سامي سعيد الاحمد و دوره في المدرسة التاريخية العراقية

Wednesday 3rd of January 2018 05:40:40 PM ,

عراقيون ,

د. ضمياء عبد الرزاق خضير
الدكتور سامي سعيد الأحمد شخصيةٌ أكاديمية عراقيةٌ مرموقةٌ، نذر جهده وحياته لخدمة الحركة العلمية والثقافية العراقية عبر تدريس تاريخ العراق والشرق القديم والتعمُّق في تفاصيله المعقّدة، ومن ثمَّ التأسيس لمؤلَّفات فيه كشفت عن قدرة هذا المؤرِّخ على التأثير والكشف والإضافة عبر منهجه التحليلي في التعامل مع الأثر التاريخي، وانصرافه إلى الكشف الدلالي اللغوي للمفردة الأثرية،

وعبر بحثه الميداني في صحارى العراق وسهوله عن الآثار العراقية، ومشاركاته في المؤتمرات الدولية عن تاريخ العراق القديم في الداخل والخارج، وترجمته ملحمة كلكامش عن لغتها الأصلية (الأكدية)، ومؤلفاته الكثيرة في تاريخ العراق القديم ولغاته، وكتاباته في تاريخ الخليج العربي وفلسطين واليونان والرومان والأناضول القديم، ودراساته في اللغات العراقية القديمة، وبحوثه القيِّمة عن سميراميس والسومريين والأصول الأولى لأفكار الشر والشياطين، وغير ذلك. وما هذا البحث المبسَّط إلا رسالة محبة وتكريم وإحياءً لذكرى هذا الأستاذ البارع الذي كان ثروةً معرفيةً نادرةً ستبقى في أذهاننا بما قدمه خدمةً العلم. ومن المؤسف حقًّا أن هذا العالِم العراقي الذي تميز بتخصصه الدقيق لم ينل ما يستحقّ من اهتمام نظير ما قدَّمه للعلم ولدراسة التاريخ القديم تحديدًا.

تأتي أهمية الدكتور الأحمد في سعة معلوماته وغزارة علمه وأسلوبه الشائق الأخّاذ سواءً في محاضراته الغنيّة أو في حديثه الشائق الماتع، فهو لا يكتفي بإيراد المعلومة التاريخية، بل كانت محاضراته ومؤلفاته غنيّةً بالتفاصيل والتحليلات الدقيقة. وتعدُّ دراسته الرائدة عن الشر والشياطين ـ وهي من أولى وأهم مؤلفاته ـ دراسةً أكاديميةً إنموذجيةً رفيعة المستوى، عالج فيها دوافع الشرّ ورموزه وأشكاله لدى الشعوب والأوهام الشائعة حوله. كما أن دراساته في الحيوانات والنباتات وتأثيراتها في الإنسان العراقي القديم، التي نشرتها مجلة التراث الشعبي في سلسلة مقالات في ثمانينيات القرن الماضي هي دراسات مرجعية غنية. كما أن له حضورٌ معرفيٌّ تاريخيٌّ دوليٌّ تجلّى في صداقته للمؤرخ البريطاني آرنولد توينبي (1889-1975م)، وفي احترام مؤرخي العالم القديم له في شتّى جامعات العالم، وفي حضوره الدائم والمتميز لمؤتمرات البحث التاريخي في العالم القديم في الجامعات الأوروبية والأميركية.

كان الأحمد رائدًا في تأسيس مدرسة عراقية في التاريخ القديم لم يسبقه إليها أحد، وكان مؤمنًا أن العراقيين هم أول من اهتمّ بكتابة التاريخ وتدوينه، وهذا ما استنتجه من حولياتهم الملكيّة. وبعد أن درس تاريخ الملوك السومريين والآشوريين والبابليين، عرَّفنا بهم من خلال مؤلَّفاته العديدة المتواصلة التي سنستعرض أهمّها في سياق هذا المقال.

ولادته ونشأته
ولد الدكتور سامي سعيد الأحمد في يوم الاثنين، 22 كانون الأول سنة 1930م في مدينة الحلة، التي تلقى فيها تعليمه الابتدائي والثانوي. فكان من حسن حظه أنه ولد بالقرب من آثار مدينة بابل الأثرية التي كانت في يوم ما عاصمة العلم والمعرفة والحضارة الإنسانية. وحينما أدرك أنه ينتمي إلى هذه الأرض العريقة بدأ رسالته بالبحث عن تاريخها وكتابته برؤية جديدة؛ فقد ورث من بابل حبه للتاريخ، ثمَّ ورث منها ما هو أهم ذلك، ألا وهو الوعي بأهمية بابل القديمة.

