سامي سعيد الأحمد.. ترجمة جديدة لملحمة جلجامش وكشف عن تأثيرها الثقافي والديني

Wednesday 3rd of January 2018 05:46:08 PM ,

عراقيون ,

ناجح المعموري
سأتحدث عن ترجمة الأستاذ الأحمد لملحمة كلكامش وأهميتها البالغة واختلافاتها الكثيرة عن عديد من الترجمات التي اطلعت عليها ووجدت في ترجمته مالم أجده في غيرها، وهي بحق قد وفرت لي مجالا واسعا للمقارنة والاكتشاف بالارتباط مع ثلاثة عشر نصاً للملحمة اطلعت عليها بشكل دقيق، ولكن ترجمة الأستاذ الأحمد

هي المهيمنة في مشروعي الثقافي الخاص بها ووجدت اختلافات أساسية وجوهرية عن النصوص الأخرى وسأحاول الإشارة لأهم تلك المراكز الاختلافية في النص ومناقشة الأهمية القصوى التي انطوت عليها المقدمة المهمة التي كتبها أستاذي العالم سامي الأحمد، وهي بحق واحدة من الدراسات المهمة جداً والتي انطوت على موسوعية في القراءة والتحليل والإضافة وهذا ما سأشير اليه أيضا ولابد لي من الإشارة للأهمية العالية التي تمتعت بها الترجمات الأخرى وخصوصاً ترجمة العالم طه باقر التي اتسمت بالأدبية والمحايدة، بينما اغتنت ترجمة الأستاذ الأحمد بإمكانات جيدة في الانفتاح امام القراءة وتوفير فرصة جيدة للتأويل والإمساك بمراكز ثقافية ولاهوتية مهمة في النص، بحيث قدمت توصيفاً عن المجالات المركزية في العراق القديم وحصراً في المجال السياسي / الديني / الاجتماعي ونشوء أنماط من المغايرة والاختلاف في الأنظمة التي عاشت تجاذباً وصراعاً، تحول بالأخير الى صراع دموي، يومئ الى طبيعة المرحلة السياسية التي كانت سائدة آنذاك.
بعد ان خلقت الالهة (ارورو) انكيدو ندّاً وخصماً للملك الطاغية، اتفق الصياد والملك على ان يصطحب معه ابن الصياد كاهنة رغبات ويذهبان الى البرّية حيث مكان انكيدو، الحيواني / المتوحش، حتى تعيد كاهنة الرغبات صياغة عناصره من حيوانية الى إنسانية، بمعنى كانت للجنس وظيفة ثنائية واهم مافي هذه الثنائية هو قدرة الجسد الانثوي على اشباع الرغبة لدى انكيدو الوحش، وإعادة تكوينه من جديد، وتوفير فرصة واسعة امام الكاهنة كي تمارس دوراً ثقافياً وليس جسدياً فقط وهذا أمر مهم بالنسبة للحضارة العراقية القديمة التي فوضت الانثى / الكاهنة كي تلعب من جديد دوراً بالغ الاهمية في تكوينات انكيدو عبر الاتصال الادخالي الطويل بين الاثنين مفتاحاً كي يأخذ الجسد الانوثي مداه الواسع في اعادة تكوين شخصية الرجل الغريب وصياغته بشكل مختلف تماماً. هذه الوحدة الثقافية واحدة من الوحدات النصّية المهمة التي شكلت مع غيرها نظام النص الجوهري، واتفقت كل الترجمات على فاعلية واهمية هذه الوحدة التي كانت آنذاك وظيفة دينية مقدسة، لكن ترجمة الأستاذ الأحمد مغايرة تماماً ومختلفة عن كل الترجمات وهذا التباين هو الذي كشف لي عن وجود علاقة مثلية بين انكيدو والملك جلجامش. ومع الإشارات الواضحة التي تبدّت عنها ترجمة الأستاذ الأحمد فتحت مجالاً للقراءة والتأويل بالنسبة لي لكنها أضاءت لي المثلية بين الاثنين وبقيت متابعاً لها عبر النصوص المترجمة وتوصلت الى قراءة داعمة للاتصال المثلّي بينهما (الدراسة غير منشورة) وقد أومأت الى ذلك في عديد من المقالات التي نشرتها في التسعينيات وصرحت بها في الاماسي الثقافية والندوات.
