عاش 76 عاماً.. ولم يمهله الموت يومين لتصفح ديوانه الأخير ..مؤيد الراوي.. شاعر «احتمالات الوضوح»

Wednesday 13th of December 2017 05:50:50 PM ,

عراقيون ,

محسن الرملي
عُرف الراوي بكونه أحد مؤسّسي «جماعة كركوك"الأدبية في العراق، عام 1964، والتي تضمّ، أسماء مثل فاضل العزاوي، سركون بولص، جليل القيسي، جان دمّو، أنور الغساني، صلاح فائق وغيرهم، والتي أثرت الحركة الثقافية العراقية منذ ستينيات القرن الماضي وكانت فاعلة ومؤثرة عبر انفتاحها على التيارات الجديدة في الثقافة العالمية، وكانت حاضنة هذه المجموعة بيئة كركوك المتنوعة بأطيافها الاجتماعية والدينية واللغوية حيث يتعايش فيها العرب والأكراد والتركمان،

ومؤيد الراوي نفسه ولد من أمٍّ مسيحيَّة وأبٍ مسلم ويعرف أكثر من لغة منذ صغره، وكتب نصاً سردياً عميقاً وجميلاً عن كركوك وآثرها فيه بعنوان «المكان الأول.. سيرة مقتضبة».

سماته الشعرية

إلى جانب كونه مناضلاً، كان مؤيد الراوي شاعراً وفناناً في الخط والرسم وناقداً مُنظراً، إلا أنه لم يكن مهتماً بجمع مختلف أعماله هذه ومقالاته وإصدارها في كتب، ولم يكن ساعياً إلى شهرة أو نجومية، فظل طوال حياته مبتعداً عن أضواء المهرجانات والمؤسسات، فكما يقول في ديوانه الأخير: «أعتقد بأن مشروع أيّ شاعر، في جزءٍ مهم منه، هو محاولة الخروج من سجن المواطنة الجماعية الذي تمّ تدجيننا فيه، والنأي عن المؤسسة وهرمها المثقل عليه. ومشروعه أن يكتشف هويته الخاصة ويمسك بذاته العميقة خارج الذوات الأخرى، بعيداً عن التشكل الجماعي».
فلم تصدر له إلا ثلاثة دواوين كانت كافية لترسيخ اسمه بجدارة، وهي: «احتمالات الوضوح"ببيروت عام 1977، و«ممالك» عام 2010 و«سرد المفرد"2015 اللذين صدرا عن (دار الجمل)، وترجمت قصائده إلى عدة لغات، منها الألمانية والإنكليزية والفرنسية.
ومنذ صدور ديوانه الأول، لفت الراوي إليه الأنظار باعتباره شاعراً متميزاً، حيث يقول الروائي حسين الموزاني عن ذلك بأنه: «عندما نشر مؤيد الراوي مجموعته الشعرية «احتمالات الوضوح"في بيروت عام 1977، نزلت علينا نزول الصاعقة، نحن المنفيين العراقيين والعرب في لبنان آنذاك، لأنّنا لم نألف هذا الشعر بعد، فكان كلّ شيء فيه جديداً، معنىً ولغةً وصوراً وتمرّداً وتحدياً وقوةً وجمالاً».
ويبقى كونه أحد مؤسسي (جماعة كركوك) أكبر إنجازاته لما عنته وما زالت تعنيه هذه الجماعة في تشكيل الثقافة العراقية المعاصرة والتي كُتب بشأنها الكثير، ومنها ما قاله عنها الناقد الدكتور مالك المطلبي واصفا إياها بأنها «فتحت باب التجريب العنيف»، «فبعد أن قام الشعر الخمسيني بانعطاف تاريخي، بتحويل مجرى الشعر العربي، من القيد العمودي، إلى الفضاء الحر، حيث بدا، في حينها، أنه من المستحيل تجاوز تلك القمم الثلاث: السياب والبياتي ونازك الملائكة، التي صارت أقرب إلى المقدس (المطلق) منها إلى التاريخي (النسبي)، جاء فعل الستينيين، على يد (جماعة كركوك) خاصّة، ببيانات، وأعمال، سددت لشعر التفعيلة، أو الشعر الحر، ضربة قاصمة، حين وسمته بالشعر العمودي بثوب فضفاض! وباتت قصائد الخمسينيات بإزاء الأشكال الهندسية الستينية التي تشكل محتوى الصدمة في بناها الاستعارية، فعلا اعتياديًّا. ومن هنا فُتح باب التجريب العنيف، ليُفصل الشعر الخمسيني عن الستيني، بعوامل فنية، وجمالية، وليس بتسجيلية الزمن، كما عليه ظاهر التسمية. ولعلي أشير، هنا، إلى ثلاثة أسماء تعد الرأس المحرك لتلك الجماعة، وهم: مؤيد الراوي، وفاضل العزاوي، وسركون بولص».
وعلى الرغم من أن الراوي قد أمضى حياته مع الشعر بكل ما تعنيه كلمة جدية، وكان كثير الإعادة والتنقيح والتدقيق لنصوصه، وأثرت أعماله في الكثيرين، إلا أن الراوي، وحتى آخر أيامه، كان مترددا بوصف وتعريف الشعر.. هذا الذي كرس له مجمل حياته لما يعنيه له من أهمية وما يكنه له من إجلال أو حتى ربما لسعة معرفته به، فهو يقول في تقديم ديوانه الأخير، إن «تعريف الشعر مسألةٌ معقدة. ليس لأنه يقع دوماً في قلب أزمته الخاصة التي يريد تجاوزها، بل لأنه أيضا مرآةٌ لأزمة الإنسان ذاته، من عصر إلى عصر. وربما هذا التعقيد ناجمٌ في جزءٍ منه، وهو الأهم في نظري، عن أن الشعر، والفن عموماً، هو عكس المنطق. بينما عالمنا كان وما يزال محكوماً بقوة المنطق الذي يشكل قاعدة متسلطة على حياتنا المعاصرة ويبعدنا عن الشعر. الطفلُ، في جزء منه، يولد شاعراً. لم يصل منطق الحياة إليه».

