مع موسوعة الهاشمي الموسيقيّة

Wednesday 12th of September 2018 07:16:33 PM ,

عراقيون ,

صدرت في أبو ظبي موسوعة تفتقدها المكتبة العربية لدقتها مادةً وإخراجاً وهي من تأليف الناقد العراقي عادل الهاشمي، الذي رحل عام 2011، وقد كان ذاكرة موسيقية مشبعة بكل ما له علاقة بالموسيقى، ولد في حي الأعظمية في بغداد 1946، درس الموسيقى في القاهرة ثم تخرج من الجامعة المستنصرية 1973، وعمل محرراً في صحيفة الثورة،

وله العديد من المؤلفات منها"فن التلاوة أصوات وأنماط"و»مسيرة اللحنية العراقية"و»أصوات وألحان كردية"وغيرها، غير أن موسوعته التي صدرت في أبو ظبي عن هيئة أبوظبي للثقافة والسياحة، تظل درة إنتاجه.

ويرى عادل الهاشمي في مقدمة موسوعته، أنه في القرن التاسع عشر كانت هناك مقابلة فريدة بين المتوارث من الفن الغنائي وبين القرائح المتطلعة إلى تشوفات المستقبل القريب، وهي مقابلة في رأيه لم تأخذ وظيفتها البنيوية وكامل الاهتمام من الدارسين والباحثين المتخصصين حتى الآن، ويرى أنها الأساس الضروري لبناء الأغنية التي أشرقت بفنها الجديد على كامل الفرشة الزمنية للقرن العشرين.
ويبين لنا عادل الهاشمي أنه انطلاقاً من هذا التحديد يمكن التكهن بالعلاقة الحميمة التي ربطت إنجازات القرن التاسع عشر بإنجازات القرن العشرين، ففي القرن التاسع عشر ترأس منطق أن صياغة الفن ترجع ملكيته إلى الموروث، وفي القرن العشرين صار فناً يقابله ويضاده في كثير من الوجوه، ترأس فيه منطق، الامتداد، أي صياغة فن ترجع ملكيته مناصفة بين الموروث والعصرنة، وهو فن يخلط بين الخبرة المكتسبة والخبرة المعيشة، والخبرة المكتسبة تستوجب التمييز، بينما الخبرة المعيشة خلاقة ومبدعة.
وذهب عادل الهاشمي إلى أنه في القرن العشرين، بدأت تهب فيه رياح العلم، لتعصف بالمواهب التي تتهرب من الاقتران بالعام الموسيقي، والفرق بين المواهب المعراة من العلم الموسيقي وبين المواهب المقترنة بالعلم الموسيقي، وهو الفرق بين شعور الحياة وبين منهاج المعرفة.
ويبدأ عادل الهاشمى رحلته مع الموسيقى العربية المعاصرة من عبده الحامولي ومحمد عثمان، فالأخير خلع على فنه طابعاً تطويرياً علمياً إلى حد ما، فشرع في جمع الفن الموسيقي ووضع له نظاماً، بينما غلب على فن الحامولي الارتجال، فنشأ التنافس بينهما، ومن ذلك مثلاً: أن الحامولي غنى دور (جاني الحبيب والكأس في إيده) من مقام النهاوند، بينما لحن محمد عثمان الدور من مقام توا أثر، وفي دور (في البعد ياما كنت أنوح) غناه الحامولي من مقام السيكاه، بينما لحنه محمد عثمان من مقام هزام، وعليه يمكن القول: إن الحامولي تفوق على عصره كله بصوته الأسطوري، وأن محمد عثمان طغى فى عصره بألحانه القوية.
وينتقل بنا عادل الهاشمي عبر صفحات كتابه لنراه يقف بنا عند المسرح الغنائي، حيث نهضت مصر بتقاليد البناء المسرحي، وهو يرى أن المسرح الغنائي كان مسرحاً للتصورات أكثر منه مسرحاً للواقع وتفجراته الاجتماعية، ولهذا لم يوفق المسرح الغنائي في التعبير عن تطور العلاقات الاجتماعية بقدر ما وفق في الإفصاح عن فكرة وسير تاريخية لها مساس شاحب بالواقع.