اكشفي جسمك العاري وليتمتع بمفاتنك
اجعليه يصعد على الظهر ويتمتع
فعندما يراك سوف يقترب منك
اطرحي الثياب ودعيه يستلقي عليك
وسيضغط صدره بقوة على ظهرك
وضغط صدره بقوة على ظهرها
النص واضح في كشفه عن تحقق اتصال سلبي مع كاهنة الرغبات ومن الممكن ان يكون الاتصال الادخالي ايجابياً لان الكاهنة تعاملت معه بوصفه حيوانياً ولايعرف غير طريقة الاتصال الادخالي بين الحيوان وانثاه، بحيث تكرست الصورة في ذاكرته وظلت ملازقة له. لكني اعتقد بان المتحقق هو اتصال سلبي لان اللواطة ممارسة جنسية شائعة ومعروفة وتمارس داخل المعابد الدينية باعتبارها معتقداً دينياً عرفته الشعوب المجاورة للعراق وكشفت التنقيبات عن أعمال فنية مثل الاختام والمنحوتات تشير للاتصال الجنسي السلبي مع المرأة، ومايؤكد افتراض هذا التأويل هو التعطل الكامل للطاقة الجنسية الاسطورية في جسد انكيدو والتي اشارت لها الملحمة حيث استمر متصلاً مع البغي الكاهنة ستة أيام وسبع ليال وهي فترة طويلة جداً، وبعد هذا التحقق الاسطوري تعطلت قدرته، ولم يشر نص الملحمة لممارسة جنسية واحدة مارسها انكيدو بعد دخوله مدينة أوروك وهذا أمر صعب احتماله بالنسبة لرجل قوي جداً مثل انكيدو، وعرف عبر الممارسة اللذة ونتائج الاتصال المغيّرة له. والأمر الآخر الأكثر أهمية والمؤكد على الاتصال المثلي بين الاثنين هو انقطاع الملك جلجامش عن ممارسة الجنس بعد ما كان مجنوناً بالرغبات:
لم يترك جلجامش ولداً لأبيه
واستمر ظلمه بالزيادة ليلاً ونهاراً
جلجامش راعي اوروك ذات السور
هو راعينا... القوي الجميل العارف
لم يترك جلجامش بنتاً عذراء الى امها
او ابنة محارب، او زوجة بطل
وظل الالهة يسمعون بكاءهن باستمرار
يفضي بنا هذا النص نحو معرفة بالطاقة الجسدية التي يتمتع بها الملك جلجامش ودليل ذلك استمرار ممارسته لفعل الاتصال الادخالي، وانا أدرك بان بعضاً من تلك الممارسات هو وظيفة دينية سمحت له بحق ممارسة الجنس في الليلة الاولى وقبل دخول الزوج، وهو مايسمى بحق الليلة الأولى الممنوح للملوك او الكهنة مثلما هو معروف لدى كثير من القبائل في العالم وحتى في الشرق الأدنى وبعض بلدان افريقيا. لقد توقف جلجامش عن ممارسة هذا الحق وهو من المسكوتات عنها في نص الملحمة وقدمت قراءة تفصيلية لذلك في مشروعي الثقافي المكون من ثلاثة كتب عن الملحمة والذي من المؤمل صدوره عن دار المدى في بداية العام القادم ولكن مايعني هذا المقال هو الانقطاع الكلي عن الممارسة الجنسية متماهياً بذلك مع صديقه انكيدو الانقطاع عن الممارسة تماماً بالنسبة لهما أثار عدداً من الأسئلة حول ذلك.. وكان افتراض وجود الاتصال المثلّي بينهما احد الأجوبة التي كرستها القراءة ضمن أنساقها النصيّة في الملحمة وفي غاية الأهمية بالنسبة لطبيعة الثقافة ومستوى تداولها في مدينة اوروك خلال مرحلة حكم جلجامش عام 2600 ق.م والنص الذي اشرنا اليه واحدة من خاصيات الأستاذ الأحمد في ترجمته للملحمة. واعتقد بان واحداً من أسباب اغتيال انكيدو هو المثلّية بينهما، ولهذا تحمس الإله انليل لإصدار قرار الاغتيال، لأنه انليل مسؤول السلطة التنفيذية في مجلس الإلهة وهو أيضا الذي يختار الملوك ممثلين له على الأرض، واختارجلجامش ممثلاً لسلطته وجعل رأس الملك عالياً
