إيميلي ديكنسون صانعة التُحف

Tuesday 4th of September 2018 06:33:06 PM ,

منارات ,

إيناس البدران
لا نأتي بجديد اذا ما قلنا أن الشعر الأصيل اذا كان له أن يقيم بعمق فإنه يحتاج الى تراكم زمني كافٍ حتى اذا ما حصل على اعتراف حقيقي، اعتراف يعبر عن ادراك وتقييم عميقين جاء ذلك نتيجة التمثل التدريجي المتزايد لأبعاد التجربة الشعرية.

وبالإمكان القول إن النتاجات الادبية العالمية حتى وقت قريب كانت تتمحور حول اجتراحات البطل الذكوري فيما ظل دور المرأة باهتاً ثانوياً تابعاً هامشياً، اما الادب المكتوب بأقلام نسوية فكان يتخفى خلف مرجعيات وأسماء ذكورية ولم يتم تقييمه كما يجب للنظرة الفوقية السائدة آنذاك، وما شاع استخدام مصطلح الأدب النسوي سبعينات القرن الماضي، الا تأكيداً لصوت المرأة الذي بدأ يصدح لأول مرة معبراً عن موقف واحساس ووعي فكري ومعرفي.

وعليه فإن مبادئ التذوق الجمالي والفني المطبقة في تقييم الأعمال الادبية حتى الآن – رغم الادعاءات بالتزام الموضوعية والحيادية – مليئة بالأوهام الذكورية ومنحازة بشكل سافر للمصالح والمنطق الذكوري. فمصطلح الأدب النسوي يعبر عن الأدب الذي يشكل وجوده خلخلة للثقافة الذكورية المهيمنة أو بحسب تعريف الفيلسوف الانكليزي سايمون بلاكبيرن من أنه منهج يلزم اصحابه بتصحيح انحرافات التحيز التي تجعل المرأة في مكان التابع وتستصغر شأنها. ثم تشكلت مدرسة النقد الأدبي النسوي بعدها تأكيد الحاجة الماسة لإعادة تقييم الاديبات المعروفات والمغمورات واخذ اعتراضاتهن وآرائهن وقيمهن ومصالحهن بنظر الاعتبار من خلال الاهتمام بكشف النقاب عن المؤلفات النسوية المنشورة وغير المنشورة وإعادة تقييمها واثبات وجود تجارب نسوية ابداعية مستقلة ومتميزة في انماط التفكير والشعور والتقييم والاحساس بالذات ازاء العالم الخارجي، وقد أفلحت هذه الحركة في رفع المنزلة الأدبية للعديد من الأديبات الغربيات اللائي بقين حتى وقت قريب مغبونات نقدياً، كما ساهمت في جلب الانتباه لأعمال نسوية بقيت حتى وقت قريب مهملة باعتبارها لا تستحق الاهتمام النقدي الجاد. في المجموعة الشعرية للشاعرة الامريكية المعنونة"مختارات شعرية وقراءات نقدية للشاعرة إيميلي ديكنسون"يثير المترجم الشاعر نصير فليح نقطة مهمة حين يقول في المقدمة"اذا كانت ترجمة الشعر أمراً خاصاً فإن ترجمة شاعرة مثل إيميلي ديكنسون مسألة صعبة نظراً لأسلوبها المتفرد المشحون بالدلالات والايحاءات والاحالات المختلفة حتى كأن هذه الشاعرة ولدت خارج السياق المألوف للشعر والكتابة الامريكية". تتجلى هذه الحقيقة مع شاعرتنا فقد دفعت في حياتها ثمن تفردها من خلال صعوبة استيعاب أو تقبل كتاباتها آنذاك، حتى من قبل الذوق النقدي المتخصص، لكن ما اكتسبته بالمقابل كان ولايزال الاهتمام المتزايد عبر الأجيال بشعرها بعد رحيلها.
فما يميّز الملكة الفذة استعصاؤها على"نصائح"نقادها كونها تقع خارج الاطر الذوقية والاسلوبية والقوالب الجاهزة المتعارف عليها في عصرها وتتجاوز المستوى الجمالي والنقدي لزمانها، وهو ما يجعل الاحاطة بالأبعاد الخصبة للتجربة أمراً ليس بالسهل. وأبلغ دليل على ذلك المراسلات المشهورة للشاعرة ديكنسون مع الناقد الامريكي الشهير توماس ونتورث هيغنسون، الذي لم تمكنه قدرته النقدية من تشخيص تفرد التجربة الشعرية الفذة للشاعرة معتبراً خروجها عما هو متعارف عليه أمراً ليس في صالحها، ناصحاً إياها بالسعي لتطوير قدرتها وتجاوز ما فيها من"ثغرات."!!.
تمتاز ديكنسون بقدرتها الفريدة على تحسس أعمق ما في الروح الإنسانية من مشاعر وتجليات وتداعيات، ناهيك عن احساسها العميق بأدق تفاصيل الحياة وأسرارها رغم قلة تجاربها وصغر سنها الذي أمضت الشطر الأهم منه في عزلة تكاد تكون تامة عن المجتمع ردها البعض الى فشل واحباط عاطفي غير معلن فيما فسرها البعض الآخر بالطبيعة الشخصية والنفسية الشديدة الخجل والانعزالية.

