شيء عن الموصل واوضاعها الصحية في بدايات القرن الماضي

Sunday 21st of January 2018 07:07:34 PM ,

ذاكرة عراقية ,

سفانة هزاع الطائي
عانى العراق طيلة خضوعه للسيطرة العثمانية من تردي الحالة الصحية، اذ خيم عليه الفقر والجهل والمرض، وكانت الحالة الصحية غاية في التدهور والانحطاط، مما أدى الى انتشار الخرافات والشعوذة والدجل للعلاج بين الناس. وبما ان الموصل هي جزء من العراق، فقد عانت من تردي الاحوال الصحية فيها شأنها شأن المدن العراقية الاخرى،

اذ ذكرت السالنامة الخاصة بولاية الموصل لسنة 1325هـ/ 1907م جملة اسباب كان لها دور في توطن الامراض والاوبئة في الموصل ومنها تذبذب الاحوال الجوية خلال الفصول الاربعة للسنة مما ادى الى حدوث امراض مختلفة، بالاضافة الى تدهور التعليم وانتشار الجهل والفقر الذي ساعد على انتشار وتوطن الامراض الى جانب نوعية الاكل غير الجيد الذي يؤدي الى امراض مختلفة، وعدم الاهتمام بنظافة مياه الشرب، اذ ان وقوع المدابغ قرب نهر دجلة ورمي فضلاتها داخله سبب مظاهر صحية غير سليمة وانتشار الامراض بين الناس، كما ان كثرة المقاهي والمطاعم التي تفتقر الى الشروط الصحية هي الاخرى من العوامل التي ساعدت على انتشار الامراض.
ويمكن اضافة عوامل اخرى اسهمت في انتشار الامراض في الموصل ومنها الكوارث الطبيعية مثل حدوث فيضان نهر دجلة، مما يؤدي الى تدمير الحقول والمزارع، الامر الذي ادى الى تدني المستوى المعيشي للسكان وخاصة الفلاح، هذا بالاضافة الى عدم اهتمام الحكومة العثمانية بالاحوال الاجتماعية والصحية وانشغالها بالامور العسكرية كأخماد ثورات العشائر العراقية، واخيراً قيام الحرب العالمية الاولى التي كان لها تأثير كبير على الموصل، اذ اصبحت ساحة لخوض المعارك، الامر الذي ادى الى حدوث مجاعة في الموصل عام (1917 - 1918)، كل هذه الامور كانت سبباً في توطن وانتشار الامراض في الموصل وغيرها من المدن العراقية. وبما ان الموصل كانت احد المراكز التجارية المهمة فقد يؤدي الى انتشار المرض في الموصل عن طريق العدوى.
ولم تقتصر ممارسة مهنة الطب خلال الفترة العثمانية على الاطباء الاختصاصيين وحدهم، وانما كان هناك الحلاقون والعطارون الذين كان اكثرهم يصفون المواد العطارية للحمى والامراض الباطنية، كما كان هناك الختانون، وكان اغلبهم حلاقين، كما كان هناك (طب) يقوم به كبار السن من الرجال اوالنساء يتوارثونه من الاباء والامهات عن طريق التجربة، فكانوا يستخدمون الكي بالنار وبعض الادوية المستخلصة من النباتات.
اما بالنسبة لخدمات الاطباء، فإن قلة عددهم، ناهيك عن عدم معرفتهم لأحوال البلاد وعدم معرفتهم اللغة العربية جعلت الاستفادة منهم محدودة، كما ان بعض الاطباء الاجانب الذين جاءوا الى العراق خلال تلك الفترة لم يأتوا خصيصاً لممارسة مهنة الطب، وانما كانت غايتهم تبشيرية او سياسية او اقتصادية او لأغراض سياحية، فيما كان اغلب الاطباء العثمانيين يرحلون مع القطعات العسكرية، اذ كانوا يتنقلون مع تنقل تلك القطعات، وبذلك لم يكونوا مستقرين في مكان معين.
ومن ابرز الاطباء الموصليين الذين تخرجوا من مدرسة الاستانة الطبية ومدرسة دمشق الطبية وبعضهم من مدارس اوربا هم داؤد الجلبي عام 1909 ويحى نزهت وحنا خياط عام 1914 وغيرهم من الاطباء. ورغم قلة الاطباء العراقيين المتخرجين الا انهم شكلوا نواة الادارة الصحية في العراق بعد الحرب العالمية الاولى.
