يوسف عمر.. الطريقة الحديثة في غناء المقام

Wednesday 24th of January 2018 07:02:03 PM ,

عراقيون ,

حسين الاعظمي
يوسف عمر، الرجل الذي كرس حياته الغنائية في اداء المقام العراقي، بل كرس كل حياته منذ ان نشأ يهتم بغناء المقام العراقي، ذي الروح والتعبير البغداديين، حيث غنى معظم المقامات كبيرها وصغيرها، وقد اجاد ونجح في جميعها على وجه التقريب، واداها بنضوج فطري ترافقها خبرة طويلة في الممارسة، اضافة الى الموهبة التي يتمتع بها..!

ان المقامات التي غناها يوسف عمر تكشف النقاب عن امكانية مؤثرة في الجماهير..! وقد امتاز يوسف بطريقة اداء واسلوب غنائي يقترب من الاسلوب التعليمي، واضح المعالم ودراسي، جاء بالفطرة دون قصد منه. أي ان طريقته الغنائية السهل الممتنع كما يقال في الادب.. ولعل هذه الميزة التي انفرد بها يوسف عمر من اهم اسباب نجاحاته في الاداء وبناء مجده الذي لم يكن يوسف قد حسب له حسابا بالمرة.

بهذه السهولة الادائية فقد كان يوسف قريبا لابسط المستمعين ثقافة، وقد كنت شخصيا استعين بالكثير من تسجيلاته خلال تدريسي للمقام العراقي في معهد الدراسات الموسيقية، باعتبارها نموذجا غنائيا واضحا المكونات في نفس الوقت، وقد اعتمد يوسف في اسلوبه هذا على تبيان عناصر المقام واجزائه في تسلسل واضح وجيد في معظم الاحيان، والسامع يستطيع من اول وهلة ان يتتبع سير او تشخيص محتويات المقام الذي يسمعه بصوت يوسف عمر.. بذلك فقد حصل يوسف عمر على مستمعين من كافة المستويات بمزيد من المتعة، ويمكن تقارب هذا القول في اساليب بعض المشاهير المؤدين الذين حازوا على جزء من صفة السهولة الادائية الذين يبدو حماس الجماهير لهم حماسا صادقا.. وهذه القصيدة الصوفية لشيخ الصوفيين عمر ابن الفارض، المنسوبة ايضا الى البهاء زهير..! ولكنها على الارجح لأبن الفارض، التي يغنيها يوسف عمر في مقام الرست..

غيري على الســــلوان قادر
وسواي في العشـــــاق غادر
لي في الغرام ســـــريرةٌ
والله اعلم بالــــــــسرائر
ومشبهٍ بالغصــــــن قلبي
ما يزال عليه طــــــــائر
حلوُ الحديـــــــث وإنها
لحلاوةٌ شقّـــــــت مرائر
اشكو وأشـــــــكر فعله
فاعجبْ لــــــشاكٍ منه شاكر
يا تاركي في حــــــــبه
مثلاً من الامـــــــثال سائر
ان حديثي ليــــس بالمنـ
سوخ إلا فــــــــي الدفاتر
لا تنكروا خفقان قلبـــــي
والحبيـــــــب لدي حاضر
ياليلُ طلْ ياشــــــوقُ دمْ
إني على الحاليــــــن صابر
يُهنيك بدرُكَ حاضـــــر
ياليت بدري كان حاضــــــر
بدري أرقُّ محاســــــناً
والفرقُ مثلُ الصـــــبحِ ظاهر

