غراهام غرين والسينما.. مذكّرات ناقد سينمائي

Tuesday 6th of March 2018 06:05:26 PM ,

منارات ,

ترجمة: عباس المفرجي
أربع سنوات ونصف من مشاهدة الأفلام عدّة مرّات في الأسبوع... من الصعب عليّ الآن أن أصدّق تلك الحياة في سنوات الثلاثينات البعيدة، طريقة حياة اخترتها بإرادة تامة وبإحساس من المرح. أكثر من أربعمئة فيلم ــ وافترض إنها كانت ستكون أكثر من ذلك، أكثر بكثير لو لم أكن أعاني خلال نفس الفترة من هوس آخر ــ أربع روايات كانت قد كُتِبت،

ناهيك عن كتاب رحلات أخذني لشهور إلى المكسيك، بعيداً عن"قبّة المتعة" كل إمبراطوريات ومسارح التبذير والترف تلك، التي لن نرى مثلها ثانية. كيف، وجدت نفسي أتساءل، تيّسر لي كتابة كل تلك المقالات عن السينما؟ وما زلت أتذكر فتح المظاريف التي تحوي بطاقات دعوة مذهّبة لحضور عرض صباحي لفيلم ما للصحافيين (صباحات، كنت فيها ملزماً أن أشّق طريقي بجهد مع عمل آخر)، كنت لا أفوّتها بدافع الفضول والمشاركة.
كانت تلك الأفلام هروباً، هروب ساعة ونصف الساعة من السوداوية التي تهبط، على نحو لا يرحم، على الروائي حين يعيش شهوراً كثيرة جداً لوضع نهاية لعالمه الخاص. خطرت لي فكرة كتابة نقد الأفلام في حفلة كوكتيل، بعد كأس المارتيني الثالث الخطر. كنت أتحدث مع ديريك فيرشويل، المحرر الأدبي في صحيفة سبكتاتور. كانت الصحيفة حتى ذلك الوقت أهملت الأفلام، فاقترحت عليه أن أملأ هذه الثغرة ــ اعتقدت، في حال قبوله بعيد الاحتمال، أن الأمر سيكون مسلياً لمدة أسبوعين أو ثلاثة. لم أكن أتخيّل أنه سيبقى مسلياً أربع سنوات ونصف، وسينتهي فقط في عالم مختلف، عالم الحرب. حين أعدت قراءة ملاحظات ذلك اليوم، رأيت إنها انتهت على نحو مباغت مع نقدي لفيلم"مستر لنكولن الشاب". إن كان ثمة شيء من شرود الذهن في هذا الموضوع النقدي، فذلك بسبب أن صفّارة الإنذار دوّت في الوقت الذي بدأت بكتابته، فوضعت المقال جانباً لكتابة ملاحظات من منزلي العالي في هامبستد عن دمار لندن تحت. ((امرأة تمرّ وهي تقود كلباً)) كتبت، ((ثم توقفت عند مصباح الشارع)) ثم دوى صوت انتهاء الصفّارة فعدت إلى هنري فوندا. أول سيناريو لي ــ نحو العام 1937 ــ كان عن علاقة مرعبة ونموذجية إلى حد ما لعالم السينما. كان عليّ أن أقتبس قصة لجون غالسوورثي ــ حكاية تقليدية عن قاتل يقتل نفسه ورجل بريء يُحكم بالشنق عن جريمة الانتحار. إن كانت في القصة أيّ قوّة على الإطلاق، فهي تكمن في الإثارية المفرطة، وبما أن الإثارة كانت مستحيلة في ظل الهيئة البريطانية للرقابة على الأفلام، التي منعت الانتحار ومنعت إظهار فشل العدالة الانكليزية، فما بقي من حبكة غالسوورثي، عندما انتهيت منها، قليل جداً.
