من وثائق الحركة الديمقراطية في العراق.. رأي الجادرجي في الانقلابات العسكرية..

Wednesday 31st of January 2018 06:20:40 PM ,

عراقيون ,

بعد فشل الحركة الانقلابية التي قام عارف عبد الرزاق أحد ضباط الجيش لقلب نظام الرئيس عبد الرحمن محمد عارف في الثلاثين من حزيران 1966، وجهت احدى الصحف العراقية القريبة من الحركة الديمقراطية ثلاثة اسئلة للاستاذ كامل الجادرجي عن موقفه من الحركات الانقلابية العسكرية، وقد اجاب عنها بصراحته المعهودة، وتعد هذه من الوثائق النادرة للحركة الديمقراطية في العراق، ونقدمها في ملحقنا هذا.

السؤال الأول :

ما هو رأيكم في محاولة الانقلاب التي جرت في 30 حزيران الماضي وما هي أسبابها في رأيكم؟
الجواب :
لقد أطلقت نعوت كثيرة على محاولة الانقلاب المذكورة فقد وصف الانقلاب بأنه طائش وأرعن وما إلى ذلك من النعوت التي تدل على المقت والاستنكار إلا أن ما يجب أن نعرفه قبل أطلاق مثل هذه النعوت من أن محاولة الانقلاب كانت حصيلة تفكير الكثير من المغامرين الذين لا يرون وسيلة لتغيير الحكم الذي لا يرتضونه إلا وسيلة الانقلاب المسلح فهو في نظرهم الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الحكم وبقدر ما تتسع هذه الفكرة وتترسخ لدى الوصوليين ولدى غير الوصوليين أيضا فأن الانقلابات العسكرية تصبح محتملة الوقوع ويتكرر وقوعها كلما أستمر الوضع العام على شذوذه وكلما ظل بعيدا عن الحكم الديمقراطي الصحيح. والانقلاب الأخير بالرغم من سعة تشكيلاته وتخطيطاته وكما تبين بعد فشله وبالرغم من أهمية السند الذي أستند إليه كما هو معروف كان نصيب الفشل فيه منذ البداية أكثر من نصيب النجاح ذلك لأن الناس ضاقوا ذرعا بكل أنواع الحكم العسكري المغامر فلم يستجب له خارج دائرة مدبري الانقلاب إلا نفر ضئيل من الجيش وإما الرأي العام فلم يكترث له على الاطلاق.