اما فيما يتعلق بالمؤسسات الصحية، فقد كان في الموصل مستشفيات عسكرية ومنها مستشفى القشلة (الثكنة العسكرية، والتي تم بناؤها عام 1843) ومستشفى البلدية (الغرباء) والمدرسة الاعدادية، والمستشفى المركزي الذي افتتح في المنازل، اذ ان ظروف الحرب العالمية الاولى، وقلة الاماكن المخصصة للمستشفيات، دفعت السلطات العثمانية الى اتخاذ بعض المدارس والمنازل مستشفيات لمعالجة الجرحى والمرضى من الجنود وفي هذه المستشفيات التي فتحت في منازل الموصليين كانت العناية والنظافة مفقودة الامر الذي ادى الى انتشار القمل بشكل كثير ومن ثم انتشار مرض التيفوس حتى ان الاطباء انفسهم أصيبوا

بهذا المرض، ونتيجة لظروف ومتطلبات الحرب اضيف (50) سرير لهذه المؤسسة الصحية المختلطة التي كان سعتها (250) سرير واطلق عليها المستشفى المركزي، كما تم افتتاح دار نقاهة في باب سنجار وكان بسعة (500) سرير، وعند انسحاب القوات العثمانية الى الموصل اضيف للمرضى الذين ادخلوا اليها مستشفيان سعة كل منهما (300) سرير، ومع المستشفيات المفتوحة سابقاً ارتفع عدد الاسرة الى (3500) سرير، ولم تقتصر هذه المستشفيات على معالجة المرضى والجرحى الخطرين وانما ايضاً قامت بمكافحة الامراض الزهرية التي انتشرت في المدينة، وقد جعلت بعض الكنائس والبيوت في باب سنجار على شكل مستشفيات كما افتتح الالمان مختبراً في نفس الوقت.
اما المستشفيات المدنية فكانت مستشفى البلدية (الغرباء) التي قام بإنشائها سعيد بن قاسم آغا سعرتي اثناء رئاسته لبلدية الموصل قرب باب سنجار فوق تل الكناسة (تل كناس)، وكذلك كان هناك مستشفى (الهلال الاحمر العثماني) اما المستوصفات فكان هناك طبابة البلدية والتي يدير شؤونها طبيب قانوني يعاونه في ذلك جراح وصيدلي وملقح للجدري ومولدة. ومن واجبات طبابة البلدية مراقبة نظافة المرافق العامة كالمطاعم والمقاهي وغيرها. وكان في الموصل مستوصف آخر وهو مستوصف الاباء الدومنيكان وكانت هذه المستوصف تقدم الخدمات الطبية للمرضى، وعلى اثر نشوب الحرب العالمية الاولى غادر الاباء الدومنيكان الموصل لكنهم عادوا عام 1920 لينصرفوا الى اعمالهم التبشيرية.
ويبدو من خلال ما سبق ان اغلب المستشفيات المار ذكرها قامت بسبب متطلبات وظروف الحرب العالمية الاولى، وكانت تعالج بالدرجة الاولى الجنود العثمانيين. كما ان السلطات العثمانية حولت بعض المنازل والمدارس الى مستشفيات لمعالجة الجرحى وهذا يدل على اهمال الحكومة العثمانية للنواحي الاجتماعية والصحية، اذ انها قامت بفتح المستشفيات لخدمة مصالحها غير مراعية مصالح المواطنين النفسية والصحية.
وان ما يؤكد على هذا الاستنتاج ما جاء في احد الوثائق البريطانية، اذ تذكر انه عندما ((تأسست الدولة العراقية الملكية في منتصف عام 1921 لم يكن في انحاء القطر بناء واحد (ما عدا بناء مستشفى بغداد) خاص بالصحة)) وهذا دلالة صريحة على درجة اهمال الحكم العثماني لأهم مناحي الحياة الاجتماعية في هذا القطر. فكان من واجب رجال الصحة في ذلك العهد السعي، واستدراكاً للامر، لأعداد محلات وملاجئ بطريقة الاستئجار للمستوصفات والمستشفيات والمعاهد الطبية من جهة، والشروع فوراً بتشييد أبنية خاصة على نفقة الدولة من جهة اخرى.