عانى هذا الجهد الأول السيئ الحظ من اللامبالاة اللطيفة للورنس اوليفييه وفيفيان لي. قررت بعد ذلك أن لا اقتبس أبداً عملاً لشخص آخر، وكسرت هذه القاعدة مرّة واحدة فقط في حالة فيلم"سان خوان" سيقول النقّاد، هاهو اقتباس باعث على الأسى، لكني سأدافع بنفسي عن السيناريو، إذ لم أبدّل ففي الخطاب النهائي لبرنارد شو، مع أنّي أعدت ترتيبه، ومن جانب آخر، أتحمّل المسؤولية لأني أنقصت مسرحية من ثلاث ساعات ونصف الى فيلم أقل من ساعة ونصف الساعة. لدّيّ اعتراف أثر بعثاً على الأسى ــ قصة فيلم من إخراج مستر وليام كاميرون منزيس تدعى"الكُكَتُوه الأزرق"تمثيل مستر جون مايلز ــ ربما تفوق قصة غالسوورثي أهمية، (الرقيب الفرويدي مشغول بالعمل هنا). سيناريو"برايتون روك"، أنا جاهز للدفاع عنه. في السيناريو بعض من المشاهد الجيّدة، وكان الإخوان بولتنغ كرماء جداً في منح مبتدئ ما شاء من الحرية، وكان رقيب الفيلم كالعادة سخيفاً ــ كان السيناريو مشرّطاً الى قطع على يد مستر واتكين زمانه. ثم تبعت سنتان ذهبيتان مع كارول ريد، وبدأت أؤمن بأني تعلمت المهنة مع"الصنم الساقط"و"الرجل الثالث"، لكن ذلك لم يكن سوى وهم. لا مهنة تمّ تعلمها، كان هناك، فقط، حظ طيّب بالعمل مع مخرج جيّد أمكنه التحكّم بممثليه وبإنتاجه.
إن كنتَ تبيع رواية برمتها، فإنك تتحمل المسؤولية؛ لكن أُكتبْ سيناريو خاص بك وستلاحظ ما يمكن أن يحدث لكلماتك، سردك، فكرتك، الحوار المضاف والمقحم أثناء الإنتاج (الذي سيكون هدفاً لسهام النقّاد)، تأثير ممثل ما والذي لا يهمّه سوى المظهر الذي يريده أمام معجبيه.. ربما سيخطر لك أن أفضل حل هو أن تأخذ زمام المبادرة بنفسك لإنتاج عملك. لم تكن تلك هي المقالات النقدية السينمائية الأولى التي كتبتها. في اوكسفورد، حددت لنفسي صفة ناقد سينمائي في"اوكسفورد آوتلوك"، وهي مجلة أدبية فصلية كنت أحررها."ظلال منذرة"،"ضباب الخريف"،"تلميذ من براغ" هذه هي أفلام صامتة من العشرينات، ما زلت أتذكّر كل مشاهدها. كنت قارئاً متحمساً لمجلة"كلوز- آب"، التي كان يديرها كينيثماكفرسون وبراير وتنشر من"شاتو"[ قصر] في سويسرا.
