من حوادث وثبة 1948.. من كان وراء المنشورات المسمومة؟!

Sunday 28th of January 2018 06:08:25 PM ,

ذاكرة عراقية ,

رفعة عبد الرزاق محمد
تواجه المتتبع لحوادث تاريخ العراق السياسي الحديث، الكثير من القضايا التي تستأهل وقفات خاصة، فهي جديرة بالبحث والتحقيق، لاستكمال حلقات الصورة التاريخية للاجيال الطالعة، من خلال الاتصال بالذين أشتركوا بتلك الحوادث او أطلعوا على تفاصيلها بشكل او بأخر..

وقد تبدو مثل هذه الحوادث غير ذي شأن، لايأبه لها القاريء اذا ما تركت بغموضها مهملة منسية، وتكمن خطورة هذا الاهمال، فيما لو عرف ان بعض الايدي الخفية كانت تجهد في سبيل ان تبقى بعض الحوادث بعيدة عن التسجيل والاثارة والتحقيق. ومن هذه الحوادث، قضية المنشورات الثلاثة التي وزعت على الشعب وهو في اوج اندفاعه البطولي لاسقاط معاهدة (بورتسموث) في كانون الثاني 1948.
فما اشبه الليلة بالبارحة!!،عندما اكتشف الشعب العراقي في يومنا هذا ان بعض الايدي الخفية تسعى الى شق الوحدة الوطنية وايقاف عجلة التحدي والنضال لعراق جديد، وأثارة كل ما يفرق الصف ويبعد الناس عن بعضهم طائفيا او عرقيا او سياسيا. ولا اعرف العلة من بقاء حقيقة هذه المنشورات بعيدة عن اقلام كتاب المذكرات المعاصرين لاحداث وثية 1948، مع علمهم المؤكد ان كاتبي المنشورات كانو يضطلعون بمحاولة خطيرة لشق الصفوف وتشتيت الحركة الوطنية وأضعافها وأجهاض مطاليبها، واضفاء صفة بعيدة عن الحقيقة لدوافع الوثبة وأ لباسها لبوس الطائفية المقيتة. ومن هنا تبدو مطالبتنا السادة الافاضل الذين يعرفون ما له صلة بهذا الموضوع لتسجيل شهاداتهم وادلاء دلوهم لوضع الحقيقة التاريخية في موضعها السليم، بعد ان اصبحت مثل هذه الحوادث وغيرها ملكا للتاريخ وقد تجردت من الحساسيات الشخصية. وربما نجد في المذكرات المنسية والمخطوطة ما ينير الدرب امام الباحث... وكانت جريدة (صوت الاهالي) قد أثارت بعد انتهاء ايام الوثبة هذه القضية، وطالبت بأجراء تحقيق لمعرفة سر هذه المنشورات كما سنرى.
لقد اختلفت الاراء حول هوية القائمين بكتابة المنشورات الطائفية الثلاثة وتوزيعها بين الناس لايقاف الاندفاع الشعبي ضد وزارة صالح جبر ومشروع المعاهدة العراقية البريطانية، من خلال الايحاء بأن الوثبة موجهة ضد شخص رئيس الوزراء جبر بالذات، واعطاء صفة الطائفية للمعارضة ضده!! وقد اعتقد البعض ان كاتبها هو (حسين بستانة) المميز في مديرية الدعاية العامة يومئذ، وقال الاخر ان كاتبها هو عادل عوني صاحب جريدة (الحوادث) المؤيدة للحكومة، ومما يؤيد هذا الزعم ان جريدة الحوادث نشرت في اليوم نفسه الذي وزعت فيه المنشورات مقالا افتتاحيا يحمل عنوان (الوطن في خطر) بتوقيع صاحب الامتياز عادل عوني. وقد تضمن نفس مضمون المنشورات الموزعة في ذلك اليوم (25 كانون الثاني 1948).
وروى السيد عبد الرزاق الحسني في كتابه الكبير(تاريخ الوزارات العراقية) انه اجتمع بالدكتور ضياء جعفر احد وزراء حكومة صالح جبر في لندن بعد ثورة 14 تموز 1958، وسمع منه انه هو الذي اعد هذه المنشورات ودفع بها الى عادل عوني صاحب جريدة الحوادث، فطبعها في مطبعته، حتى ان بعض المتظاهرين هاجم المطبعة وحاول حرقها، غير ان مايضعف رواية الاستاذ الحسني ان ضياء جعفر لم يكن يمتلك مطبعة يومذاك.
وقيل ان هذه المنشورات طبعت في مطبعة الحكومة واشرف على طبعها عبد الجبار الامين مدير الدعاية العام..كما قيل ايضا ان كاتبها هو احد الصحفيين العراقيين وطبعت في مطبعة السكك الحديد في الصالحية , غير ان هذا الصحفي لم يشر الى الموضوع في مذكراته المطبوعة. كما قيل ايضا ان مديرية الدعاية طبعت هذه المنشورات في مطبعة اهلية، وان مادتها اعدت من قبل السيد عبد المهدي المنتفكي، وهو من انصار صالح جبر ومؤيدي سياسته.