أما عن نسبه، فهو ينتسب إلى قبيلة مسلم التي تقطن الآن على ضفاف نهر الفرات وفرع الهندية ضمن ناحية الكفل بمحافظة بابل. وكان لأبيه دورٌ كبيرٌ في غرس حب الاهتمام بالتاريخ القديم والآثار فيه منذ صِغره. فحينما زار الأحمد مع أبيه المتحف الوطني في بغداد سأله عن قيمة الأحجار الموجودة فيه، فأجابه الأخيرُ أنها لا تقدر بثمن. ولم يفهم الأحمد المعنى، لكنه أيقن أن أباه لم يقل ذلك عبثًا، وأنه كان يعلمه شيئًا دفينًا في الأحجار. وهكذا دفع الوالدُ ابنه لأن يكون متخصصًا في التاريخ.
وهيأت له ولادته قرب أطلال بابل القديمة مناخًا ملائمًا للتفكير بعظمة هذه المدينة، فكان يقول في شبابه”لابد أن اكتشف يومًا ما أسرار هذا الطين“.

كان والده يملك أراضي زراعيةً، وقد وفَّرت له إمكاناته المادية الجيدة فرصةً للاستزادة من المعرفة؛ فكان محبًا للعلم والمطالعة ونابذًا للخرافة. وزادت المجلات العربية التي كانت تصله عن طريق الاشتراك، مثل مجلات المصور واللطائف المصوَّرة وكل شيء والدنيا والاثنين والحرب العظمى والعرب والمقتطف، ثقافته العامة وإدراكه ما يدور حوله. وكان ابنه سامي ينتهز فرصة قراءتها ومناقشة ما يرد فيها من أمور التاريخ. وحينما كان في العاشرة من عمره كانت أخته تقرأ له قصص الأطفال، كما هيأت له كتب المدرسة فرصة التعرف على المادة التاريخية. فقد أثَّر فيه معلم المدرسة الابتدائية أستاذه قاسم خليل الذي أكد له ذات يوم حبه للتاريخ. وفي الدراسة الثانوية التي أنهاها في سنة 1948م رعاه أستاذه عبد الجليل جواد الذي كان يوصيه بربط الماضي بالحاضر في دروس التاريخ الحديث. وقد غرس فيه هذا الأستاذ أمنيته التي تحققت لاحقًا، وهي أن يقبل في قسم التاريخ والجغرافية في دار المعلمين العالية ببغداد، ويلتقي بأساتذته الكبار أمثال طه باقر وزكي صالح وغيرهما.

وبعد تخرجه في سنة 1952م عمل مدرسًا لمادة التاريخ في النجف والكوفة والهندية، وكتب عددًا من المقالات التاريخية في جريدة صوت الفرات لصديقه السيد علي القزويني عن ابن الراوندي واصل السومريين والحركة الرومانتيكية.
دراسته الجامعية ومنهجه في الكتابة

رُشِّح الأحمد لبعثة دراسية إلى الولايات المتحدة الأميركية، فالتحق بالبعثة العلمية لدراسة التاريخ في سنة 1955م، وحصل على شهادة الماجستير من جامعة شيكاغو في سنة 1957م، وعلى شهادة الدكتوراه من جامعة مشيغن في سنة 1962م. ومنحته الجامعة لقب أستاذ مساعد بعد تخرّجه فيها مباشرةً، وهي ظاهرةٌ فريدةٌ في العالم، كما عُيِّن أستاذًا لمادة التاريخ القديم في جامعة دنفر ـ كولورادو خلال سنتي 1963-1967م.
وخلال إقامته في الولايات المتحدة كانت بعض برامج التلفزيون تلتقي به لتستشيره في قضايا الشرق الأوسط والأدنى وتاريخ اليونان والرومان المعقّدة، أو في قضايا تاريخ فلسطين القديم، التي كان الجدل محتدمًا حولها حينذاك، والتي ركّز على عروبتها في تلك البرامج والمحافل العلميّة. كما كان يشترك في الندوات، ويجيب عن الاستفسارات الكثيرة التي كانت ترده من أنحاء مختلفة من العالم. وكان الباحثون يستأنسون بإرسال أبحاثهم إليه ليعطي رأيه فيها. وأقام علاقات صداقة كثيرةً مع أبرز مؤرّخي العالم، لعلّ أبرزها صداقته للمؤرخ البريطاني آرنولد توينبي التي ترجع إلى سنة 1955 م وتطورت حتى سنة 1964م حينما قاما بالتدريس في جامعة دنفر، فتعمَّقت أكثر فأكثر.