"وعندما اصبحت كل السماوات جرساً
أصبحت مجرد اذن
أنا والصمت جنس غريب
تحطم منعزلاً هنا
***
ثم انكسر لوح في العقل
وسقطت الى اسفل، اسفل
واصطدمت بعالم بكل اندفاع
وأتممت المعرفة حينها"

غير أن انقطاع الشاعرة الى عالم عزلتها وتأملاتها وما اثمره من قصائد غنية بمعرفة العالم والنفس يدفع للاعتقاد بأن الابتعاد عن المجتمع وتداخلاته الكثيرة واتاحة الفرصة للذات لتأمل الخارج عن بعد ينطوي جزئياً في الاقل – على حس نافذ جعل الشاعرة تنفر من"الصيغ المألوفة"للوجود الاجتماعي الى حالة من الوحدة تكون فيها اقرب الى العالم مما لو كانت داخل المجتمع، كقولها"قد يكون الحال اكثر وحدة … بدون الوحدة". ولدت الشاعرة في مدينة امرست بولاية ماستشيو ستي 1830 وكانت الابنة المتوسطة للمحامي البارز ادورد ديكنسون. وباستثناء رحلة قامت بها الى واشنطن وبعض الرحلات القصيرة الى بوسطن لعلاج عينيها فإنها ظلت في امرست في ذات البيت حتى وفاتها في أيار 1886 حيث حمل نعشها طلاب كلية امرست.
لم تنشر بحياتها اكثر من عشر قصائد من قصائدها التي ناهزت الألفين، وطبع أول ديوان لها بعد وفاتها بأربع سنوات، تميّز شعرها بالمعاني المضمّرة والإشارات الرمزية والأسلوب المختصر الشديد التفرّد حتى وصفها بعض النقاد بأنها صانعة تحف صغيرة.

"الجراحون يجب أن يكونوا حذرين جداً
عندما يتناولون المبضع
فتحت شقوقهم المرهفة مباشرة حيث
يتحرك المتهم.. الحياة"
******
الماء يعلّم بالعطش
الأرض بالمحيطات المنقضية
النشوة بالمخاض
السلام بمعاركه المحكية
الحب بالثرى التذكاري
الطيور بالثلج"
*****
لأني لم استطع التوقف للموت
فإنه بلطف توقف لأجلي
العربة ما حملت أحداً، سوانا
والخلود.

لحسن الحظ لا حاجة لتأكيد شهرة إيميلي ديكنسون فمعظم النقاد يبدون متفقين على انها تقف مع ويتمن على قمة الانجازات الامريكية في الشعر، وأنها اعظم شاعرة بين النساء.. كان ملاذها الى المطلق فلقد أصبحت واحدة من اعظم الشعراء في التاريخ دون أن تتحرك من حديقتها.