ان هذا الوصف الصريح للاداء المقامي البغدادي، هو من مميزات المقام العراقي كلون تراثي غنائي شامخا بين الالوان الغنائية العربية، وهناك كثير من المتعة والقناعة التي يستطيع فيها يوسف عمر ان يعطيها بتعبيراته العاطفية ذات الجاذبية التي يستمتع بها المستمع..
يمكن ان يكون هناك اعتراض في ان كل هذا يحدث على الصعيد المحلي، ولكن رغم ان هذا الاعتراض فيه بعضا من صحة القول، الا انه يمكن ان نقول بان المقام العراقي من خلال مؤديه المشاهير قد تمكن بنجاح مطرد من وضع كيانه الادائي ضمن خارطة الغناء العربي المنتشرة هنا وهناك من مناطقنا العربية بل وحتى خارجها …
- قد يتساءل جمهور المقام العراقي عن امكانية ظهور يوسف عمر كمؤدٍ للمقامات بدون القبانجي..!؟
- او هل ان يوسف عمر ظهر بأفول نجم محمد القبانجي..!؟
اني اشك في هذا.. ان اساليب التذكير المبنية في داخل اداء كل منهما توضح لنا الميزة الفارقة بينهما من خلال ادائهما للمقام العراقي وما يسمعه السامع، ذلك على الرغم من ان كثيرا من فن يوسف عمر وصفاته الادائية وطريقته التي بنى عليها اداءه للمقام العراقي، كان قد استقاها من استاذه محمد القبانجي، الا ان يوسف عمر ليس بسارق افكار او اساليب وطرق غيره..! ليس بسبب اسلوبه الادائي المستقى.. وانما لأن السامع يشعر انه يسمع شيئا يختلف عما يسمعه في مقامات استاذه محمد القبانجي..! على الرغم من وجود كثير من اوجه التشابه في بناء المسار اللحني وتطبيق الاصول المقامية بينهما، الا اننا نلاحظ ان هناك اسبابا اخرى لنجاح يوسف عمر في ادائه، منها..
فارق الزمن.. فالقبانجي برز في العقود الاولى للقرن العشرين، اما يوسف فانه ظهر بعد منتصف هذا القرن.. ولا شك ان هذا الفارق الزمني في العصر الحديث يعتبر فارقا زمنيا كبيرا، للتطور السريع المستمر في الزيادة الحاصلة لشتى مجالات الحياة.. فالتعبير عن روح عصر كل منهما يختلف بطبيعة الحال، مع اضافة ان القبانجي ارستقراطي(6) الطبع في حضوره الادائي..! بينما يوسف عمر شعبي(7) الطبع في حضوره الادائي..! ولعل هذه البساطة في اداء يوسف عمر جعلته ايضا، قريبا الى اسماع الجماهير بشكل ملــفت للنظر …

يوسف عمر مع استاذه محمد القبانجي

من خلال هذه الميزة التي يتمتع بها يوسف عمر في ادائه الذي اطلقنا عليه صفة الشعبية.. فانه يعتبر اقرب المؤدين قاطبة من التعبير الادائي للروح البغدادية الى الجماهير … واخيرا فان كلا من القبانجي وتلميذه يوسف عمر يتمتعان ببراعة احترافية جيدة جدا.. وهذا مقام العجم عشيران بصوت يوسف عمر بهذه القصيدة..

تحنُّ نياقُ الضاعنــــــينَ وما لــها
تحنُّ وفي القلبِ المشوق حـــنين
ابا النوق ما للضاعنين من الأســـــى
ووجدٌ بإحشاء الضلوع كــــمين
فلاالقلبُ لَّما اجمعَ الركبُ صــــــابر
ولا الدمعُ من بعضِ الفراق مـصون
سكبتُ لها من هذه العينينِ عبـــــرةً
وإني بها لو لا الغرام ضـــــنين
اذا كنتِ لا تدرين ما الشعرُ بالحــــشا
سلي عني الاشواق كيف تـــكون
جننتُ بحبِّ العامرية والـــــــهوى
جنوناً ولكن الجنون فنــــــون

