ياسين النَّصير.. الثقافي والفلسفي في «المكانية والشفاهية»

Wednesday 9th of May 2018 06:26:47 PM ,

عراقيون ,

ناجح المعموري
كانت الشفاهية من اهتماماتي الثقافية منذ انشغالي بقراءة ودراسة نشيد الإنشاد، السفر العراقي المعاد ترتيبه بدقة وذكاء وإعادة إنتاج نصوص الزواج الإلهي المقدس، وتسلل هذا الاهتمام لعنايتي الخاصة بتجربة الشاعر موفق محمد المتميزة بعناصرها الفنية وقد تبدّت مراقبتي له بإصدار كتابي النقدي"قبعة موفق محمد"وظل هذا الانشغال ملازماً لي،

حتى تحول الى مفردة مع عنوانات ثقافية ومعرفية مثل الجسد، المخيال، الفوتوغرافيا ضمن تفاصيل البرنامج الثقافي لاتحاد الأدباء، وحاولت استكتاب عدد من الأسماء الثقافية ولم أجد غير الأستاذ الناقد ياسين النصير الذي اقترحت عليه"المكانية والشفاهية"وفعلاً قدّم النصير محاضرة طويلة بحضور عدد قليل من جمهور الاتحاد، بعد تغير وقت الفعاليات الى المساء، بعدما كانت صباحية في محاولة من أمانة الشؤون الثقافية لاستعادة حياة بغداد المسائية من خلال تنوع الفعاليات ومن بينها المحاضرات الثقافية والأدبية.