السؤال الثاني :
هل تعتقدون بأن الانقلابات العسكرية لم يعد لها سبيل النجاح في العراق؟
الجواب :
لا يمكن أن يبحث الأمر بهذا الشكل من البساطة فالذي لا شك فيه هو أن الناس لم يعودوا يثقون بأي نوع من الانقلابات العسكرية لتغيير الحكم بالرغم من رغبتهم الشديدة في تغييره فالمواعيد الكثيرة التي قطعت لم تتحقق أبدا ما عدا التطور المفاجئ الذي حصل في القضية الكردية بوقف أطلاق النار وهي من دون شك عمل مبرور وأن كنا نعتقد بأن الرغبة الملحة أو بالأحرى الضغط الذي جرى في ضرورة تحسين العلاقات مع إيران وفي هذا الظرف بالذات قد لعب دورا رئيسيا في تلك الخطوة الحسنة. أما بقية الأوضاع غير الطبيعية في البلاد فقد استمرت واستمرت بسببها الحالة الاقتصادية السيئة وما إلى ذلك من الأمور المستعصية والتي كان قد استبشر بإمكان حلها بعض الذين يهتمون بسماع ندوات التلفزيون الخاصة وحتى هؤلاء المتفائلين وبحسن النية طبعا أصبحوا لا يرون سبيلا للتغيير غير الانتقال السريع إلى الوضع الدستوري وتحقيق الديمقراطية القائمة على وجود الحريات العامة والتنظيمات السياسية والانتخابات الحرة بحيث تنبثق عن ذلك حكومة مسؤولة تجاه الشعب فتسير الأمور سيرا طبيعيا دون رجات ودون هزات. أن ما كان لدى الناس من رغبة ملحة لتغيير الحكم الملكي البائد على الأسس المذكورة أدى إلى قيام ثورة 14 تموز سنة 1958م والتي كانت بحق ثورة لا انقلابا عسكريا كما أراد البعض أن ينعتها للتقليل من شأنها وقد كان المفروض أن تحقق تلك الثورة تحرير العراق وتقدمه وتمكين الشعب من حكم نفسه بنفسه إلا أن ما اعقب الثورة كان مع الأسف تحقيق جوانب معينة من أهدافها وعدم تحقيق الجوانب الأخرى.
أن الثورة في الواقع وأن كانت قد حققت مكاسب كبيرة إلا أنها لم تحقق الانتقال بالبلاد إلى الوضع الديمقراطي المنشود فلقد حدثت اختلاطات وملابسات تعود إلى عوامل داخلية وخارجية مما أدى إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية ومحاولات الانقلاب الفاشلة رافقت بعضها مآسي وفظائع كبيرة مما أوجد حالة من القلق الشديد وعدم الاستقرار وتناوب العهود العسكرية والانقلابات فأن الاستنتاج الذي يجب أن نستخلصه أذن من فشل محاولة الانقلاب الأخيرة هو ليس التنبؤ بما يحدث لمحاولات الانقلاب في المستقبل وإنما يجب أن يكون ذلك الاستنتاج أن الرأي العام العراقي قد أصبح الأن راغبا أكثر من أي وقت مضى في تحقيق الانتقال إلى الوضع الديمقراطي الطبيعي عن غير طريق الانقلابات وأن على المسؤولين أن يعكسوا هذا الرأي العام على حقيقته بدلا من الإصرار على مناهضة الحزبية والأحزاب وبدلا من التمسك بنظرية الحزب الواحد الخاطئة المتمثلة في الاتحاد الاشتراكي كما أشار إلى ذلك رئيس الوزراء في مؤتمره الصحفي الأخير بل أن على المسؤولين أن يعترفوا بواقع العراق السياسي والاجتماعي والاقتصادي على حقيقته وبأن احتكار الحكم من قبل فئة معينة لن يؤدي إلى الاستقرار
ولن ينهي احتمالات المغامرة والطيش مهما كان نصيب تلك الاحتمالات من نجاح أو فشل. أن عدم أخذ العبرة مما وقع حتى الأن والإصرار على هذا الطريق الخاطئ فأنه سوف يعرض البلاد إلى جانب احتمالات المغامرة الخطرة إلى مخاطر أخرى وفي مقدمتها استغلال فشل مثل هذه الانقلابات للهجوم على مكاسب ثورة تموز ولتسرب المقاومين لتلك الثورة إلى مراكز السلطة والاتجاه بالسياسة العراقية وجهة مناهضة لمبادئ الحياد الإيجابي ومكافحة الاستعمار ومناهضة الاتحاد العربي الذي كنا ولا نزال ندعو إليه وفي مقدمة تلك الاخطار أيضا هو استغلال مثل هذا الوضع غير المستقر والمتضعضع ماليا من قبل الشركات الاحتكارية التي تتحين الفرص لتستغل نقاط ضعفه وتحصل منه على امتيازات مجحفة بحقوق البلاد كما هو شائع عن الدور الذي تلعبه شركات النفط في هذا الشأن.
أننا نعتقد بأن الموقف الصحيح الذي يجب أن تقفه البلاد بعد فشل تلك المحاولة الانقلابية وانكشاف استياء الرأي العام من المغامرات المشابهة هو أطلاق الحريات العامة وتصفية الأوضاع الشاذة بسرعة والتمهيد لقيام حياة ديمقراطية تستند إلى حرية التعبير لمختلف الفئات الشعبية ومساهمة تلك الفئات عن طريق احزابها في بناء الوضع الديموقراطي البرلماني المنشود والذي سوف يبقى مزيفا إذا ما استند إلى الحزب الواحد المقترح كما أنه سيبقى ضعيفا معرضا لكل مغامرة تخطر على البال.

السؤال الثالث :
ما هو في رأيكم العقاب الذي يستحقه القائمون بالانقلاب الأخير؟
الجواب :
أنني لا اؤمن بأطلاق الاحكام بهذه السهولة والبساطة كما أنني لا استطيع أن أدعو إلا إلى سيادة القانون في كل اجراء يتعلق بالقضايا العامة وبضمنها فرض العقوبة وفي قضية مثل هذه لها جذورها واسبابها البعيدة والقريبة فأن لابد أن يكون علاجها بصورة بعيدة عن العواطف أو روح الانتقام. ونحن نؤمن من جهة أخرى بأن الانقلابات العسكرية في العراق أصبحت مرضا من الأمراض السارية الوبيلة والتي تهدد كيان البلاد وتنخر في وضعها الاقتصادي والاجتماعي ومثل هذه الأمراض لا يفيد معها العلاج الانفرادي بقدر ما يفيد معها العلاج الواقي من المرض نفسه والعلاج الوحيد الواقي كما نعتقد هو إحلال النظام الديمقراطي وترسيخه بحيث يتيح حرية التعبير لكل الفئات.
ونحن نعتقد أيضا بأن الذين بيدهم السلاح أو الذين يغامرون بالحصول عليه من أجل تحقيق غاياتهم بأن لا يفكروا بالاستيلاء على الحكم بالقوة المسلحة لو أتيحت لهم الطرق الديمقراطية أمام الشعب فأصبح هو الحاكم وأصبحت قواته المسلحة جزءا من مؤسسات الدولة الديمقراطية الخاضعة للقوانين ومتمسكة بمهامها السامية في الدفاع عن الوطن.
بغداد في 21 ربيع الأول سنة 1386هـ الموافق 10 تموز سنة 1966م

عن: منتدى التاريخ العراقي لمختلف العصور