وفي سنة 1967م قرر الدكتور سامي سعيد الأحمد العودة إلى العراق، وعمل في قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة بغداد، ومنها تنسَّب للعمل في كليتي التربية والشريعة في مكة المكرمة. فقام بإجراء مسحٍ شاملٍ عن تاريخ مكّة. ثمَّ عاد للعمل في قسم التاريخ بكلية الآداب في جامعة بغداد، ونشر مقالاته في دوريات الثقافة والإعلام باللغة الانكليزية، مثل جريدة بغداد أوبزرفر (Baghdad Observer) والعراق اليوم (Iraq Today)، وفيها كان يخاطب العقل الأجنبي ويحاوره بالحضارة العراقية. ومنذ ذلك الحين استمرّ بالتأليف حتى بعد تقاعده في سنة 1996م، فعينه قسم الدراسات التاريخية في بيت الحكمة مستشارًا تاريخيًا له.وكان من أهم مخطوطاته التي لم تُنشر (ويبدو أنها ضاعت للأسف الشديد) مخطوط كتاب بعنوان تاريخ شمال أفريقيا القديم.

كان للأحمد منهجٌ في التقصّي عن الحقائق الخفية في التاريخ القديم، وكان يعتمد على البحث الميداني في تأليف كتبه. فكان يذهب إلى المدن العراقية القديمة ويلتقي بالمواقع ويستعين بالخرائط. وإذا ما كتب عن الملل والنحل كان يزور أصحاب هذه الملل واجتمع بهم وسمع منهم مباشرةً، كما فعل عند تأليف كتابه عن اليزيدية الذي سنتحدث عنه. وكان يهتمُّ بالجغرافيا التاريخية كثيرًا، فمنذ أن كان في المتوسطة أخذ يجمع الكتب التي تجمع بين التاريخ والجغرافية. وتطورت هوايته إلى ولع في الجغرافيا التاريخية. وعندما أكمل دراساته العليا أيقن أن دراسة التاريخ دون الجغرافيا غير ممكنة، حتى رسخت لديه قناعةٌ تامّة مفاُدها”أن التاريخ بلا جغرافيا علمٌ بلا هوية“. ولذلك، فدائمًا ما كان يوصي طلبته بضرورة معرفة كل موقع يدرسونه، سواءً كان مدينةً أو عاصمةً أو مشروعًا إروائيًا أو طريقًا تجاريًا. فمعرفة هذه العلاقة بين التاريخ والجغرافيا تفيد الطالب أو الباحث في أمور كثيرة ذات صلة مباشرة بالحوادث التاريخيّة، وكأنه بذلك أراد أن يقول أن على المؤرخ أو الدارس ألا يكتفي بإيراد الأسماء الجغرافية القديمة، كما كانت ترد في مراحلها التاريخية، وإنما عليه أن يعرض الاسم الجديد المعاصر لهذه الأسماء، وأن يوضح المسافات بين تلك المدن القديمة وبين الحدود الجغرافية للدول.
وفي السنوات الأخيرة من حياته، ونتيجةً لكثرة الأخطاء في التاريخ الجغرافي، كتب الأحمد مئات القصاصات في أسماء المدن، وترجمها من أسمائها القديمة إلى الأسماء المعاصرة، متتبعًا الخرائط القديمة، واستخرج منها ما للعراقيين وما للشعوب الأخرى. وقد أوضح في تلك القصاصات كل التبدلات والتحولات والتغيرات التي طرأت على المدن، وأن أسماء بعض هذه المدن قد تغيَّرت إلى أكثر من عشر مرات، فضلاً عن تغيُّر حدودها. ولكن هذا المشروع الكبير لم يرَ النور للأسف.