ويؤكد الكاتب أنه عبر عن نواء الطبقات المرفهة: لأنها كانت هي التي تموله، غير أن إسهامات سيد درويش أكسبت المسرح الغنائي الكثير من رصانته وإبداعه وحيويته، لأنه كان معبراً عن إنسان عصره، واختار سيد درويش موقفاً اجتماعياً جريئاً عبّر فيه عن طموحات كل المعذبين وبتعاونه مع الفنان الكوميدي نجيب الريحاني بتلحين مسرحية (حمار وحلاوة) و(العشرة الطيبة) طوى صفحة محمد عثمان والحامولي وغيرهما، ليفتح صفحة جديدة اسمها سيد درويش، فمن ناحية التأليف الموسيقي عمد سيد درويش إلى تعميق الخط المقامي دون تعقيد مستفيداً من الزخم العظيم للمقامات الموسيقية العربية، كما أنه عمل على إحياء التراث المحلي والغربي والعالمي مع معالجة أصيلة لصياغة اللحن، وكان المجال اللحني الذي أشاعه سيد درويش صورة للتماسك الذي يحمي الفنان وابتكاره ويدرج مواهبه في مذهب صحيح، كما أن سيد درويش صنع الكثير في مجال الأغنية الفردية مثل دور (أنا هويته وانتهيت، وموشح (يا شادي الألحان) وطقطوقة (زوروني كل سنة مرة).
تحولت الأغنية الفردية منذ عشرات السنين إلى التعبير بالجملة اللحنية، ثم تحولت إلى اللزمات الموسيقية، وبرز فيها فنانون في رأي المؤلف لن يتكرروا أمثال: محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي، وفريد الأطرش وأم كلثوم وأسمهان.
هنا ترى المؤلف يقف طويلاً أمام سلامة حجازي، حيث اعتبره اكتشافاً شعبياً أصيلاً، وأول من نقل الغناء من التطريب المحض إلى رواية الحدث القصصي، وقد ولد سلامة حجازي في الإسكندرية 1852 ميلادية، وعمل مع الفنان عزيز عيد، وعملا في المسرح الغنائي وظل يبدع إلى وفاته فى العام 1917، وتميّز صوت سلامة حجازي بالحلاوة والدقة، حيث كان فيه شجن رخيم ينبعث قوياً أنيقاً زاخراً بإتقان، كان غناؤه حافلاً بالنغمات العالية والمنخفضة معاً، فيه المد والترجيع الطويل، والتحكم الدقيق بالألحان.
ويفسح المؤلف صفحات لأم كلثوم، ويراها صورة من أشد صور الوضوح لحضارة الغناء، ولدت أم كلثوم في عام 1898 لأب منشد وقارئ للقرآن، فألحقها بكتاب الشيخ عبد العزيز حسن، وبدأت الغناء في سن الثالثة عشرة تنشد التواشيح والقصائد الدينية، ولفتت أنظار أبو العلا محمد وزكريا أحمد، فأحضراها من قريتها إلى القاهرة فى العام 1923، وكان لتعرفها على الشاعر أحمد رامي وأحمد صبري النجريدي، أثر في شهرتها، ولاسيما بعد أن قدما لها القصائد والألحان الرائعة، مثل"»كم بعثنا مع النسيم"للشاعر إبراهيم ميرزا، و(لي لذة في ذلتي) للشاعر نصر الله الدجاجي، وقصيدة (أمالي فتنت بلحظك الفتاك) للشاعر على الجارم، ثم تعرفت إلى الموسيقار محمد القصبجي، فتعهدها بما يملك من معارف ثرية بأصول الأنغام والإيقاعات، وعلمها العزف على آلة العود، لقد ضاعف أداء أم كلثوم في الغناء العربي من مسؤولية المغنيين: لأن صوتها كان يعيش تنامياً داخلياً في الطبقات والنبرات والقدرة الجمالية الخارقة، والثقة البشرية العربية في حنجرة أم كلثوم، لم تأت من معرفة شاملة لخصائصها الفياضة العجيبة، إنما لإجماع على تفوقها الغنائي.