كانت محاضرة الناقد ياسين النصير مفاجأة، استدعتني لتقديم الملاحظات مع عدد من الأدباء والمثير قادت الحوارات النصير الى تعميق ملاحظاته وفرك بعض مفاهيمه، ليقدم تنوعات مثيرة للدهشة واستطيع إيجاز ملاحظاتي والتي تتمظهر في اغلبها لاقتراح وجهة نظر خاصة وفي غيرها اختلاف، مثلما تأكد ذلك حول دور المقهى.
أنا واثق بأن الأستاذ ياسين النصير أكثر قرباً لموضوعه الشفاهية والمكانية، لذا ألححت عليه كثيراً من اجل الذهاب نحو هذا الموضوع وذلك لسبب منطقي ومعقول وهو علاقة ياسين المركزية مع المكان ودراساته الكثيرة في هذا المجال، وقد تبلور أكثر فأكثر، لحظة إدراك النصير لأهمية الفلسفة وعصبها الظاهراتي، بالإضافة الى عمق ثقافته وتنوعها في المجال السوسيو ثقافي. وتأكد لي ذلك بعد اطلاعي على كتابة"المألوف واللا مألوف"وما اتسم به من تنوع موسوعي، كما أنه دائماً ما يقتحم ما لم تألفه الثقافة العراقية.
تبدو الشفاهية مجازفة، لأنها غير مألوفة في الحياة الثقافية، على الرغم من وجود تجارب ما بعد حداثية في الآداب العراقية مثل تجربة الشاعر موفق محمد والقاص والروائي شوقي كريم وسيادة الكلام والقاموس العامي. لكني لابد من التذكير بأهمية التعرّف على الفلسفة وعلاقتها بوسائل التواصل والمكانية التي كشف ياسين النصير عن جوهرية العلاقة بينها والشفاهية، بحيث ذهب لاختيار تطبيقات حكائية، قدّم عبرها قراءات عميقة وذات بلاغة في التقاطاته للشعرية التأويلية. وتلمس فيها بذكاء شفاهية المعنى، وتمظهرات الدلالة التي تنتجها القراءة اعتماداً على العلاقة الحاضرة دائماً بين المتلقي والنص التوراتي المقدّس وتأثيراته في صياغة نوع من العرفان والتصورات الدينية اليهودية. وأثارت قراءة ياسين النصير للحكايات الثلاث ملاحظة ليست جديدة، وهي مهارة الصداقة العميقة بين ياسين والنصوص التي يشتغل عليها نقدياً.
حدد جاك دريدا مفهومه للشفاهية قائلاً: تعبّر انفعالات النفس بشكل طبيعي عن الأشياء، أنها تمثل نوعاً من اللغة الكونية التي ما أن تتشكل حتى تنمحي بذاتها، أنها مرحلة الشفاهية. ويقصد دريدا مغادرة وسيلة التحاور التقليدية الممثل لها بالمحو. وذهب المفكر تودوروف الى أن الحياة خسرت في صراعها مع الموت، لكن الذاكرة انتصرت على الفناء ورأي تودوروف أكثر دقة في تمثيل الشفاهية والتعبير عنها، الموقف الفلسفي لعدد من الفلاسفة الإغريق الذين اقتنعوا بالشفاهية واستمرار حضور الذاكرة، لذا ابتعد الكثير منهم عن التدوين لدروسه الفلسفية، من هنا ذهب الناقد عبد الله إبراهيم لتقديم العناصر الاختلافية بين الشفاهية والكتابة في الفكر الإغريقي، وتمكن من أعلاء الحضور، التداولي للكلام، وتوصل الى العلاقة الداخلية بين اللغة والعقل وحضور المركزية الغربية.
اقترح بورديو مصطلح"القاطرة"على المكانية والزمانية وقد استثمرها ديفيد هارفي وقال بأنها التجارب والتحولات التي تحصل في كل منهما ويكون لها انعكاس على الأخرى، واعتقد بأن الشفاهية زمانية وتاريخية وكلما تعمقت التحولات والتصورات كلما انسحب فضاء الشفاهية. لكن تظل قائمة وحاضرة باستمرار ما دامت الأرض المفتوحة والصحراء، بتأثيرها الثقافي ودورها بتفعيل التخيّلات وتحفيز الذاكرة على استعادة الكثير من المحفوظات الموروثة بوصفها خزنة الأسلاف الثقافية.
تتمظهر العشيرة بالانتماء الكلّي للمضافة والثقافة وأفراد المكون الاجتماعي هم الهيئة العامة للعشيرة. لكني اعتقد بأن التحول الاجتماعي والثقافي البارز في الريف هو انفتاح العلاقات المتباينة بسبب الانتماء الثقافي للعشيرة والذهاب نحو المقهى وضرورات الانتباه إليها. حيث تحولت بشكل تدريجي الى مكان تجتمع فيه مكونات القرية العشائرية، وترتضي التواجد وسط المقهى، الذي صار مكاناً موحداً لهم على الرغم من تباينات ليست جوهرية، والمقهى كمكان حاضن للجماعات التي عرفت المجاورة وسط المكان / المقهى، حيث هي الفضاء الجامع للمكونات في وقت الفراغ والاستراحة التقليدية. هذا التحول مهم، لأن الأفراد اختاروا المقهى مكاناً للمحاورة والمجاورة ونشأت لحظة ثقافية جديدة، شهدت القبول بالتباين والاختلاف وتعميق التواصل والتبادل. وعبر ديفيد هارفي مختلفاً عن غيره وأشار الى أن تعبيرات المكان عديدة أهمها الإشارات والالماحات والرموز والمعارف التي تسمح لهذه الممارسات المادية بأن تغدو مداراً للحديث بمعزل عن مستوى تناولها الذي يتدرج من الكلام العامي اليومي الى أعلى الاختصاصات الأكاديمية وأكثرها دقة"الهندسة، العمارة، الجغرافيا، الايدلوجيا، العلوم الاجتماعية».
الشفاهية نظام ثقافي تتبدى عناصره المركزية من خلال وسائل الاتصال التبادل مثل الإذاعة والصحف وسيادة الكلام بين الأفراد والجماعات كما قال الناقد سعيد الغانمي. والحضور الحقيقي الواسع لها في الريف، لأنها من السمات المميزة للمكانية هناك وخصوصاً في المراحل المبكرة التي تشكّلت بها التجمعات الريفية / الزراعية. وأبرز المميزات المعبرة عن ذلك هي المضافات الخاصة بالجماعات التي اعتنت تماماً بوجود مضافة خاصة بالجماعة تلتقي فيها وقت فراغها ودائماً ما يكون خاضعاً للتوافق بين ممثل الجماعة وأفرادها وكلما تنوعت الجماعات، تعددت مضافاتها، وتباينت الانشغالات على الرغم من وجود المشترك الزراعي. بوصفه قاسماً في حياتهم وناظماً لبقاء الشفاهية واستمرارها مع تقاويم زمنية خاصة بالمواعيد الزراعية. كل هذه التنوعات الثقافية حاضرة عبر الشفاهية.
الريف فضاء مبكر للشفاهية. ويعني في أول ما يعنيه غياب السلطة ذات الوسائل القامعة للإنسان، وهذا لا يلغي وجود ثقافة ضاغطة وهي ثقافة العشيرة المتميزة بقوانين وسنن تتوافق بما ومن خلالها مع غيرها مع العشائر.
*****
كرست الشفاهية حضورها في البيئة الزراعية شعرياً وذلك عبر استثمارات المواد الأولية الموجودة في المكانية لإعداد ما يحتاجه الإنسان من سكن ومكملات له، ضرورية لإدامة حياته اليومية، ومثال ذلك تشييد البيت البسيط بالطين وبقايا المواد الزراعية والاستفادة من كثرة النخيل. هذه مكونات داخلة في البناء وسريعة التحرك لحظة تغيرات المواسم والفصول، لأن البعض منها لا يحتاج مهارة للإضافة التكميلية والاستغناء، كما كل المتوفرات البيئية لها شحنة جمالية واضحة على المكان.
كنا قد ذكرنا غياب السلطة سابقاً من دلالات الشفاهية المكانية وكذلك عدم وجود العدل / السجن في الريف، على الرغم من سيادة الثقافة العشائرية / العرفية والناظمة للعلاقات الاجتماعية في الريف. ويوفر مثل هذا الغياب حضور فضاء أوسع لحرية الكائن ويتمثل في اختبارات زمنه الخاص لمغادرة البيت والتوجه الى الحقل الزراعي والكائن مسؤول مباشرة عن تحديد وقت الذهاب والعودة ونستطيع اختبار كلام ديفيد هارفي الذي أكد على وجود"لغة أو رموز"مستقلة للزمان أو المكان، ففي وسعنا على الأقل ترك الاهتمامات الاجتماعية والبحث مباشرة من خصائص لغات المكان، الزمان بوسائل تواصل.... وهي أن الزمان والمكان"ولغتهما"لا يمكن أن تفهم باستقلال عن العقل الاجتماعي.
أخيراً أؤكد بأن الناقد ياسين النصير، قدّم محاضرة حيوية وسط حضور قليل وفاعل حوارياً وتبدّت مهارة النصير في حفرياته العميقة في موضوع بكري مثل الشفاهية، واشهد بأني منبهر بمحاضرته القابلة للانفتاح على مجالات أخرى مكونة لمكملات الشفاهية، وهي كثيرة ومن أهمها الكتابية وعلاقة السرد والشعر والرسم والنحت مع الشفاهية، كما بالإمكان العودة لأصول الحضارة العراقية / السومرية لغرض التطبيق والتأكيد على ذلك.