كان مراسلها في باريس مارك آليغريه، وأسهم بودوفكين بمقالات عن المونتاج. كنت مرتاعاً من وصول"التوكي"[الفيلم الناطق] (بدا كأنه مؤشر على نهاية الفلم كشكل من أشكال الفن)، تماماً مثلما أسفت على الألوان مع شكوك مبرَّرة.((التكنيكولور [التصوير بالألوان]،)) كتبت في عام 1935، ((يُحدِث دماراً في وجوه النساء؛ أنهنّ جميعاً، شابات وعجائز، لهنّ نفس البشرة الصحية المسفوعة)). بفضول كافٍ، كانت قصة بوليسية مع تشستر موريس هي التي هدتني الى التوكي ــ لأول مرّة في ذلك الفيلم صرت واعياً بالأصوات"المنتقاة"حتى ذلك الحين، كل حذاء يَصِرّ وكل قبضة باب تصِرّ. لاحظت أن الفيلم المنسي"بكي شارب"أعطاني أملاً ما باللون. بإعادة قراءة هذه المواضيع النقدية، التي يبلغ عمرها أكثر من أربعين عاماً، أجد الآن العديد من الأحكام مخفّفة بدافع الشعور بالنوستالجيا. كانت لديّ تحفظات بيّنة حول غريتا غاربو، التي قارنتها بفرس عربية جميلة، و"الحس غير الملائم بالواقع"لهيتشكوك، كان يزعجني ولا يزال – كيف دمّر على نحو لا يغتفر"الدرجات التسع والثلاثون". ما زلت أؤمن بأني كنت على حق (مهما يمكن أن يدعي مسيو تريفو)، عندما كتبت: فيلمه يتضمن سلسلة من الأوضاع الميلودرامية ‘‘المسلية’’ الصغيرة : زر قميص البطل يسقط على لوح الباكاراه [لعبة قمار]؛ يدا عازف الأرغن المعوقتان تطيلان النغمات الموسيقية في كنيسة خالية... إنه يبني على نحو ميكانيكي هذه الأوضاع المخادعة (دونما اكتراث، أثناء ذلك، بالتنافرات، النهايات المفتوحة، والسخافات السايكولوجية) ومن ثم يرميها علينا: أنها لا تعني شيئاً: إنها لا تؤدي إلى أيّ شيء. سنوات الثلاثينات كانت أيضاً فترة أفلام سيرية"محترمة"– رودس، زولا، باستور، بارنيل وماشاكل – وقصص تاريخية من القرون الوسطى، كحياة هزلية على يد سيسيل دي ميل (ريتشارد قلب الأسد تزوج من بيرنغاريا طبقاً لطقوس الكنيسة الانجليكانية). كنت أفضّل أفلام الوسترن، أفلام الجريمة، الهزليات، الأفلام التجارية الصريحة، ومن دواعي سروري أنني في نقد واحد من هذه الأفلام التجارية المنسية رحبت بشدة بنجمة جديدة، انغريد برغمان،"أي نجمة قبلها جعلت من ظهورها العالمي الأول على الشاشة مع ومضة شديدة الإضاءة على انفها المنحرف؟".
كانت ثمة أخطار كما اكتشفت، في العمل ناقداً للأفلام في إحدى المناسبات، فتحت رسالة لأجد فيها قطعة من براز. كنت دائماً اعتقد ورغم أن ذلك لم يكن صحيحاً، إنها كانت قطعة من براز ارستقراطي، إذ أنني سخرت بشدة قبل ذلك من ماركيز فرنسي صنع فيلماً وثائقياً يلعب هو فيه دوراً بطولياً، بعد ثلاثين عاماً في باريس، جلست قبالته في حفلة عشاء بورجوازي (الطبقة الراقية) وكان فاتناً حلو الحديث، التفت إلى سؤاله عند الحقيقة، لكني كنت مروعاً بالأثاث الفاخر، ثم بالطبع، كان هناك حادث"التشهير بشيرلي تمبل"نقد فيلم،"وي ويليي وينكي"الذي ألهب شركة تونتيث سنتشري فوكس، لا يمكن أن ينشر هنا لأسباب واضحة. احتفظت بها على جدار حمامي، إلى أن أزالت قذيفة الجدار، على إفادة الادعاء- ذلك بأني في مقالي اتهمت الشركة باستغلال مس تمبل"اغراض غير أخلاقية"(أوحيت في المقال بأنه كان لها غنج بارع معين يثير شهوات الرجال