كتب د.سامي سعيد الأحمد دراسة مهمة عن الملحمة متضمنة ثلاثة فصول، الأول خاص بمدينة أوروك وتاريخها والثاني مكرس لاسم جلجامش وحياته الاولى وتضمن الفصل الثالث تعريفا بفترة حكم جلجامش ومايمكن الاشارة اليه بسبب اهميته هو الاتساع في توفير مساعدات القراءة ثقافياً / ودينياً من مثل تعريفات الآلهة المهمة في النص مع تعريف بالمدن العراقية المهمة مثل كيش.
واعتقد بان اهم ماتضمنته ترجمة الدكتور سامي سعيد الأحمد هو وفرة المعلومات التاريخية والعناصر الثقافية الدينية، وما يلفت الانتباه بالجهد الذي قدمه إشارته لظاهرة الطوفان، ليس في العراق القديم فقط وانما في العالم. وأسهب بالتفاصيل الخاصة بالطوفانات الحاصلة في فجر الحضارات الإنسانية وقدم أسباباً لها ووفر فرصة نادرة للقارئ كي يكشف عن الطوفانات في التاريخ وغضب الالهة الذي كان سبباً مهما في حدوثها. وقدم الأستاذ الأحمد توصيفاً للتناص الموجود في عديد من الأساطير والملاحم في التاريخ، وكشف عن تأثيرات الملحمة بوصفها نصاً أولياً في أساطير وآدأب وملاحم العالم، واعتقد بأنه رائد في هذا المجال لانه قدم ما يمكن الاستعانة به لمعرفة حجم التأثر بالنص العراقي الأول. كما برع في تقديم المسوخات التي عرفتها الأساطير الإغريقية تماهياً مع المسوخات المشار إليها في الملحمة والتي كانت هي عقوبة عشتار لأزواجها ومحبيها.
ودراسة د. سامي سعيد الأحمد”نظرات في ملحمة جلجامش”واحدة من اهم الدراسات المدونة عن النص واستطاعت قراءة النص مع العشرات من النصوص الأسطورية المتجاورة معه كاشفاً عبر ذلك عن أهمية الملحمة ومؤكداً الإمكانات المتوفرة لديه في البحث عن الأصول على الرغم من استحالة ذلك وصعوبته مع معرفتنا بالموقف الفلسفي عن الأصول وخصوصاً رأي نيتشه مثلاً وميشيل فوكو، لكن د.سامي سعيد تعامل مع الأصول والبدايات البكرية من خلال المدّونات أولا وبواسطة الاقتراب من النص أكثر فأكثر، محاولاً الكشف عن المحيط الحضاري، مهما كان متسعاً ومتشعباً، لان د. الأحمد يمتلك قدرة عالية في التحليل، وساعدته على ذلك الخبرة المتراكمة والهائلة في النصوص والعقائد والشعائر، كل هذا هو المساعد له والذي فتح إلينا نافذة عميقة جداً، وفرت لنا متعة كبيرة، متعة القراءة والاكتشاف، ومتعة الاتساع في قراءة المتماثل من الأساطير والعقائد، حتى تبدّت ملحمتنا نصاّ فريداًَ. وأعود لتأكيد محاولة العالم الكبير الأستاذ سامي سعيد الأحمد في ملاحقة الأصول حيث انطوت بشكل من الأشكال على الموقف الفلسفي الذي فتح مجالاً للبحث عن البدايات التي تبدو فعلاً مستحيلة وتقود نحو ميتافيزيقيا جديدة كما قال فوكو، لكني أجده تعامل معها الأصول بالتوصيف الهايدجري المعروف وهو الكيفية الخاصة بالتشكل وليس البداية، لان ذلك البداية أمر معقد وفي غاية الصعوبة. أخيرا تظل ترجمة الأستاذ الأحمد لملحمة جلجامش واحدة من أهم الترجمات العراقية وكان لها في حدود متابعتي تأثير على ترجمات عربية، ربما ترجمة فراس السواح هي الأقرب إلينا، حيث جعل منها ومن ترجمة العالم طه باقر معياراً للمقارنة في ترجمته لملحمة جلجامش، وربما تكون لنا فرصة أخرى للحديث عن ترجمة العلامة المرحوم طه باقر. أخيراً تمنياتي لأستاذي ومعلمي سامي سعيد الأحمد بالعمر الطويل والصحة وان يتمكن من مغالبة المرض، وما علينا الآن إلا العودة لما ترك لنا من تراث ضخم جداً والتعلم منه والتزود من تواضع العالم لديه...