اما بالنسبة للامراض التي كانت منتشرة في العراق عامة والموصل خاصة فكان الطاعون الذي دخل العراق عن طريق شمال ايران بواسطة القوافل القادمة بخاصة من تبريز التي ينتشر فيها هذا المرض بين فترة وأخرى، ثم انتقل من شمال العراق الى وسطه وجنوبه، اضافة الى مرض (الليشمانيا الحشوية) أي الحمى السوداء، وكانت الاصابات في الموصل تتوزع على القرى والمناطق المحيطة مثل القوش وسيبلي والشيخان وتلكيف وفيشخابور، وكان مرض الملاريا منتشر في الشمال وخاصة من الجهة اليسرى من دجلة كما كانت المناطق الجبلية آنذاك في حالة يرثى لها لتوسع نطاق المرض، حتى اصبحت بعض المناطق وخاصة قرب جبل (مقلوب) غير صالحة للاستيطان البشري، في حين كانت تلعفر وسنجار والموصل مناطق خالية من هذا المرض، ولقد انتشرت هذه الامراض وغيرها مثل البلهارزيا والانكلستوما والاكياس المائية بدرجة عالية في الريف اكثر من المدن، وذلك بحكم البيئة التي يعيشون فيها وطبيعة العادات الاجتماعية والنشاط الاقتصادي. فالفلاح يستخدم الاسمدة من الفضلات الحيوانية ولا يرتدي الاحذية التي تقيه من مخاطر الجراثيم الموجودة في التربة، ناهيك عن ان اغالبية القرى العراقية ومنها الواقعة في شمال العراق محرومة من الكهرباء والماء الصالح للشرب، و انعدام الرعاية الاجتماعية وخدمات النقل والمواصلات، وهذا ما جعل الفلاح في عزلة بحيث لا يمكنه الاتصال السريع بالمؤسسات الصحية الموجودة في المدن، اضافة الى انخفاض مستواه المعاشي الذي لا يؤهله لمراجعة المستشفى او مراجعة طبيب متخصص كل هذه الامور ساعدت على انتشار الامراض المتوطنة بينهم بدرجة اكبر مما كانت عليه في المدن.
ويظهر مما تقدم ان مثل هذا التدهور في الحالة الصحية في الموصل وما صاحبها من ظروف مختلفة، مثل تعرض الموصل للكوارث الطبيعية وحدوث الفيضانات والمجاعة، ادت الى موت عدد كبير من الموصليين، اذ ان هذه الظروف دفعت اهل الموصل الى اتخاذ عادة خزن المواد الغذائية وذلك تجنباً لحدوث مجاعات اخرى.
حالة الموصل الصحية في عهد الاحتلال البريطاني :
بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى عام 1918، كان الوضع الصحي في العراق متخلفاً ومتدهوراً بدرجة كبيرة، فالاطباء لا يتجاوزن اصابع اليد والمستشفيات لا تتجاوز عدد اسرتها (70) سريراً في المدن الكبيرة ومنها الموصل، ولا يوجد حتى مستوصف او مختبر او معهد علمي، والامراض منتشرة بصورة فاحشة()، لذلك فقد دفعت هذه الاوضاع الصحية المتدهورة سلطات الاحتلال البريطاني الى التفكير بضرورة اتخاذ اجراءات عاجلة لمواجهة هذا النقص والتدهور الحاصل في المؤسسات الصحية، لاسيما بعد ان امتلأت المدينة بالقوات البريطانية التي واجهت ظروفاً مناخية صعبة وغير مألوفة بالنسبة لها، الامر الذي ادى الى ظهور العديد من الاصابات بين افرادها.
قامت السلطات البريطانية عام 1918 بتأسيس اول ادارة صحية في العراق عرفت بأسم (ادارة الصحة العامة المدنية) وكان يرأسها رئيس اداري يدعى بالرئيس الاداري للقسم الصحي المدني، وفي عام 1919 تحول هذا القسم الى سكرتارية الصحة والتي استمرت تباشر عملها حتى عام 1921، ومنذ هذا العام اصبحت تعرف بإسم (مديرية مصلحة الصحة العامة)، اذ فتحت لها فروعاً في اهم المدن العراقية، وتوسعت الخدمات الصحية بعض الشيء، وبلغ عدد الاسرة آنذاك (1500) سرير لمختلف الامراض، وفتح حوالي 70 مستوصفاً يتولى شؤون ادارتها (45) طبيباً بريطانياً و (80) موظفاً صحياً هندياً.