الكهول، لورد هيوارت، بعثت بالأوراق في حقيبة إلى رئيس الادعاء العام، عليه أصبحت منذ ذلك الوقت متتبعاً في ملفات الاسكوتلند يارد). من نقد الأفلام ثمة خطوة صغيرة فقط إلى كتابة السيناريو وذلك أيضاً كان خطراً، لكنه خطر ضروري، بما أن لديَّ الآن زوجة وطفلين أعيلهم، وبقيت مديناً لناشري حتى جاءت الحرب. كنت أهاجم على نحو مثابر أفلام الكسندر كودرا، وربما انتابه الفضول في لقاء عدوه. طلب من وكيلي أن يجيء بي إلى"دنهام فيلم استوديوز"، وعندما أصبحنا وحيدين، سألني إن كان في ذهني أي قصة فيلم. كانت لديَّ واحدة، فبدأت بارتجال قصة إثارة- في ساعة متأخرة من الليل، على رصيف رقم 1 في محطة بادنكتون، الرصيف خالٍ، ماخلا شخص واحد ينتظر القطار الأخير القادم من ويلز من تحت، كان معطفه المطري يقطر دماً، مشكّلاً بركة على الرصيف."نعم، وبعدئذ؟"قال كودرا:"سيستغرق الأمر طويلاً كي أروي لك كل الحبكة- والفكرة تحتاج إلى المزيد من العمل عليها". غادرت دنهام بعد ساعة ونصف الساعة، لأبدأ العمل ثمانية أسابيع مقابل أجر بدا مغرياً، وبالتالي بدأ أسوأ نتاجات كودرا واقلها نجاحاً (وكل ما يمكنني تذكره هو العنوان،"الكوكاتوه الأخضر"). وهكذا بدأت صداقتنا التي دامت وتعمقت حتى وفاته، برغم نقدي الذي ظل غير ايجابي. لم يكن هناك أبداً رجل مثله في طبيعته، وأنا أفكر فيه بكل عاطفة- حتى بحب- كمنتج الأفلام الوحيد الذي عرفته والذي كان يمكنني أن اقضي معه أياماً وليال من الأحاديث دون التطرق كثيراً الى السينما.
بعد سنوات، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، كتبت سيناريوهين لغودار وكورل ريد (الصنم الساقط)، (الرجل الثالث) وآمل أنهما كفّرا قليلاً عن السيناريوهات المبتدئة التي كتبتها قبلاً. لو كنت بقيت ناقداً سينمائياً، فإن التجربة السريعة المضحكة التي كانت لي حينئذ عن هوليوود، ربما كان لها قيمة دائمة عندي، لأني تعلمت عن طريق المباشر ما الذي يمكن على مخرج تحمّله على يدي منتج (واحدة من المهمات الصعبة للناقد هو تعيين مديحه أو لومه الزاوية الصحيحة).
ديفيد سيزلنك الشهير بإنتاجه، واحد من أكثر الأفلام ضخامة في العالم (ذهب مع الريح). احتفظ بالحقوق الأميركية في (الرجل الثالث)، بشروط عقد مع كودار يكون المخرج ملزماً باستشارته حول السيناريو قبل ستين يوماً من بدء التصوير، وعليه سافرنا أنا وكارولريد الذي كان يخرج الفيلم إلى الغرب. أول لقاء مع سيلزنك في لاجولا في كاليفورنيا، لم يبشر بخير فهو لم يكن راضياً عن عنوان الفيلم (من بحق الجحيم سيذهب إلى فيلم يدعى الرجل الثالث؟). هذه بحق كانت تلك الأيام. كنت اعرف القليل عن أن عهد قبلاي خان كان على وشك النهاية، وإن"قبة المتعة"ستصبح قريباً مستبدلة بقاعة بنكو هائلة، التي ستوفر أحلاماً أخرى لربّات البيوت غير تلك التي وفرتها الاوربوس والانبايرس. أسفت على الأفلام الصامتة حين حلت أفلام التوكي، وأسفت على الأسود والأبيض حين غمر التكنيكولور الشاشة. كذلك اليوم وأنا أشاهد آخر الأفلام الإباحية الناعمة، أتوق أحياناً إلى تلك السنوات الميتة من الثلاثينيات، لسيسل بي دي ميل وصليبيه، للأيام التي كان فيها تقريباً كل شيء محتمل الحدود.