سيرة الشاعر المُطارد

ولد مؤيَّد شكري محمود الرّاوي في مدينة كركوك شمال العراق عام 1939 وأكمل فيها دراسته الثانوية، ثم عمل في التدريس بعد حصوله على شهادة دار المعلمين العالية. وعيّن في قرى نائية عن مدينته بسبب توجهاته الفكرية الليبرالية، ثم تم اعتقاله بعد انقلاب سنة 1963 وأمضى قرابة العامين في سجن (المعتقل العسكري) في كركوك وبعدها تم فصله من الوظيفة، فغادر إلى العاصمة بغداد، وهناك صار مشاركاً فاعلاً في ساحتها الثقافية، حيث كتب وساهم في تأسيس عدد من الصحف، وكان آخر عمل له في جريدة «النصر» محرراً لصفحة بعنوان «الإنسان والفكر»، وقدم مجموعته الشعرية الأولى «نزهة في غواصة» للطبع، إلا أن الرقابة لم تسمح بنشرها، وصار يتعرض للمضايقات والاعتقالات بعد الانقلاب الثاني الذي قام به (حزب البعث) عام 1968 فغادر الراوي بلده العراق نهائياً عام 1970 متجهاً إلى الأردن ومن ثم إلى سوريا وبعدها إلى بيروت التي أمضى فيها عقد السبعينيات كاملاً.

وهناك، انضم إلى صفوف المقاومة اليسارية الفلسطينية وعمل سكرتيراً لتحرير مجلة «فلسطين الثورة»، المجلة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية. عايش أجواء الحرب الأهلية اللبنانية وأصدر ديوانه الأول والأشهر «احتمالات الوضوح"عام 1977عن مطابع مجلّة «فلسطين الثورة»، كما ساهم في «رابطة الكتاب والفنانين الديمقراطيين العراقيين» التي تشكلت في بيروت، وفي مجلة «البديل"التي كانت تصدرها، إلا أن مطاردة المخابرات العراقية له واكتشافه أنّ نظام البعث قد وضع اسمه ضمن قائمة الشخصيات التي ينوي تصفيتها، جعله يغادر بيروت أواخر عام 1979 برفقة زوجته وطفليه متجها إلى برلين التي أمضى فيها بقية حياته.