وبين عادل الهاشمى أن غناء أم كلثوم للقصيدة وجد مجالاً خصباً في صوتها الذي يمتلك مساحة من الدرجات الصوتية، تتحدد بأوكتافين أي (ديوانين) في التعبير العربى، والديوان الواحد يساوي (8) درجات، أي ست عشرة درجة، والمقام الصوتي في حنجرة أم كلثوم يخرج كاملاً وبوضوح من المقام المنخفض (القرار) إلى المقام الحاد الصادح (الجواب)، وتميز هذا الصوت بقدرته على أداء الحركة الموسيقية بتركيز وعمق وخبرة، وقد احتلت مسألة الانتقال النغمي بين درجات السلم الموسيقي صعوداً وهبوطاً معاً، كما أن الدرجات الثابتة في الأنغام تنطلق من الذبذبات الصوتية لأم كلثوم على نحو فيه إعجاز، لأن حنجرتها قد ارتقت إلى مكان المعروفة والتأمل، مما يتيح لها قدرة إخراج الصوت النغمي على نحو مجسد، والتجسيد مكن لها أن تستغني كلية عن استعراض صوتها، لأنها تخدم التعبيرية الموسيقية في الغناء بالتلوين الصوتي تارة، والبلاغة اللفظية تارة أخرى، وبالقفلة المتقنة الطبيعية في الغناء بالتلوين الصوتي تارة، والبلاغة اللفظية تارة أخرى، وبالقفلة المتقنة الطبيعية العميقة، ويرى عادل الهاشمى، أن الفصاحة والبلاغة والترنم هي علامات أداء أم كلثوم للقصيدة العربية، فحفظها القرآن الكريم صقل نطقها، وقوّم لسانها، وغنت أم كلثوم الكثير من القصائد، وخلعت عليها من سطوتها الفنية، وكانت بارتجالها للألحان تعتمد على قواها التصويرية والخيالية وعلى عاطفتها المبدعة.
كما أفرد عادل الهاشمي مساحة من كتابة للفنانة المبدعة فيروز، والتي عثر عليها الفنان إخوان فليفل وهي في الخامسة عشرة لتغني في فرقته، واسمها الحقيق نهاد حداد، أطلق عليها الفنان حليم الرومي اسم (فيروز)، بدأ نبوغها في خمسينات القرن العشرين، وقدمت نفسها من خلال أغاني (عتاب) (مين دلك على الهوى) (راجعة) ثم أغاني فيها مستمدة فيها مزج بين الفولكلور والروح العصرية (تحت العريشة سوا) وأغاني مستمدة من أصول البناء العراقي في فن التلحين (ع الروزنا) ثم أخذت تغني لوناً لبنانياً قام بتشكيله الإخوان رحباني (نحن والقمر جيران) ويرى عادل الهاشمي أن الخط الذي تمثله فيروز في الغناء العربى لم يكن محصوراً بين الكلاسيكي القديم أو الجديد المنسلخ عن الجذور الأصلية للغناء العربي، بل هو هذا المزج المحكم في أصول الغناء العربي مع السماحات الأساسية في التطور الموسيقى والغنائي العالمى، كما أن صوت فيروز قدم الأغنية اللبنانية بإطار وصفي تفصيلي للتعبيرية الغنائية الفائقة وبأثر فوري غريب.
هذه الموسوعة مليئة بالتفاصيل، فالمؤلف لم يترك فناً من الفنون التي ارتبطت بالموسيقى إلا وقدمه فيها مثل: الشعر الغنائي، التلحين، الموسيقى، التوزيع، المسرح الغنائي.
هذه الموسوعة لم تأخذ حقها إلى الآن من الانتشار، لكني أرى أنه خلال السنوات المقبلة ستكون مرجعاً أساسياً خاصة أن المؤلف لم يكن مجرد سارد بل حملت الموسوعة بين سطورها آراءً نقديةً وتحليلاً عميقاً. وآمل أن تناقش هذه الموسوعة وموادها في محطات التلفاز العربية لكي تثري المناقشات ما جاء بها.

عن مدونة (اليوم السابع) القاهرية