فـي (الـــخـالـــة تـــولا): صـراعُ الـرغـبـات الــسريّـة والــقيـم الـمُحافظة

Tuesday 1st of May 2018 06:27:21 PM ,

منارات ,

سعد محمد رحيم
روائي وكاتب راحل
تقوم رواية (الخالة تولا) لميغيل دي أونامونو (ترجمة صالح علماني وإصدارات دار المدى 2009) على فعالية ومركزية فكرة أخلاقية هي (الإيثار)، أي تكريس حياة أمرئ ما من أجل الآخرين، والتضحية في سبيلهم، عن قناعة تامة، يصاحبها إحساس مبهم بمتعة سريّة تقترب من المازوكية. إن الوجه الآخر لإيثار (الخالة تولا) سيظهر،

كما لو أنه تعبير عن أنانية مواربة تجد تجلّيها في صورة تحكّمها بحيوات الآخرين ورسم أقدارهم على وفق قناعاتها وأهوائها.

كذلك فإن عزوفها عن الزواج سيخفي أشد النزعات الجنسيّة سطوة، والتي ستحاول مواراتها تحت طبقة سميكة من السلوك الطهراني، والذي، ويا للمفارقة، لا نستطيع أن نقول عنه إنه زائف. فإذا كان ما يظهر على سطح الرواية يبدو واضحاً وبسيطاً، فإن ما يمور تحت السطح لهو في غاية التشابك والتعقيد. فهذه التناقضات بين ما هو مرسوم وبين ما هو ممحو.. بين ما نراه ونتلمسه حقاً عبر الجمل والكلمات وبين ما هو مستتر فيما وراء السطور ستصنع جدلية الرواية؛ صراعاتها وحركتها الداخلية ومسارها ونهايتها المفتوحة أيضاً. كانت (خيرتروديس؛ الخالة تولا فيما بعد) تنزع في القرارة العميقة لنفسها إلى أن يكون راميرو الشاب لها، وهذا ما لن تفصح عنه مباشرة أبداً. لكنه كان يصوّب نظراته إلى أختها روسا التي"تكشف تجسدها بروعة أمام كل ريح وكل نور زهرة"مثلما يصفها الراوي. ولأن راميرو كان يحمل روحه كلّها على سطح عينه، لم يعتقد أنه رأى أحداً سوى روسا". وهكذا سترتب خيرتروديس لزواج الاثنين وتقرر الامتناع عن الزواج والتفرغ لتربية أولاد أختها، ربما فقط كي تبقى قريبة منها ومن زوجها، في نوع من الولاء الروحي الرهباني، ووراء مسحة من كبرياء رصينة وهادئة، وقوة شخصية لا تُضاهى، تجعلها محور وملهمة حيوات من حولها، وحتى ساعة وفاتها بعد سنين طويلة. تقول لأختها أن قدرنا هو الزواج أو الدير، ولأنها لم تتزوج قط، فقد اختارت ديرها الخاص، واضعة له قوانين صارمة التزمت بها وأجبرت الآخرين على احترامها. ولقد سعت إلى تسريع زواج الاثنين قبل أن يتراجع أي منهما، كما لو أنها تخشى أن تفقد حضور الرجل (راميرو) قريباً منها وستخبر راميرو منذ البدء، أن روسا ستكون زوجة طيبة له، أما هي فستكتفي بدور الخالة الطيبة لأولادهما.
وفي أثناء عقد القران، بدت تولا في غاية السعادة إلى الحد الذي رأى بعضهم في الأمر"شيئاً غير طبيعي بعض الشيء"وحين يأتي المخاض روسا يتحدث الطبيب عن إخراج الطفل حياً أو ميتاً، غير أن تولا سترفض برباطة جأش فكرة (الطفل ميتاً) على الرغم من تحذير الطبيب من خطورة وضع روسا الصحي، وستشارك في عملية التوليد لتأخذ الوليد من ثم، بعد أن تنظفه، إلى أبيه؛"وحين أراد (راميرو) تقبيل تلك اللفافة من اللحم التي قُدمت إليه على أنها وليده لمست ركبته المتأججة ركبة خيرتروديس التي قالت له بهدوء: - اذهب الآن واشكر امرأتك واطلب منها المعذرة وشجعها". وستجعل تربية الطفل ورعايته من مسؤوليتها حتى قبل أن تسأل والديه عن رأيهما، وسيخرج من أعماق روح راميرو صوت يقول؛ أيّهما هي الأم؟. ستسمّي الخالة تولا الوليد على اسم أبيه (راميرو) وستعلن أن الوليد التالي سيكون أنثى وستسميها مثل اسمها (خيرتروديس). إن سلوكها هذا أشبه ما يكون بالتعويض عن رغبة مكبوتة في