ماركيوز الفيلسوف الذي فتّش في دفاتر ماركس

Tuesday 15th of May 2018 06:18:55 PM ,

منارات ,

علـــي حســـــين
كان على فراش المرض في 1978، ما بين غياب وصحو، حين سأله محرر الكتب في النيويورك تايمز:"هل كنت تتصور أن كتابك"الإنسان ذو البعد الواحد"الذي أشعل الانتفاضات في أوروبا قبل عشرة أعوام، يمكن أن يذهب الى النسيان بهذه البساطة؟"لكنَّ هربرت ماركيوز كان في تلك اللحظة يفكّر فيما اذا كانت سنوات حياته التي شارفت على الثمانين ذات جدوى،

تذكّر أنه ذهب ذات يوم الى المعلم هيدجر ليسأله السؤال ذاته: هل يأتي ذلك اليوم الذي يطوي النسيان كتاب الوجود والزمان؟ كان هيدجر آنذاك مهموماً بطرح الاسئلة، وبإكمال المشروع الوجودي الذي وضعه أستاذه هوسرل، وذلك عبر استخدامه لكل الوسائل الفلسفية للإجابة عن السؤال الأساس الذي شغل بال واضع الفلسفة الظاهراتية: ما هو الوجود؟
لم يكن أستاذ الفلسفة الذي تخصص في دراسة فكر هيغل وكرَّس حياته العلمية لإثبات أن فكر معلم الفلسفة الألمانية يحتوي على عناصر منها ما هو ثوري ومنها ما يُمهِّد مباشرة للثورة، وكان كتابه (هيغل والثورة) قد أثار حفيظة الحركة الديمقراطية الشعبية الألمانية التي رأت فيه محاولة لتجميل صورة فيلسوف كان يؤمن"بالبطل المطلق"، لم يكن هذا الأستاذ وقد بلغ من العمر سبعين عاماً، يحلم بأنه سيصبح واحداً من نجوم المجتمع الغربي تحاصرة الفضائيات ويرفع الشباب والطلبة صوره في شوارع باريس وجامعاتها، ويتحوّل كتابه"الإنسان ذو البعد الواحد"عام 1968 الى إنجيل لشباب أوروبا الغاضب والحالم بالتغيير.
************

سمع وهو يجلس في مكانه المعتاد في زاوية من المقهى يدخّن غليونه ويكتب ويقرأ، اسمه يتردد على لسان فتاة جميلة منشغلة بحوار ساخن مع زميل لها :
- سارتر أصبح من الماضي، هكذا قالت الفتاة.
- إذن مَن هو المؤهل بنظرك لكي يُلهم هؤلاء الشباب؟ قال زميلها:
- لا يوجد أحد على التعيين، لكن نحتاج الى قائد فيه شيء من جيفارا وأشياء من هوشي منه وأفكار من ماركيوز.
قال الشباب : لكنهم جميعاً ليسوا فرنسيين.
- الثورة لا وطن لها ألم تقرأ ما فعله ريجيس دوبريه.
كان دوبريه قد رمى قبل ثلاثة أعوام مُتع باريس ولياليها الساحرة وراء ظهره، واتجه صوب كوبا حيث يبدأ أولى رحلاته في عالم الثورة الضاج بالمواقف والحروب والسجالات.. ابن العائلة الثرية لم يحمل معه سوى حقيبة ملابس وكتاب الثورة المغدورة لتروتسكي..هناك تبدأ رحلته الأولى في الجبال والأدغال برفقة جيفارا وكاسترو.
وضع غليونه جانباً وهو ينظر الى الفتاة التي كانت تحمل نسخة من كتاب"الإنسان ذو البعد الواحد"، فصاحب الوجودية فلسفة إنسانية ظل حتى يوم أمس يعتقد أن كتبه هي التي تحرِّض الشباب وأن الوجودية أصبحت اليوم بديلاً لكل الفلسفات، فهل يعقل أن يسيطر كاتب يحاول أن يجمع بين ماركس وفرويد في إناء واحد، من أن يصبح مُلهماً لشباب أوروبا؟
لم يكن سارتر قد أدرك بعد أن الكتاب الذي أهدته إليه سيمون دي بوفوار، وطلبت من أن يقرأه بتمعّن، يمكن أن يحقق هذا النجاح، وكان قبل أشهر قد كتب عن الإنسان ذو البعد الواحد في مجلة الأزمنة الحديثة مقالاً ينتقد إدراج ماركيوز الطلبة والشباب، بين هؤلاء الذين هم بلا أمل أو بين الفئات الاجتماعية المنبوذة، فالطلبة في رأي سارتر، ينتسبون الى الفئات الاجتماعية الوسطى والصغيرة ويعيش أغلبهم على دخول أولياء أمورهم، ويرى سارتر، أنّ استبعاد ماركيوز للطبقة العاملة من القوى الثورية الجديدة، خطأ لا يُغتفر.
يتذكر سارتر جيداً أن صديقه اللدود البير كامو، كان متحمساً لكتاب ماركيوز هذا، وقد أقنع صديقه الناشر غوستاف غاليمار، قبل أن يتوفى بأشهر أن يترجم كتاب"الإنسان ذو البعد الواحد"الى الفرنسية، وحين صدرت طبعته الأولى، لم يحظَ بالقبول وبقيت نسخه مكدّسة في مخازن غاليمار!
************