* * *
الاحمد رجل هاديء وهو يتحدث كانه يحلم ويردد حوارا مع شريك له، ياله من هدوء تضفي عليه الرزانة مهابة وجلالة، هكذا رايته انا، المولع به والمهووس جدا بكل ما وصل لي من كتبه الموسوعية وما زلت مندهشا بملحمة جلجامش التي ترجمها وكتب لها احدى اهم الدراسات المكتوبة عنها. احتفيت بملحمة جاجامش الذي سالني عنها مرات عديدة في ذلك اللقاء الذي لم يستمر طويلا.. يضحك كلما اقول له بان ترجمته قادتني للبحث عن المسكوت عنه في النص. وما اثار الخوف في داخلي ما كرره على مسامعي من اعجاب بما كتبت. وكنت اراه يكبر ويزداد طولا وامتلاءا مثل بطل اغريقي مثيرا لمخاوفي.
في الاستراحة القصيرة في مؤتمر بيت الحكمة عام 2002 حيث اخذته حركة الجموع على مدخل الرواق الطويل، وقف مع رجل كهل كان سابقا وكيلا لوزير الثقافة والاعلام زمن احد العارفين. تعلقت عيناي به وكاني قلت لصديقي : انظر له كم هو مهاب وجليل اكثر حضورا من الاسماء اللامعة عراقيا وعربيا. يتقدمه عكازه الطويل.. تولد لدي شك من قدرة العكاز على احتمال جسده الضخم.
تقدم وظل هكذا يتجه نحو نهاية رواق بيت الحكمة. قلت للاستاذ سعد المرشدي التدريسي في كلية التربية الاساسية في جامع بابل :
ــ انه يحدق صوبنا. انا خائف واظنه يسير نحوي...
سال في الحال والصحة وايقنت بان نمطية السؤال توميء لما يعاني منه. ولم اقل شيئا منذ لحظة مجازفتي بالتوجه اليه لاني ايقنت من حركته نحوي. ورحب ضاحكا وشعر بارتباكي في ارتعاش يدي الصغيرة وسط كفه الضخمة. واعرب عن سعادته لأنه التقاني وكان يفترض ان يتحقق هذا اللقاء من زمن.
ــ كنت اعلم بذلك.
تحدث امام وكيل الوزارة وسعد المرشدي مؤكدا متابعته لي واشار لتفاصيل عديدة من مقالات لي حول ملحمة جلجامش واعرب عن سعادته لاهتمامي.
ــ ترجمتك اخذتني لفضاء المسكوت عنه.
ــ هكذا هي جيدة
ـ نعم ومثيرة جدا
ــ هكذا ما قاله لي خزعل الماجدي. صمت قليلا واردف بهدوء تام ونبرة مرنة لينة ولم اكتشف لديه نوعا من التعالي وهو العالم الكبير والمؤرخ الشهير..