من ناحية اخرى فقد امتاز يوسف عمر كما ذكرنا آنفا بالروح المعبرة عن البيئة البغدادية في كل ادائه..!
وكذلك تميز بنقله للاصول (الشكلية Forms) والشروط المقامية من حيث مساراتها اللحنية وتعبيراتها من السابقين الى اللاحقين بكل امانة واتقان، فلم ينقص منها شيئا، وكذلك لم يضف اليها جديدا..! سوى انه عبر عنها باسلوب جمالي فذ استمعت اليه الجماهير المعاصرة … وقد كان امتلاكه (للبحة) الجميلة التي تأتي ضمن الترديدات المتكسرة في الاداء وتسمى ايضا (البنتاية) اثرا جميلا خلال ادائه، خاصة في الابوذيات التي تعلمها من الملا نوري النجار، هي الاخرى ميزة له …
امتاز يوسف عمر ايضا بحفظه المثير للقصائد والزهيريات والابوذيات والاغاني الكثيرة، على الرغم من كونه لم يتعد المرحلة الابتدائية في الدراسة …
كذلك امتاز صوته بمساحته الكبيرة التي تتسع لمدى لحني لأكثر من اوكتافين، وعليه فان صوته متكامل بالنسبة للمساحات التي يحتاجها اداء المقام العراقي وهي بلا شك مساحات واسعة جدا. فنوع صوته من فصيلة صوت (التنور).
بالرغم من كل هذه الميزات الايجابية في صوت واداء يوسف عمر، فاننا لو تطرقنا بالحديث عن صوته كخامة صوتية فاننا سنكتشف انه يحتوي على بعض الثغرات والرضوض عند الاداء..! ومن المؤكد ان يوسف عمر كان يدرك هذه الناحية في صوته حسيـَّا، وظلت محاولاته في معالجتها معالجة عن طريق الخبرة فقط، ولذلك نستطيع ان نلاحظ هذه العيوب في بعض من مقاماته.. مثلا تكون نهايات المقاطع غير متقنة، او ان صوته احيانا يرتفع وينخفض نسبيا داخل الطبقة المغناة دون ان يدرك ذلك، او دون ان يتمكن من تداركها..! واضافة الى ان احاسيس فنان مثل يوسف تكون متقنة حيث كان جمال صوته وتعبيراته المقامية الاصيلة تعويضا رائعا لهذه العيوب التي يثير بها الجمهور ليخلو مع خيالاته وعواطفه..

اما من حيث الاداء فقد كان يوسف في كثير من مقاماته، كثير التفصيلات والاسهاب، لا يختزل منها شيئا، حتى تتكرر جملة ما عدة مرات، كذلك يسمح للعازف عندما يحاوره بآلته الموسيقية وقتا اكثر مما يجب على حساب ترابط العلاقات الغنائية والموسيقية مع بعضها لصياغة عمل مقامي كوحدة متكاملة، وخطورة هذا المنحى الاسهابي في الغناء يكمن في احتمال الوقوع في شرك الضعف والركاكة، ومن ثم تجزئة الجمل اللحنية في وحدات متفرقة ضمن عملية البناء الفني لغناء المقام المغنى، ولكن والحق يقال ان يوسف عمر رغم مغامرته هذه، فقد نجا من هذا الشرك في كثير من الاحيان، وقد استطاع بخبرته ومقدرته وتجربته الادائية ان ينتشل اداءه المسهب من الضعف، واقرب مثال على ذلك، هو اداؤه لمقام النوى الذي اصاب به نجاحا كبيرا رغم الاسهاب والتكرار في لحن ابيات القصيدة، وبالتالي فقد احرز العون من لدن الجماهير المحبة للمقام العراقي، فكان يوسف عمر منذ بداياته ولم يزل يغني مقام النوى الذي اداه بأقصى امكانيته التعبيرية وموهبته وخبرته الادائية بقصيدة ابن معصوم الشهيرة :

اما الصبوح فانه فرض
هذا الصباح بدت بشائره
يسقيها من كفه رشأ
والكاس اذ تهوي به يده
فانهض الى صهباء صافية
والليل قد شابت ذوائبه
لا تنكروا لهوي على كبر
سيان خمرته وريقته
بات الندامى لا حراك بهم
مهلا فليس على الفتى دنس

فعلام يكحل جفنك الغمض
ولخيله في ليله ركض
لدن القوام مهفهف بض
نجم بجنح الليل منقض
قد كاد يشرب بعضها البعض
وعذاره بالفجر مبيض
فعلىّ من زمن الصبا قرض
كلتاه ماضي عنبيه محض
الا كما يتحرك النبض
في الحب ما لم يدنس العرض

عن كتاب (محاور في المقام العراقي)