أيار عام 1968 شوارع باريس تكتظ بالطلبة الغاضبين الذين يرفعون عبارة"إرحل"في وجه ديغول، في ذلك الزمان الذي نشرت الصحافة فيه صورة لسارتر وهو يصعد على أحد البراميل يوزّع المنشورات التحريضية ضد الجنرال، كان الطلبة يتداولون كتاباً ظل مجهولاً لسنوات لمؤلف ألماني يعيش في أميركا اسمه هربرت ماركيوز، أما الكتاب فكان بعنوان"الإنسان ذو البعد الواحد"، والكتاب يفسر لماذا على الطلبة أن يغضبوا ويقودوا التغيير، ويغذي فيهم روح الثورة والسخط على الأوضاع، حيث يحتل النقد الاجتماعي والسياسي الجانب الأكبر في تفكير ماركيوز ويشغل العدد الأكبر من معطم صفحات كتبه، ولا يقتصر النقد على نظام معين، بل إنه ينتقد كل النماذج الموجودة سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية، وهو يرى أن الاحادية هي مرض العصر، فالإنسان ذو بعد واحد في المجتمع الرأسمالي الحديث، وفي التطبيقات الاشتراكية التعسفية، إن البعد الواحد باختصار، هو سمة العصر الحديث في أشدّ صور بؤسه وانحطاطه.
كانت وسيلة ماركيوز لكي يقدّم نظريته عن انسان البعد الواحد، أن يعيد قراءة أعمال ماركس الشاب، الى جانب اعادة تفسير افكار فرويد ليمزجهما بحيث تنتج فلسفة جديدة تلائم روح الحاضر، فماركيوز يؤمن بأن الآلة في المجتمع الرأسمالي تتطور لتقلل جهد العامل والعقول الالكترونية والسفر الى الفضاء، لكن هذا المجتمع الذي يُسمى مجتمع الرفاهية أو الوفرة، هو مجتمع زائف، لماذا؟ يجيبنا في كتابه"الانسان ذو البعد الواحد"قائلا: التكنولوجيا توفر، لكنها تفرض نوعاً جديداً من الاستبداد"المقبول"، فالمجتمع الصناعي وبسبب تطور التكنولوجيا يعطي مزيداً من الوقت الفارغ، ولا يعطي الوقت الحر، وهو يمنح أبناءه مزيداً من الفراغ، لا مزيداً من الحرية.
ويحلل ماركيوز ظاهرة حلول التكنولوجيا محل الاستبداد، بان مجتمع الوفرة يشدّد قبضته على الإنسان بوسائل علمية حديثة، بعضها منظور وبعضها مخفي وأخطر من كل هذا أنه يجعل الإنسان يقبل الاستبداد مقابل بضع مواد استهلاكية.
لقد وجهت انتقادات عديدة لآراء ماركيوز، منها أنه يغفل تصوير التناقضات داخل المجتمع الرأسمالي، ولكنه يصر على أن الطبقة العاملة في هذا النظام لم تعد تملك الحرية، ولا القدرة على الانتقال بالمجتمع الى التغيير الكيفي، ويلاحظ ماركيوز في"الإنسان ذو البعد الواحد"، أن أبناء الطبقة العاملة هم الذين سيصبحون في المستقبل التكنوقراطيين والعلماء والمهندسين وأصحاب رؤوس الأموال، وبمعنى آخر، فإن فرصة الانتقال بهذا المجتمع انتقالاً كيفياً تتضاءل ما دامت مستمرة في تطوير وسائل التحكم الشامل في الرأي العام.
ولهذا لم يُفاجأ ماركيوز، حين تبنّى الطلبة أفكاره ونشروا كتاباته، لأنه ظل يؤكد مراراً، أن الطلبة هم الفئة التي لم ترتبط بعد بعجلات الإنتاج والمصالح الاقتصادية التي قضت على الأمل في تغيير المجتمع تغييراً كبيراً.