مقتطفات من نصوص الراوي

أخاف الموت

«وأنا أتحدث عن الموت، أخافه حقاً. وأرى مع مرور الأعوام حكمة الزمن عندما يوهن الجسد. ونحن نكتشف الضعف والوهن نحس بأن الجسد لم يعد مثلما كان، قادراً على الحركة الطليقة، أو متمكناً من التلقائية التي اتصفنا بها في عمر الشباب. إنه الموت غير المعلن الذي يهدم فينا الحياة جزءاً فجزءاً. لم أرَ في حياتي جسداً يوارى تحت التراب. وقد تحاشيت ذلك وهربت منه دوماً كي لا أرى عائلتي وأصدقائي الذين تلامست معهم وعشقت دفأهم يرحلون فأكون شاهداً على دخولهم إلى شق في التراب، ثقيل هو عليهم، لا يستطيعون النهوض منه. ولربما وأنا أكتب عن الموت أريد أن أعتاد عليه وأن أحاول تطهير نفسي من إثم وداع الذين أحببتهم دون أن أقبِّلهم من جبينهم عندما بردت أجسادهم ودخلوا تلك المتاهة التي لم يخرج منها أحد حتى الآن. وقد يكون هذا الإلحاح في الكتابة عن الموت ضرباً من وهم المواجهة وخداعاً منّي بتمثل حقيقته القاسية».

* من نصه السردي «المكان الأول.. سيرة مقتضبة» الذي كتبه عام 2003 ونُشر في أكثر من منبر دون أن يصدر في كتاب.

هرب النهار

«هرب النهارُ حاملاً معادنَ ثقيلةً فاضت عن القلبْ،

هرب النهارُ الذي تعرّف عليَّ خارج زهور الحقل

وفواكه المزارع، ابتعد عن ثلج الجبال طاوياً سيرة حياته
أبعدَ ما تكون عن الشرطة.
أهو الليلُ الذي لفّني بعميق همومه،
أم هي بركة قلبي أسقطوا فيها حجراً؟
أهو الصباح الذي سجنوه،
أم هو الوضوح الذي أسقطوا جناحه،
أو أنا الذي ابتعدتُ عن الصباح
مشتتاً في احتمالات الوضوح؟».
* من ديوان «احتمالات الوضوح»

مسرح الغواية
«في ذلك المسرح الآن أحداث لا تحدث
يلغط الحكواتي مخدرا نائما
ثم يكرر الرواية نفسها ويلوكها»
**
«مسرح للغواية تلك الممالك
والناس يتدافعون لنصب العروش
في هذا المسرح ينبغي
أن نعيد التكوين قبل الكلام».

**
«هذا الزمان بعد عقود من الحرقة رديء
يطوي الوجوه ويسرق الدفء ثم يعري العظام
تحيط بك مملكة تآخى الناس فيها والضياع».

*من ديوان «ممالك»

المفردات تبقى مفردات
المفرداتُ محصنةٌ غنيةٌ بذاتها
تتوالد وتُستنسخ إِذا أردتَ توليد المعاني
أنت سيد المفردات إذا أردت تسردها كما تشاء.
المفردات عيانية منحوتة في الصخر:
الليلُ والحجرُ والشجرُ والقتيل:
الليلُ أشباحٌ ولصوصٌ وقتلة.
الحجرُ يقيمُ مدينة تأتي إليها الأوبئة،
وجسوراً يهدمها الفيضان.
والمدينةُ يصيبها الجوع والطاعون.
مدينة الفقراء
مدينة اللصوص
مدينة العتاة بيدهم البنادق
مدينة المعوقين تَجولُ فيها الضغينة.
..........

أنت ترى دوما في الليل والمدن والغابة
ثلاث جثثٍ موشومة ببقع حمراء، في الجبين والصدغ وفي الصدر حيث القلب،
سرعان ما يحطُ عليها طائرٌ يردد نحيب المقابر
لكن المفردات تبقى مفردات
وأنت مسكونٌ بالكثرة تُؤول المفردات
ثم تكاثرها وتشطرها
لتفسّر مفردات الآخرين.
**

«أنتَ هنا
لكنكَ ما زلتَ هناك،
هذه الأكمّة غادرتها
وتلك الجبال الصخرية اجتزتها،
بعيون مياهها وريحانها وغزلانها.
رأيتَ ما رأيتَ
واختزنتَ كلّ ما رأيت.َ
وما تريد أن تراهُ هنا إنما هو هناك،
لوعة لا تنطفئ في الترحال».

* من ديوان «سرد المفرد»

نعيان

نعت رفيقة درب مؤيد الراوي الطويل، زوجته السيدة فخرية صالح البرزنجي، والتي كانت تحاول منعه عن التدخين حرصاً على صحته، الشاعر الراحل بهذه الكلمات:

«انطفأت كل نجوم سمائي
وشمسي غابت إلى الأبد
لك كل سكائر الكون

بسمومها
بعطورها
بوقدتها التي لا انطفاء فيها
فقط.. أرجوك
عُد إليّ
ولا تتركني وحيدة».

***********