ومن اهتماماته الأخرى التي بدأت معه منذ أن كان تلميذًا في المرحلة المتوسطة ولعُه في التاريخ الأوروبي الحديث الذي جمع عنه كتبًا وفهارس ومعاجم مختلفة، حتّى أنه كان في مرحلتَي الإعدادية والكلية يرسم خرائط أوروبا بكلّ دقّة، حتى ظن طلبة الكلية أنه يُعدُّ كتابًا في هذا الموضوع أو ينوي أن يتخصص في هذا الميدان. وحينما تخرَّج في دار المعلمين العالية 1952م قُبِل في البعثة العلمية لدراسة التاريخ الأوروبي الحديث بجامعة شيكاغو سنة 1954م، ولكن دائرة البعثات في وزارة المعارف آنذاك قررًا أن يتخصص في التاريخ القديم بسبب الحاجة الماسّة إلى كادر في ذلك التخصص، فألغى من ذهنه تاريخ أوروبا الحديث وقَبِل التخصص بالتاريخ القديم.
وكان للأحمد نشاطٌ علميٌّ متميزٌ في المؤتمرات والندوات العالمية، فقد شارك في مؤتمر التاريخ في جامعة دنفر ـ كولورادو (1964م)، ومؤتمر جمعية المعلمين بألمانيا الغربية (1974م)، ومؤتمر شرق الجزيرة العربية في قطر (1976م)، والمؤتمر الدولي لتاريخ بلاد الشام الذي أقامته الجامعة الأردنية في عمان (1983م).

وتقديرًا لجهوده العلمية أصبح عضوًا في عدد من الجمعيات والهيئات العلمية العراقية والعربية والعالمية مثل: جمعية أساتذة الجامعات الأمريكية (1965م)، وجمعية شمال أميركا لدراسات الشرق الأوسط (1966م)، وجمعية فاي الفاثيتا (1967م)، ومعهد دراسات أواسط وغرب أسيا (في باكستان)، ومعهد شؤون الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، واتحاد المؤرخين العرب (1974م)، وهيأة المؤرخين والأثريين العراقيين (1970-1983م). أمّا في الوسط الجامعي، فقد اشرف وناقش عددًا الرسائل الجامعية في داخل العراق وخارجه.
نظرته إلى التاريخ
كان الدكتور سامي سعيد الأحمد ينظر إلى التاريخ على أنه فكرةٌ يدرسها على مراحل، هي:
1- مرحلة المتعة من الماضي: في مرحلة الدراسة الابتدائية كان التاريخ يأخذه إلى عصور قديمة، فتُعرض عليه الصورة بقصص مشوقة تؤجج فيه عاطفة ما، كقصة حياة الرسول (r)، وقصة القائد طارق بن زياد، أو غيرهما من القصص المشابهة، وكلها قصص تنتهي بنتائج ايجابية تدعو إلى الكفاح والفخر. وكغيره من الطلبة، كان يتلقى هذه القصص بعاطفته لا بعقله، لأن عقله لم يكن مهيئًا بعد ليستنتج من هذه القصص الدروس والعبر.

2- مرحلة العبرة من التاريخ: في مرحلة الدراسة الثانوية وجد أن في بطون كتب التاريخ كنوزًا غنيةً بالمشاهدات التاريخية والدروس المستنبطة من هذا التاريخ، وأدرك أن هناك عبرةً عندما درس تاريخ اليونان وتاريخ العرب. وبالمقارنة بين التاريخين استنتج العبرة في تأثير العرب أو العراق القديم في الحضارة اليونانية.

3- مرحلة التمييز بين الاجتهادات في التاريخ: فعندما دخل الجامعة (1948- 1952م)، وجد أن أساتذته يتفاوتون في مناهجهم الدراسية، ولهم اجتهاداتٌ متباينةٌ في أساليب إيصال التاريخ إلى أذهان الطلبة، وتعلم منهم طرقًا متعددةً لدراسة التاريخ منها:

أ- ألاّ يأخذ الأمور على علاّتها في دراسة حوادث التاريخ.
ب- أن يدرس أيَّ حالة في التاريخ من جميع جهاتها دراسة مقارنة.
ج- أن يحاول إيجاد تفسيرات أخرى ووجهات نظر لما هو معروض عن الحدث أو الحالة التاريخية المعينة.

