ما أخذ يوجه نقده اللاذع لهم متهماً إياهم بتخليهم عن الوعود، وصادف أن حصلت قضية جعلت الشرخ واسعاً بين الجواهري والانقلابيين وخلاصتها أن حركة احتجاج حدثت بين أفراد الطبقة الفقيرة من أبناء الطائفة اليهودية في بغداد ضد ارتفاع أسعار اللحوم التي يشترونها من الجزارين اليهود الى درجة أن المحتجين هددوا بشراء اللحوم من الجزارين المسلمين فما كانَ من الجواهري الا أن يساندهم في هذه القضية، التي سميت فيما بعد بقضية”الكاشير والطاريف”طالب فقراء اليهود بتخفيض أسعاراللحوم (الكاشير) من الجزارين اليهود وهددوا بشراء اللحوم من الجزارين المسلمين وساند الجواهري هؤلاء في جريدة الانقلاب، فأدت الى إضراب اليهود عن شراء الكاشير فتدخلت الحكومة بالأمر، وتجري الإشارة أن باعة الجريدة قد نادوا بعناوين الجريدة في تلك المقالة خالفت تعليمات مديرية الدعاية والنشر الذي لايجيزهُ قانون الصحافة، فأدى ذلك الى إضراب أكثر اليهود عن شراء لحوم الكاشير ومن ثم زعزعة موقف”الحاخام”ساسون خضوري رئيس الطائفة اليهودية في العراق، فذهب هذا الرجل ليبذل كل مابوسعهِ من جهود لإيقاف حملة الجواهري في أمر هذه المقالات التي شنتها جريدته وبعد محاولات متعددة فضلاً عن تلويحهِ للجواهري بالمال ليكف عن تحريضهِ لهم، أخذ الجواهري يساندهم أكثر من ذي قبل مما أضعف ذلك المسعى وحمل فضلاً عن ذلك رئيس الطائفة الى إقامة الدعوى في المحاكم ضد صاحب جريدة الانقلاب بتهمة التحريض، لتلقى تلك التهمة آذاناً مصغية لدى الحكومة المذكورة وتصادر عدد الجريدة الخاص بالكاشير والطاريف، وتلقي بالجواهري في التوقيف بتهمة إثارة الرأي العـام، ثم إن رفض رئيـس المحكمة إطلاق سـراح الجواهري بالكفالة المعتادة في كل القضايا مما يعزز القول إن توقيف الشاعر جاء بإيعاز من لدن الحكومة نفسها.
حكم الجواهري بالسجن مدة شهر بهذهِ التهمة، وعطلت جريدته قبل المحاكمة، لكن الجواهري لم يضبط أعصابه من قرار الحاكم فهتف في قاعة المحكمة احتجاجاً على قرار المحكمة ضدهُ عاداً هذهِ المحاكمة بأنها غير عادلة بحقهِ وإنها كانت متحيزة، فثارت ثائرة الحاكم فضاعف له الحكم بتهمة إهانة المحكمة إلى شهرين، أنقصت بعد ذلك الى خمسة وأربعين يوماً بعد أن قُدمَ استئنافاً، قضى معظمها في المستشفى لاعتلال صحته.

وصلت أنباء حبس الجواهري الى مختلف أطياف الشعب من المثقفين والمهتمين بشعر الجواهري وكذلك الرأي العام، فقد كرست إحدى جلسات المجلس النيابي في اجتماعه غير الاعتيادي لسنة 1937 عن الشاعر، إذ تطرق أحد النواب سائلاً رئيس المجلس عن سبب توقيف الجواهري وعدم إطلاق سراحهِ بكفالة طوال مدة التوقيف دون توجيه تهمة محددة ومقنعة في الوقت نفسه، وأثار هذا الموضوع نوعاً من الجدل بين النواب ورئيس المجلس في داخل قاعة الاجتماع، وكذلك الأمر مع مدير الدعاية آنذاك حسين جميل، الذي أكَدَ أنّ المقال الخاص بموضوع الكاشير غير مثير للرأي العام حتى يؤدي الى اغلاق الجريدة قبل محاكمة الشاعر الجواهري.
تعددت وجهات النظر حول سبب غلق جريدة الانقلاب، فمنهم من يرجّح سبب غلق الجريدة الى تحامل حكومة الانقلاب على مقالات الجواهري الأخيرة ومن جملتها”بعد خمسة أشهر”و”حصة الشباب في عهد الانقلاب”و”قدموا أحلمكم أن صديقكم من صدقكم”ومقالات أخرى نشرتها جريدة الانقلاب بأقلام أصحابها وبأسمائهم مما أدى الى اعتقالهِ أيضاً، ويذهب آخر الى القول عن إنه المقال المنشور في الجريدة بعنوان”مذكرات سجين”لأحد الكتّاب وهو سلمان الصفواني، الذي تحدث عن ثورة الفرات الثانية. ويرجح آخر أن السبب في حبسهِ يعود الى قضية الكاشير والطاريف وهو مخالف للرأي الأول.
وعلى الرغم مما تقدم يمكن القول إن هذهِ الأسباب وجدت طريقها لتنال من الجواهري وتؤدي الى توقيفه بسبب انقلابه على رجال الانقلاب وسحب تأييده لهم ووقوفه الى جانب الجماهير ومطالبته بحقوقهم المشروعة فاستغلت؛ الحكومة الموقف لكي تنال منهُ، ونعود القول إن الجواهري كان حذراً في تأييده للانقلاب ومرهوناً بما يحققه من مكاسب على الرغم من اندفاعاته الأولى، وحال انفراد بكر صدقي بالسلطة واستقالة الوزراء الإصلاحيين انقلبت مواقفهِ وأصبحت الى جانب الجماهير.
لم يعمد الجواهري الى إصدار جريدته الانقلاب ثانيةً وبعد أن سقطت حكومة الانقلاب أصدر جريدة أخرى في 6 أيلول سنة 1937 تحملُ أسماً جديداً وهو”الرأي العام”التي عرف بها الجواهري أكثر من غيرها من الصحف التي أصدرها، إذ استمرت في الصدور حتى اوائل عام 1961 على الرغم من تعرضها للتعطيل بين الآونة والأخرى.

عن رسالة (محمد مهدي الجواهري
ودوره السياسي في العراق حتى عام 1997)