وقبل ان نورد رواية احد الصحفيين العراقيين المتصلين بأحداث الوثبة، ومن المقربين للسلطة يومذاك، نبين انه على اثر نشر (منشورات التفرقة) كما نعتت في وقتها من قبل الحركة الوطنية، اجتمع ممثلو الاحزاب الوطنية التي كانت تقود الوثبة والجبهة الدستورية البرلمانية المؤيدة للحركة الوطنية وأذاعوا بيانا استنكروا فيه نشر هذه المنشورات التي يقصد منها تفريق الصفوف وتشويه الحركة الوطنية وخلط الاوراق. وقد نشرت جريدة (صوت الاحرار)بيان الاستنكار، كما كتب الاستاذ حسين جميل سكرتير الحزب الوطني الديمقراطي مقالا افتتاحيا في جريدة (الزمان) يومئذ تحت عنوان (لقد انكروا الشعب فأثبت وجوده)، سخر فيه من لهجة المنشورات ووصفها الحركة الوطنية بأنها من دعاة السوء. وفي العدد نفسه نشرت الجريدة بيانا للسيد صادق البصام عضو مجلس الاعيان يستنكر فيه هذه المنشورات.
وعندما بدأت جريد (صوت الاهالي) بتسجيل يوميات الوثبة تحت عنوان : سجل الحركة الوطنية ضد معاهدة جبر بيفن، وقد جمعت تلك اليوميات في كتاب، يعد من اهم الوثائق التاريخية، قد ذكرت : انه بعد وصول رئيس الوزراء صالح جبر الى بغداد اتصل هاتفيا بوزير العدلية في وزارته جمال بابان، وتلا عليه بيانا بقصد نشره وتوزيعه، غير ان بابان رفض تنفيذ ارادة رئيسه رفضا قاطعا واجابه انه لايتحمل المسؤولية، ثم قدم استقالته وارسلها من بيته بيد السيد موفق الزهاوي ثم ترك بغداد. وقد ردت مديرية الدعاية على ما كتبته الصحف من ان هذه المديرية كانت وراء طبع هذه المشورات وتوزيعها، فردت جريدة (صوت الاهالي) يوم 21 شباط 1948، فقالت :
ولم تكن ادارة هذه الجريدة لتتصدى لنشر اي خبر من هذا القبيل قبل التأكد من صحته نتيجة تحقيق وتمحيص، ولذلك فأن ادارة هذه الجريدة لا تزال تعتقد بالنظر لما لديها من براهين بأن ما يدعيه السيد عبد الجبار الامين مدير الدعاية العام، من انه لم تكن له اية صلة بتلك المناشير، انما يخالف الحقيقة تمام المخالفة، وانه هو الذي اوعز بطبعها في مطبعة الحكومة وبورق الحكومة، ولذلك فأن ماقالته مديرية الدعاية العامة يعد تحديا صريحا للحقيقة، لذلك نطلب الى الحكومة ان تقوم بتحقيق سريع في هذه القضية. ولم يجر اي تحقبق في الموضوع، ولم يثر في مجلس النواب مع ما اثيرمن قضايا الوثبة، كما لم تشر اليه اي من الدراسات التي تناولت الوثبة من قريب او بعيد. غير ان الاستاذ صادق الازدي، الصحفي العراقي القدير، قد اضاء لنا بعض ما نود بيانه في رسالة خاصة، ذكر فيها : في عام 1953 دعاني السيد عادل عوني لحضور حفلة تكريمية لاحد الدبلوماسيين العراقيين، ولما حضرت الحفل وجدت نفسي اجالس السيدين عوني وضياء جعفر، وكان الاخير وزيرا للاقنصاد في وزارة جميل المدفعي، وتطرقنا دون قصد الى احداث وثبة كانون الثاني 1948، فقال عوني : لقد ورطني هذا الرجل وأشار الى السيد ضياء جعفر،
فسأله : وكيف، قال : حدث ان اتصل بي الكتور ضياء جعفر ورجاني ان أزوره في بيته ليلا، ففعلت، وفوجئت به وهو يعرض رؤوس اقلام لمقال يريد ان اقوم بكتابته، فلم ارفض وكتبت المقال وبعد ان قرأه اضاف اليه بعض الكلمات وقمت بأعادة كتابته، ودفعت اليه بالصفحة الجديدة وأحتفظت بالمسودة، وحسبت انه سيقوم بعرض ذلك الذي كتبناه على جهة ما ثم يعيده الي لنشره. ولكنه لم يفعل ولما تأزمت الامور قررت نشرذلك الذي كتبناه وقمت بتبييض المسودة، وأخترت له عنوان (الوطن في خطر).
وفي المساء الذي صدرت فيه الجريدة التي حملت ذلك المقال قام الدكتور ضياء جعفر بتوزيع الكلام ذاته ضمن منشور قام بطبعه على مطابع مديرية السكك الحديد، (انتهى حديث عادل عوني)...