اللاشعور. فلماذا لم تستطع، أو لم يدعها القدر أن تجمع بينها (خيرتروديس) وبين راميرو، قررت أن تجمع راميرو وخيرتروديس أخاً وأختاً ترعاهما معاً وهكذا سيكون الأمر. إن قوتها الروحية تجعلها لا تهتز حتى إزاء حدث صادم هو موت أختها روسا في إثر ولادتها الثالثة، ويكون ديدنها الحفاظ على تماسك العائلة. وإذ يبدو أن الفرصة أتيحت لها ثانية للاقتران براميرو الذي يكون هو الآخر مستعداً ومتلهفاً للزواج منها، فإنها ترفض بقوة.. هذا السلوك الغريب والمفاجئ منها يجعل القارئ يتساءل عن السبب؛ أتراها تُخفي وراء شجاعتها الظاهرة خوفاً من خوض التجربة انسجاماً مع النداء البعيد لغريزتها؟ أهو الصراع بين جذب ذلك النداء والشد المضاد لوازعها الطهراني الأخلاقي الذي سيفرض عليها منطقه في النهاية؟ وهي التي لم تكن تخشى أقاويل الناس ماذا كانت تخشى؟ أكانت مترددة أمام أناها الأعلى بسطوتها الضاغطة، أي ضميرها الذي ما كانت على ثقة بأنها ستتعايش مع خيانتها له؟. ستقول لها أختها وهي تحتضر إنها لا تريد لأولادها زوجة أب، وإذا كان لابد له من الزواج فلتكن هي (خيرتروديس/ الخالة تولا)"فلتكوني أنت، وليكن لك"، لكن القدر ستكون له كلمة أخرى. ستعمد إلى رفض الزواج من ريكاردو (ابن عم راميرو) بحجة انشغالها بتربية أولاد أختها الثلاثة وستترك بيتها لتسكن في بيت راميرو الذي سيعرض عليها الزواج هو الآخر، وتصدّه كذلك." ولماذا لم تصبحي راهبة؟ ـ لا أحب أن يأمرني أحد". وستنهر راميرو الذي يناديها بـ (تولا) انطلاقاً من نزعتها المتزمتة؛" لا تدعُني تولا، وبخاصة أمام الأطفال.... احترم الصغار. ـ وبماذا أسأت احترامهم؟ ـ بتركك غرائزك مكشوفة أمامهم هكذا". وبعد إلحاح راميرو، ستمنحه سنة واحدة؛"كي أتأمل في نفسي بوضوح، وكي تتأمل في نفسك بوضوح، من أجل أن تقتنع..".
ولن يصمد راميرو كما سنرى إزاء اقتراحها العسير هذا. في هذا الوقت كانت هي تتعايش مع ريح هائجة كانت تنفلت في روحها المغلقة.."كان عقلها في صراع مع قلبها، وكلاهما، العقل والقلب في صراع معها بقدر أشد من الضراوة والعمق، والحميمية". أما هو (راميرو) فسيقع في المحظور.. سيواقع الخادمة (مانويلا) جنسياً في البيت فتحمل منه فتجد الخالة تولا نفسها مضطرة لتزويجه منها. هنا ستقع مجموعة من الأحداث الميلودرامية المتعاقبة.. سيمرض راميرو فجأة قبل ولادة طفله من مانويلا التي ستموت هي الأخرى وهي تضع وليدها. لنقرأ بماذا تعترف تولا لراميرو وهو على فراش الموت؛"أنت لقد تكلمت يوماً عن قديسين يصنعون خاطئين. ربما كانت لدي فكرة لا إنسانية عن الفضيلة. ولكن عندما بدأ الأمر، عندما توجهت إلى أختي، قمت أنا بما يتوجب علي القيام به. أضف إلى ذلك، وأنا أعترف لك، كنت أخاف من الرجل، أي رجل، بمن في ذلك أنت يا راميرو، لم أستطع أن أرى في الرجل سوى الكائن الفظ. الأطفال، أجل أحببتهم ؛ أما الرجل... لقد هربت من الرجل...". هذا المقطع الطويل نسبياً، ربما كان يفسر كثيراً من مواقف تولا وتناقضات سلوكها. (الخالة تولا) رواية قصيرة، سريعة الإيقاع، مكتوبة بلغة مقتصدة، وهي من نمط الروايات التي تعكس الحضور الطاغي لشخصية بعينها وتأثيرها في اتجاهات الأحداث، وما تعانيه من صراعات جوانية بين رغباتها وغرائزها من جهة والقيم المحافظة التي تؤمن بها من جهة ثانية، على الرغم من تخطيها في التفكير، أحياناً، الخطوط الحمر لقناعات الناس، بحكم فطنتها وحدّة ذكائها.
سبق لهذه المادة ان نشرت
في المدى عام 2009