وفي الجامعة اقتنع أنه لابد أن يكون له رأيٌ مستقلٌّ في تفسير حوادث التاريخ المتراكمة، واقتنع بالتمييز بين الاجتهادات والاتجاهات. لذلك اتّسمت كتابته للتاريخ بالعلمية، إذ كان مستقلاً في القرار والحكم على الحوادث، ولم يتأثر بمصدر من المصادر ولم يكن أسيرًا لتيار من تيارات الكتابة التاريخية، وكانت تحليلاته متأثرةً بوعيه وبنشاطه العقلي وبأساليبه في النقد. وأسهمت هذه النظرة في نضوجه الفكري، ولاسيَّما حينما كان يدخل في جدل مع أساتذته في الجامعات الأمريكية بشأن هوية التاريخ، إذ كان يرى أن الهوية التاريخية العراقية، مهما تعاقب حكم الأجانب على أرض العراق، تزداد قربًا إلى العراقي، وأن مَن حكموا العراق في ما قبل التاريخ لم يتمكنوا من تغيير هويته على الإطلاق. وكان يعتمد في جدله مع أساتذته أسلوب الحضارة المقارن، فكان يقدم لهم دليلاً بدليل مناقض وأثرًا بأثر مناقض.

وجد الأحمد في الجامعات الغربية المنهجية العالية في التعليم، إلى جانب وفرة الكتب والمصادر، ولذلك تبلورت لديه قناعةٌ مفادها أن النظام الجامعي الأمريكي يهيئ أساتذةً جامعيين يجمعون بين العلم الواسع في التخصص وكافة جوانبه، وذلك لأن أن نظام الدراسات العليا في الولايات المتحدة يُلزم الباحث بأخذ مجموعة محاضرات (كورسات) في جميع الحقول المتعلقة بدراسته ومادة تخصصه، فضلاً عن أنه يفرض عليه إتقان عدة لغات حيّة حديثة. فعلى مَن يدرس العراق القديم أن يدرسه بلغتين حديثتين كالألمانية والفرنسية (إلى جانب الإنكليزية بالطبع)، فضلا عن ضرورة إتقانه أو دراسته جميع اللغات القديمة التي تحتوي على النصوص الأصلية القديمة، بدءًا من السومرية والأكدية، فالآرامية واليونانية واللاتينية.

وهكذا أتقن الأحمد خلال مرحلة دراسة الكورسات لغات مصادره القديمة ومراجعه الحديثة كافّة، ودرس جوانب تخصصه في الآثار والتاريخ، إلى جانب إتقانه اللغة الانكليزية ومعرفته بأغلب ما كتب عن اختصاصه. ولذلك كتب أطروحته بسهولة بالغة، ولم يجد أيّ عائق في ذلك. وعوضًا عن رسالة الماجستير، درس حقلاً كاملاً من حقول التاريخ القديم، هو حقل التاريخ اليوناني والروماني، وأدّى فيه امتحانًا شاملاً تحريريًا أهّله لدراسة الدكتوراه التي كتب فيها أطروحةً بعنوان:

Southern Mesopotamia in the time of Ashurbanipal, Mouton, 1968.
جنوب العراق في عهد الملك أشور بانيبال (669- 630ق. م.)، وهي مدّةٌ بالغةُ الأهمية في تاريخ العراق القديم، إذ كثرت تدخلات عيلام في شؤونه. وقد تتبع الأحمد في كتابته الوضع التاريخي في العراق القديم وحلل العوامل التي أدت إلى تأسيس الدولة الكلدانية التي كان ملكها الثاني نبوخذ نصَّر (604-562 ق. م.).
عودته إلى بغداد وأسلوبه في التدريس
وبعد عودته إلى بغداد في سنة 1967م بدأ يدرِّس طلبته في قسم التاريخ بكلية الآداب في جامعة بغداد في المواد نفسها التي تعلمها في الجامعات الغربية، غير أنه كان يطوِّر محاضراته استنادًا إلى ما يستجد من دراسات في التاريخ القديم. وكان منهجه في التدريس ألاّ يُبقي المادة على علاّتها أو كما كانت في زمنه، بل كان يضيف إليها ويعدل فيها، ويهّذبها في ضوء ما يستجدّ من معلومات تُنشر في الدوريات التاريخية العالمية. وكان كلَّما اطّلع على رأي جديد وآمن به واعتقد بجدواه أضافهُ إلى محاضراته التي كان يلقيها على طلبته. ولذلك كان يحتفظ بعشرات النسخ المكررة لمحاضرة واحدة.
وفي جامعة بغداد وجد ظاهرةً لافتةً للنظر تخصُّ التاريخ الإسلامي، وهي أن معظم أساتذة ذلك التاريخ كانوا من خريجي الجامعات الغربية، ويهاجمون المستشرقين دون أن يطّلعوا اطلاعًا شاملاً على آرائهم ومدارسهم التاريخية. فأراد أن يكون هجومهم على المستشرقين مبنيًا على الرد العلمي والمنطق ونفي مزاعمهم علميًا وباللغات الحية وفي دوريات دولية، لأنه يرى أن الرد عليهم بالعربية ليس مجديًا، وأن السكوت عنهم دليل عجز، كما أن التهجُّم وإلقاء التهم بلا منهج علمي لا يقنع القارئ الغربي. وكان يطمح إلى أن يتسلَّح الأستاذ العراقي بثلاث لغات حيّة (الفرنسية، الألمانية، والانكليزية)، وأن يقرأ آراء المستشرقين ويفندها بهذه اللغات التي عادةً ما يكتب بها المستشرقون.
كان الأحمد ينادي دائمًا بالعلميّة أساسًا في منهج محاضراته في قاعة الدرس. فقد كان يلقي محاضرته على شكل قوانين، فيعطي لكل حادثة قانونًا ولكل معركة شرحًا، وكأنه أراد أن يقول من خلال محاضرته”إن التاريخ عِلمٌ، والعِلم لا يُبنى إلا بقوانين ولا يُفهم إلا من خلال قوانين“؛ حتى أنه كان يعرض هذه القوانين بأسلوب أستاذ في الاقتصاد أو في الفلسفة، فتقلُّ لديه العبارات وتبرز الدلالات؛ فقد كانت محاضرته تنتهي بمعادلات تاريخية. وكان يكثر من الأمثلة في الجغرافيا وغيرها من العلوم، لأنه يعتقد أن الأمثلة توسِّع مدارك الطلبة وتنقلهم إلى أخيلة فكرية علمية حيّة.

