ملحمة الانتفاضة ونهار القمع الوحشي

Wednesday 4th of July 2018 06:37:35 PM ,

عراقيون ,

نبيل عبد الأمير الربيعي
بدعم من القوى المعادية للعراق ولثورة 14 تموز 1958 والتي تمثلت في نجاح تحالف حزب البعث الفاشي العراقي، والقوميين العرب، والقوى الرجعية، وحكومة عبد الناصر، مع المخابرات الأمريكية، وشركات النفط، ورجالات الإقطاع في العراق، في 8 شباط الأسود من عام 1963، لإسقاط النظام الوطني الجمهوري، على الرغم من المقاومة الباسلة التي أبداها الشارع الوطني،

وتخلي الحكم عن الجماهير بعدم مدها بالسلاح للدفاع عن وجودها، وعن المكتسبات التي حققتها الثورة لهذه الجماهير، فقد قام الانقلابيون بإراقة دماء الوطنيين وتصفية قادة الثورة من الضباط وقادة الحزب الشيوعي العراقي، فما كان إلا أن تحرك بعض أعضاء الحزب الشيوعي العراقي ممن لم يتم اعتقالهم في ملحمة بطولية يوم الثالث من تموز عام 1963 ضد قادة الانقلاب، فكان للعريف حسن سريع الدور في هذه الملحمة وبعض من أعضاء تنظيمه.

حسن سريع ذلك الفتى الذي لا يتجاوز من العمر الخامسة والعشرين، نحيف البنية وذو بشرة سمراء وله عينان صغيران، لكنهُ كان يمتلك قوة الشخصية وقابلية الحوار والصدق في التعامل مع الآخرين، ولد في بداية الأربعينات من القرن الماضي، في قضاء عين تمر التابعة لمدينة كربلاء ومن أصول عشائرية تعود لبني حجيم من مدينة السماوة المشهود لها بالمواقف الوطنية، ولكن بسبب فقر العائلة، الذي كانت صفة العوائل في تلك الفترة، فقد أكمل الدراسة الابتدائية في قضاء (شثاثة) وتطوع في الجيش العراقي، فانظم إلى مدرسة (قطع المعادن المهنية) في معسكر الرشيد، وبسبب قابلياته الذهنية العالية تم اختياره كمعلم في نفس المدرسة برتبة نائب عريف، كما كان حبهُ لإكمال دراسته وطموحاته مما أدى إلى التحاقه بالثانوية المسائية.