وشرعت السلطات المحتلة بعد ذلك بتحديد اماكن المستشفيات لاستقبال ومعالجة المرضى والجرحى من الضباط والجنود التابعين للجيش البريطاني بدلاً من ارسالهم الى الهند. ومن هذه المستشفيات، المستشفى الملكي في الموصل، اذ قامت هذه المستشفى بأعمال كثيرة وفيما يلي احصائية لأعمالها خلال سنتي (1918 - 1919) و (1919 - 1920).
والى جانب المستشفى الملكي في الموصل كان هناك مستشفى صغير آخر للامراض الزهرية احتوى على (10) اسرة، وهنا لابد من الاشارة الى ان اهتمام بريطانيا بتقديم الخدمات الصحية للاهالي وفتح المؤسسات الصحية رغم انها عادت بالنفع بعض الشيء على اهل البلاد الا ان تلك الخدمات جاءت لخدمة الجيش المحتل بالدرجة الاولى ومنعاً لانتقال الامراض من الاهالي الى الجيش، كما ان سلطات الاحتلال البريطاني مارست نوعاً من التمييز فيما يتعلق بمعالجة المرضى في المستشفيات والمستوصفات البريطانية، اذ تمثل ذلك بتقديم الاجانب على العراقيين في المعالجة الطبية وحتى بين الاجانب انفسهم، اذ كان للبريطانيين الافضلية ثم الاوربيين وبعدهم الهنود.
وبعد قيام النظام الملكي في العراق تحولت مديرية مصلحة الصحة العامة الى وزارة قائمة بذاتها عرفت بأسم وزارة الصحة، وتولى الدكتور حنا خياط منصب اول وزير للصحة في العراق، كما عين الكولونيل كراهام مستشاراً بريطانياً للوزارة.
ومنذ عام 1921 بدأ الاهتمام بتحسين الاوضاع الصحية في الموصل، اذ تم تدريب عدد من الصيادلة والممرضات والقوابل، وخلال هذا العام لم تحدث اوبئة في الالوية سوى بعض الاصابات بالتيفوس، وقد جرى تطعيم (1352) شخصاً، كما تم خلال العام نفسه معاينة طلبة المدارس ومداواتهم ولا سيما مداواة امراض العين والجلد، وتم تبليغ المعلمين بإرسال الطلاب المرضى الى المستشفى الملكي للمعالجة، فأسفرت هذه الطريقة عن نتائج حسنة، اذ تم معالجة عدد كبير من الطلاب المصابين بأمراض العين والجلد.
ومن الجدير بالذكر ان مفتتح عام 1922 شكل منعطفاً مهماً في التطور الصحي في العراق، اذ وضعت الوزارة خلال هذا العام منهجاً لأعمال الصحة لمدة عشر سنوات، وذلك لتوسيع دوائرها ومؤسساتها اطلق عليه (مشروع العشر سنوات).
ان هذا التطور والازدهار في الاوضاع الصحية واجه الكثير من العراقيل منها الغاء وزارة الصحة في 8 حزيران عام 1922 وتحويلها الى مديرية الصحة العامة تابعة لوزارة الداخلية وتعيين الدكتور حنا خياط مديراً عاماً للصحة وليس وزيراً يساعده الدكتور هالينان مفتشاً عاماً. هذا بالاضافة الى تخفيض ميزانية الصحة من (170ر781ر3) روبية الى (700ر999ر2) روبية. ويبدو ان سبب هذا الالغاء والتخفيض يعود الى سوء الاوضاع الاقتصادية التي مر بها العراق في اعقاب عام 1922 وعلى اية حال استمر الدكتور حنا خياط مديراً عاماً للصحة حتى 15 تشرين الثاني عام 1931، اذ أعفي من منصبه وعين مدرساً للكلية الطبية الملكية العراقية، وتقلد الدكتور عبد الله الدملوجي منصب المدير العام، اما الدكتور هالينان فقد بقي مفتشاً عاماً لمديرية الصحة العامة من عام 1922 حتى عام 1933.
ومن العراقيل الاخرى التي اعاقت سير اعمال الخدمات الصحية قلة الاطباء العراقيين رغم فتح الكلية الطبية البغدادية، الا انه لم يتخرج منها اطباء متخصصين الا بعد خمس سنوات، اما بالنسبة للمستشفيات فقد تسلمت ادارة الامور الصحية الابنية التي كانت تشغلها الجيوش البريطانية المحتلة في بغداد والموصل وكركوك، ولقد كانت هذه الابنية في حالة يرثى لها فضلاً عن ضيقها.

عن رسالة :
الموصل في سنوات الانتداب البريطاني1920-1932