وللأحمد خصلةٌ تراثيةٌ ورثها من علمائنا القدامى، وهي رعايته الروحية لبعض تلامذته، ولاسيَّما النابهين. فقد كانت رعايته لهم توحده فيهم توحدًا نبيلاً، حتى أصبح له أحساسٌ كبيرٌ بمعرفة المُجدّين منهم منذ دخولهم الكلية، وربما منذ أول درس يدخلونه، أو أول امتحان لهم. فذات يوم أرسل بطلب اثنين من الطلبة في قسم التاريخ بكلية الآداب وهما في بداية حياتهما الجامعية، فقال لهما وتوقع لهما أن يكونا من الطلبة النابهين، وأوصاهما أن يستمرا في طريق العلم والمعرفة، وتوقع لهما مستقبلاً علميًا مرموقًا. وفعلا صدق حدسه، فقد حصل كلٌّ منهما على الدكتوراه، وهما الدكتور كريم وهيب والدكتور خليل علي مراد.
أهم مؤلفاته
ألَّف الدكتور سامي سعيد الأحمد عددًا من الكتب بالعربية والانكليزية منذ سنة 1965م حتى وفاته في سنة 2006م، كان نتاج الأحمد غزيرًا في ميدان التاريخ القديم؛ إذ كتب عن السومريين والبابليين والآشوريين والأكديين، وعن الفراعنة واليونان والرومان والخليج العربي وفلسطين القديمة والشرق القديم وأثره في الحضارة الهيلينية، ودرس المعتقدات الدينية والأصول الأولى للشر والشيطان واللغات الجزرية. وكتب عن الأدب العراقي القديم وعن سميراميس، وترجم عددًا من الكتب، مثل ملحمة كلكامش وكتاب سيتون لويد المعنون آثار بلاد الرافدين، كما ترجم ـ بتكليف من دائرة الآثار والتراث ـ القسم الخاص بتاريخ العراق القديم في موسوعة كمبردج، غير أن هذه الترجمة ضاعت للأسف ولم تُنشر. وبلغ مجموع كتبه نحو أربعين كتابًا، وأكثر من مئة بحث بالعربية والإنكليزية.
اول كتبه :