ملحمة حسن سريع وانتفاضة 3 تموز عام 1963:
بعد أن رزح العراق تحت نير الطغات الانقلابيين، وما قاموا به من تعذيب الشيوعيين وأصدقائهم وقادة ثورة تموز، فقد سجن وعذّب الآلاف منهم في معتقلات أنشأت حديثاً مما أحالوا الوطن إلى سجن كبير للقتل والتعذيب فما كان"أن انتفض نائب العريف حسن سريع ورفاقه التي تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والسادسة والعشرين.. كان يقدر عددهم بحوالي الألفين»(1)
وقد أشار عزيز سباهي في كتابة عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي:
“إن كادراً حزبياً عمالياً يدعى إبراهيم محمد علي والذي كان يعمل في إطار اللجنة المحلية للمشاريع العمالية الصغرى التابعة إلى منطقة بغداد، هو الذي بدأ هذا النشاط وقادهُ.. وكان من بين الذين انخرطوا فيه وبهمة، محمد حبيب (أبو سلام) وهو عامل في مقهى، وكان يقود لجنة قاعدية.. فقد عرف التنظيم بـ((اللجنة الثورية))»(2)، ولكن وقوع قائد المجموعة إبراهيم محمد علي في قبضة الحرس القومي، وقد واجه التعذيب حتى لفظ أنفاسه من دون أن يفشي سراً مما خلف من بعده في قيادة التنظيم محمد حبيب (أبو سلام)، فقد بدأ حسن سريع مع محمد حبيب التهيئة لانطلاق الانتفاضة بعد تحرك ثوري لتنظيمهُ والذي كان ينوي إطلاق سراح المعتقلين في سجن رقم واحد في معسكر الرشيد والمقدر عددهم بأكثر من 1300 ضابط من مختلف الرتب والأصناف ومجموعة كبيرة من الطيارين والأطباء وبعض المصادر تؤكد إن عدد السجناء يقدّر بـ(1150) سجيناً، فكان حسن سريع (عنصراً فاعلاً في التحضير وتنفيذ الانتفاضة، فهو الذي هيأ المكان لاختباء المنفذين في وحدته) (3)، فقد تم الاتفاق على ساعة الصفر في الخامس من تموز 1963، و لكن هذا الموعد قدّم إلى يوم الثالث من تموز لأسباب عدة، منها التخوف من اكتشاف أمر التنظيم بسبب إلقاء القبض على عريفين من قادة التنظيم وخشية أن يبوحا تحت التعذيب بخطط الحركة، سارع قادة الحركة إلى تنفيذ خطتهم، وقد تمكنت هذه المجموعة في الاجتماع الأخير في الساعة الثانية عشرة والنصف من ليلة الانتفاضة في أحد أكواخ كمب سارة، حيث توزيع المهام من تحديد ساعة الصفر، فقد أقسم حسن سريع وأعضاء حركته :(نقسم بتربة هذا الوطن أن نحررهُ من رجس المجرمين)، وتحت جنح الظلام تحرك الثائر حسن سريع ومجموعته من جنود وضباط صف المدرسة المهنية العسكرية ومن المدنيين الذين وزّعت عليهم أدوارهم والملابس العسكرية، كما حمل البعض رتب الضباط منطلقين نحو كتيبة الهندسة، وقد سيطروا على باب نظام المعسكر والحرس المتواجد فيها، ثم السيطرة على كتيبة الهندسة، وعلى أغلب أقسام معسكر الرشيد والتي كانت تضم أعداداً كبيرة من الدبابات والمدرعات والطائرات، وقد تمكن حسن سريع من (اعتقال ضابط الخفر وكسر مشجب السلاح ووزع السلاح على المنتفضين، وهو الذي أطلق الرصاصة الأولى لبدء الانتفاضة، وكان الموجّه الرئيس لها)(4)، فكان أول الأمر القيام باعتقال قادة الانقلاب بعد استدراجهم إلى المعسكر، وقد تم ذلك ومنهم :
(طالب شبيب (وزير الخارجية)، حازم جواد (وزير شؤون رئاسة الجمهورية)، منذر الونداوي (القائد العام للحرس القومي)، كما تم اعتقال عدد من الضباط الموالين لسلطة الانقلاب البعثي داخل المعسكر، وقد رفض الثائر حسن سريع تصفيتهم وإنما طلب بعد نجاح الحركة تقديمهم إلى محكمة عادلة تحاكمهم وفق الجرائم التي اقترفوها بحق الوطنيين من أبناء الشعب وقادة ثورة تموز، وكانت من أقواله المأثورة (لا تقتلوا الأسرى سنقدّمهم للمحكمة)، بهذه العملية تحقق الهدف الأول من حركة حسن سريع، أما الهدف الثاني فكان السيطرة على معسكر الرشيد وإطلاق سراح السجناء من الضباط من سجن رقم واحد وقد تمت تهيئة الطائرات بالعتاد لهذا الغرض من قبل من أُنُيطت بهم هذه المهمة للسيطرة على بغداد وإسقاط حكم الانقلابيين، عند الهجوم من قبل مجموعة حسن سريع على السجن رقم واحد، فقد كان لدفاع حرّاس السجن وآمرهم النقيب حازم الصباغ (الأحمر) المستميت مما أخر إطلاق سراح الضباط وأعطت الفرصة للسلطة لإحباط المحاولة، الأمر الذي جرى في النهاية إلى انكشاف المحاولة وإحباط الهجوم بعد حين، إذ سرعان ما تدفقت دبابات النظام، واقتحمت المكان، وطوّق معسكر الرشيد بكامله، ثم هرع بعد مضي أكثر من ساعة قادة الانقلاب برمتهم نحو المعسكر، بما فيهم احمد حسن البكر والمشير عبد السلام عارف، ودوى إطلاق الرصاص، سقط على أثره عدد كبير من الجنود والضباط، وتم إلقاء القبض على الثوار ومطاردة الفارين منهم، ثم تلا هذه الإجراءات تشكيل محكمة عسكرية صورية خاصة، أصدرت أحكاماً بالموت في غضون يومين على أكثر من ثلاثمئة شخص.
بسبب تخاذل أحد أعضاء الحركة والمدعو (خلف شلتاغ) والذي أنيطت به مهمة قيادة الدبابة الوحيدة المتقدمة نحو السجن والذي يحمل بداخلها المشير عبد السلام عارف، و تواجد قوة عسكرية خارج المعسكر مجهزة بالأسلحة الثقيلة، مما ساعدت على مهاجمة السلطة لقوة حسن سريع، حيث دارت معركة بين الطرفين وقدّموا الشهداء، إضافة إلى عدم التكافؤ بين الطرفين، مما ساعد انقلابيي السلطة على إجهاض الانتفاضة واعتقال ما تبقّى من المجموعة، فقد تم نقل أعضاء مجموعة حسن سريع إلى مقر هيئة التحقيق والتي كان يرأسها ناظم كزار وعمار علوش وخالد طبرة، فقد أحيل قائد الحركة حسن سريع ومجموعته إلى المجلس العرفي العسكري، وتم الحكم عليهم بالإعدام.
محاكمة حسن سريع ومجموعته الثائرة:

في المحكمة الصورية التي شكّلها قادة الانقلاب سُئل رئيس المجلس العرفي العسكري لحسن سريع أثناء المحكمة:
- رئيس المجلس العرفي - كيف سمحت لنفسك بوضع رتبة ملازم أول ولبعض المنتفضين كذلك؟
- حسن سريع- وضعت أقل رتبة ضابط في الجيش العراقي، وكنت سأنتزعها بعد نجاح الانتفاضة.
- رئيس المجلس العرفي- كيف تتقلّد رتبة ملازم أول وأنت نائب عريف؟
- حسن سريع- كيف يتقلّد العقيد عبد السلام عارف رتبة مشير برمشة عين وهو عقيد؟
- رئيس المجلس العرفي- هل تريد أن تصير رئيس جمهورية؟(5(
- حسن سريع – ما أردت أن أصير رئيس جمهورية أو ضابطاً كبيراً في الجيش، إنما أردت أن أسقطّ حكومتكم..
كما أجاب حسن سريع بتحمل مسؤولية الانتفاضة كاملة بقوله (أنا المسؤول عن الثورة، وقد أرغمت الآخرين على حمل السلاح، إنهم أبرياء)، كما يؤكد أحد أعضاء الحركة (نعيم الزهيري) في مقال على موقع الناس"كان الشهيد حسن سريع لا ينام ويردد.. وراءنا نوم طويل!! كانت ثقة حسن بالحزب بلا حدود ويقول.."ستكبر ابنتي وترفع علم الثورة". كما ندم حسن سريع لعدم تصفيته قادة الانقلاب و يذكر نعيم الزهيري"إن حسن سريع كان يردّد ونحن في السجن، والله لو قتلناهم أو قتلنا رؤوسهم لكان على الأقل خلصنا الناس من بعض الرؤوس القذرة!! ثم عقّب حسن سريع على تخاذل حرس باب النظام الشمالي (الأفندية بدلاً من أن يعتقلوا المجرم عبد السلام وقد جاء برجله ووقع بين أيديهم، يأخذ جليل الخرنوب سلام الأمراء لهُ، وبذلك ارتبك الجنود، فالثورة ضد منّ إذا كنا نأخذ سلام الأمراء لرئيس الجمهورية؟ لقد رأيت راضي شلتاغ وخلف حسين هنالك في التحقيق وبصقت بوجهيهما».
وبعد أكثر من أسبوع نقل حسن سريع إلى السجن العسكري رقم واحد مع مجموعة كبيرة من ثوّار المعسكر إلى أن أعدم مع رفاقه في فجر يوم 31/ تموز/ 1963 وهو يتغنّى :
السـجـن لـي مـرتـبــة والـقـيـد لـي خـلـخـال....والـمشـنقـة يـا فهــد مـرجـوحــة الأبطــال
أعدم حسن سريع مع (30) من رفاقه وهي الوجبة الأولى رمياً بالرصاص.