الإسلام نظريًا وعمليًا، وقد صدر بالإنكليزية، وعنوانه الأصلي:
Sami Said Ahmed, Islam: Theory and Practice, Colorado Muslim Society, 1965. (53 pages).
كان هذا أول كتاب نشره في سنة 1965م، وقد طبعته دار نشر أمريكية في كولورادو، وهو يتكون من (53) صفحة. وفيه أشار الأحمد إلى نواحي عدة في الدين الإسلامي يود الغربيون معرفتها، وأعطى فكرةً سلسلةً عن آراء المدرستين الغربيتين المهمتين المختلفتين في رسالة رسولنا الأكرم (r)، وهما مدرسة روبرت يونغ (Robert Young) وكارل بيكر (Karl Baker) ويوليوس فلهاوزن (Julius Welhausen)، التي تقف أمامها مدرسة إبراهيم غايغر (Abraham Geiger) وأبراهام كاغ (Ibraham Gagg) وتشارلس توري (Charles Torry). ويبدو أن الأحمد لا يتفق مع أيّ من آراء هاتين المدرستين. وبينما اعترض عليه المتعصبون من المسلمين الذين أرادوا أن يكون الكتاب دعائيًا وليس كتابًا علميًا بحتًا، امتدحه الكثير من العلماء العرب والمسلمين من كل الوطن العربي والعالم الغربي. فقد نشر عنه الدكتور جورج ايغ (George Egg) وزير معارف ولاية كولورادو آنذاك قراءةً في جريدة روكي ماونتن نيوز (Rocky Mountains News)، وقال:”إن الفراغ الذي جاء من الحاجة إلى كتاب عميق مختصر عن العقيدة الإسلامية، قد سده الآن كتاب الدكتور سامي سعيد الأحمد الموسوم الإسلام نظريًا وعمليًا“. وكتبت عنه الباحثة الأمريكية جين مامل (Jane Mammel) المتخصصة بتاريخ الشرق، ونشرت مقالها في جريدة دﻧﭭﺮ بوست (The Denver Post) في تشرين الأول 1966م، بعنوان”دارسة إسلامية مختصرة ولكنها عميقة“، جاء فيها:”على الباحث الجاد في الأديان المقارنة ولمن يريد تفهم العقائد الإسلامية للدين الإسلامي مراجعة كتاب الإسلام نظريًا وعمليًا. إن التوثيق المكثَّف يضيف خلفيةً تاريخيةً ويقدم بيبلوغرافيا واسعةً تجعل بإمكان الباحث أن يتعمق بكل شمولية في جميع جوانب الإسلام“. وتختتم كلامها بالقول:”إن خلفية الأحمد تجعله مؤهلاً بصورة رفيعة ليناقش دينه بعلمية منقطة النظير“. وكان هذا الكتاب بداية الصدى في شهرته. ومع ذلك، فلا وجود لهذا الكتاب الآن في أي مكتبة من مكتبات العالم، فقد قام الأحمد بسحب جميع النسخ وإتلافها بعد أن هاجمه المتعصبون.
تأكدت شهرة الأحمد عندما أصدر كتابه الثاني المعنون: جنوب العراق في زمن الملك آشور بانيبال، الذي صدر باللغة الإنكليزية بعنوان
Southern Mesopotamia in the time of Ashurbanipal, Mouton, 1968
وقد طبعته شركة موتون العالمية في لاهاي ـ باريس سنة 1968م. ويتألف هذا الكتاب من فصول عدّة، كان الأول مقدمةً في جغرافية جنوبي العراق خلال القرن السابع قبل الميلاد. وقدم في الفصل الثاني ملخصًا لحكم الملك آشور بانيبال (669-630 ق.م). أما الفصول الأخرى فقد تتبع فيها تاريخ جنوب العراق وعلاقته بالآشوريين وتطورات الأوضاع في زمن الملك آشور بانيبال وحُكم أخيه الأكبر شمس شموكين، وتناول العلاقة المتوترة بين الأخوين، وبدء الحرب الأهلية التي شكلت المسمار في نعش الدولة الآشورية. وقد برهن الأحمد بأن الشخص الذي عيَّنه آشور بانيبال بدلاً عنه هو أخٌ أصغر له وليس آشور بانيبال نفسه كما اعتقد الكثير من المؤرخين، وهنا تأتي أهمية كتابه، الذي عالج فيه الأحمد، إلى جانب ذلك، بدء تأسيس الدولة الكلدانية التي كان ملك بابل نبوخذ نصر الثاني أهم ملوكها.
وقد ظهرت عروضٌ عديدةٌ عن الكتاب في دوريات عالمية، منها العرض الذي كتبه العلامة الهولندي ﭬﺎن دريل (Van Drell) ونشره في مجلة بيبليو أورينتاليس (Biblio Orientales)، في المجلد 25 في أيلول 1969م. كما قدَّم عنه العلامة الألماني ولفرام ﭬﻮن زودن (Wolfram von Soden) عرضًا في مجلة أسيريولوجي (Assyriology)، أي”مجلة الأشوريات”المجلد 60، الصادر في سنة 1970م.
مؤلفاته :
1. الإسلام نظريًا وعمليًا، وقد صدر بالإنكليزية، وعنوانه الأصلي:
Sami Said Ahmed, Islam: Theory and Practice, Colorado Muslim Society, 1965. (53 pages).
2. جنوب العراق في زمن الملك آشور بانيبال. صدر باللغة الإنكليزية بعنوان:
Southern Mesopotamia in the time of Ashurbanipal, Mouton, 1968.
3- الأسس التاريخية للعقيدة اليهودية.
4– الأصول الأولى لأفكار الشر والشيطان

5- الإله زووس: مقدمة في دراسة الاعتقاد بزووس حتى اضمحلال روما.
6- اليزيدية: أحوالهم ومعتقداتهم
7- السومريون وتراثهم الحضاري
8- العراق القديم حتى العصر الأكدي
9- تاريخ فلسطين القديم
نشر له مركز الدراسات الفلسطينية التابع لجامعة بغداد في سنة 1979م كتابًا بعنوان تاريخ فلسطين القديم، وهو أول كتاب علمي يكتب عن تاريخ فلسطين القديم، إذ أن معظم ما كتب عن تاريخ فلسطين القديم قبله كان غير علمي ومبسَّط، بينما كان هذا الكتاب موسوعةً علميةً بكل معنى الكلمة؛ فلا توجد فيه معلومةٌ إلا وفيها سندٌ علميٌّ مستمدٌّ من الأدلّة الأثرية والنصوص القديمة. وفي نهاية الكتاب يستعرض اسم فلسطين في المعاجم القديمة حتى يبرهن كونه من حضارة العرب، كما يقدم لنا جغرافية فلسطين بدءًا من العصر الحجري القديم والوسيط.
10- المدخل إلى دراسة تاريخ اللغات الجزرية.
11- ملحمة كلكامش
كتب أخرى

إلى جانب الكتب المذكورة هناك كتب أخرى، مثل كتاب حضارات الوطن العربي كأساس لخلفية المدنية اليونانية، الذي صدر عن اتحاد المؤرخين العرب سنة 1980م، وفيه برهن الأحمد أن خلفية الحضارة اليونانية مستندة إلى حضارات الوطن العربي الثلاث: العراقية القديمة والمصرية ثمَّ الكنعانية التي سادت في سوريا وفلسطين. وله كتاب عن الخليج العربي بعنوان تاريخ الخليج العربي من أقدم الأزمنة حتى التحرير العربي، وقد صدر سنة 1985م، وكان دافعه لتأليفه افتقار المكتبة العربية أو الأجنبية إلى كتاب جامع مفصَّل لتاريخ الخليج العربي القديم. وهناك كتاب تاريخ الرومان الذي صدر عن مطبعة التعليم العالي ببغداد في سنة 1988م. وله كتب أخرى بالاشتراك مع مؤرخين آخرين، مثل كتاب تاريخ الشرق القديم بالاشتراك مع الدكتور جمال رشيد أحمد، وصدر عن مطبعة التعليم العالي ببغداد أيضًا في سنة 1988م، وكتاب تاريخ الشرق الأدنى القديم: إيران والأناضول بالاشتراك مع الدكتور رضا جواد الهاشمي، وصدر عن مطبعة جامعة بغداد في سنة1990م. أمّا التراجم فقد قام بترجمة كتاب آثار بلاد الرافدين من تأليف العالِم الأثري البريطاني سيتون لويد، كما ترجم رحلة الكاردينال إلياس حنا من العربية إلى الانكليزية، فضلا عن ترجمته للفصول الخاصة بالعراق القديم من موسوعة تاريخ كمبردج القديم كما ذكرنا. وإلى جانب ذلك، له كتب أخرى صدرت عن دار الشؤون الثقافية في بغداد، ومنها: الرعامسة الثلاثة الأوائل (1988م)، وفلسطين حتى التحرير العربي (1988م)، وسميراميس (1989م)، والأدب في العراق القديم (1990م)، وتاريخ العراق في القرن السابع قبل الميلاد (2003م)، وقد صدر الأخير عن مؤسسة بيت الحكمة، وهو ترجمةٌ لكتابه الذي صدر بالإنكليزية بعنوان جنوب العراق في زمن الملك آشوربانيبال المشار إليه في أعلاه. أما في حقل البحوث فله نحو مئة بحث سواء ما كان يكتبها بالعربية أو الانكليزية، وقد نشرها في دول عربية وغربية.