كيف تأسست منطقة بغداد الجديدة؟ .. عندما خرجت بغداد من سورها القديم...

Sunday 24th of September 2017 05:25:03 PM ,

ذاكرة عراقية ,

د. عباس فرحان الموسوي
كان توسع المدينة قد تم على شكل مراحل خلال حقب زمنية مختلفة، بدأت المرحلة الاولى منها عام 1920، عندما أعد المهندس المعماري البريطاني ويلسون تصميماً اساسياً.اقترح فيه اعادة تنظيم المدينة واستحداث وحدات سكنية في العديد من المناطق منها العلوية والسعدون والهنيدي.وفي عام 1923 ظهرت حركة العمران والتوسع حول الكرخ والرصافة والكاظمية والاعظمية وكانت على شكل امتداد طولي بدلاً من الدائري او شبه الدائري.

ويمكن القول ان توسع مدينة بغداد وتطورها خلال عهد الانتداب قد فاق التطور الذي حدث في المدن العراقية الاخرى. لكونها عاصمة المملكة وبفعل عوامل اخرى أبعدتها عن الصفة الإقليمية التي تميزت بها تلك المدن.ففي عام 1930 أنشأت محلة السعدون وتوسعت الاعظمية القديمة (الشيوخ، النصة، الحارة والسفينة) نحو هيبة خاتون، وأنشأت محلة راغبة خاتون وتوسعت محلة الشيوخ في عام 1931. اما الكرادة الشرقية فقد توسعت عام 1933 وانشأت فيها مئات القصور. وافتتحت فيها الشوارع الواسعة بعد ان كانت قرية صغيرة ليس فيها الا العدد الضئيل من قصور الأغنياء ومساكن الفلاحين المبنية من اللبن.

وامتدت مدينة بغداد في الثلاثينيات شمالاً وجنوباً بشكل يختلف عن السابق وعلى امتداد نهر دجلة وتحولت من النمو الدائري او شبه الدائري ضمن أسوارها لتصبح ذات امتداد طولي، إذ أن الفيضانات لها اثر كبير في تحديد مساحة المدينة وتوسعاتها. ولا سيما في الجانب الشرقي الذي كان مهدداً بالغرق اكثر من الجانب الغربي. لذلك كانت تلك التوسعات عشوائية بعيدة عن الخطط التوجيهية(.
كانت اولى المحاولات الجادة، ذات الأهمية في تخطيط مدينة بغداد، قد جرت في بداية سنة 1936. عندما استدعت الحكومة العراقية، البروفسور الالماني المشهـور بتخطيط المدن بريكس ومعاونه برونو وينفر وقد أوكلت اليه أمانة العاصمة مهمة اعداد تصميم حديث لمدينة بغداد. فكتب تقريراً أوصى بموجبه بأهمية فتح شوارع جديدة كان من أهمها الشارع الذي عرف بـ(شارع الملك غازي) وفضلاُ عن ذلك فقد اشار الى اهمية فتح شارع عريض اخر مواز للشارع المذكور لاهميته من جانب معماري ولتسهيل حركة النقل في بغداد.وقدم تقريره عن طريق السفارة الالمانية في بغداد، وتناول المطارات والسكك الحديد والسكن ومشاريع الماء والكهرباء والمجاري والشوارع والكراجات ولم ينفذ بصورة تامة لكنه كان مشروعاً ممهداً لوضع تصاميم اخرى اكثر دقة.
قامت تخمينات ذلك التصميم على اساس ان مدينة بغداد لا تستوعب اكثر من نصف مليون نسمة، اذا بقيت على حدودها القديمة المثبتة بلا إضافات جديدة، لذلك استندت حسابات التصميم الى تلك التوقعات، وأخذت بنظر الاعتبار الزيادة الطبيعية، بحيث تتمكن المدينة من استيعاب 1.2 مليون نسمة في أحوال اقتصادية واجتماعية مناسبة للزيادة المتوقعة في سكان بغداد.
سار توسع المدينة بدون تخطيط منظم في الثلاثينيات وظهرت أحياء جديدة كانت ذات طرز معمارية مختلفة عن عمارة الأحياء البغدادية القديمة، من حيث ضخامة بيوتها وكثرة عدد الغرف فيها، التي تكونت من طابقين وتقلصت الحدائق لزيادة مساحة البناء. اذ ان التقاليد الاجتماعية ساهمت في بقاء الأسرة مجتمعة ومتماسكة في بيت واحد كذلك ساعد استعمال قضبان الحديد [ الشيلمان] وأنشاء أول مصنع للسمنت في العراق عام 1936 واستعماله بدلاً من الجص على زيادة متانة البناء وعدد الطوابق.
وفي نهاية الثلاثينيات شجعت عوامل عدة على توسع المدينة وبناء العمارات الحديثة والمساكن الواسعة، منها استثمار الرأسمال الوطني في فترة الركود الاقتصادي محلياً بدلاً من استثماره في تجارة الترانسيت مع دول الجوار او شراء مضخات الري، التي أصبحت غير مشجعة، وساعد استتباب الأمن والاستقرار على امتداد حركة البناء().يمكن القول : انه على الرغم من تلك التوسعات كانت بغداد قد تأثرت بشكل كبير بالسداد التي تحيط بها فبقي الشكل المستطيل هو السمة البارزة في توسعاتها على جانبي نهر دجلة.
شهدت بغداد في بداية الأربعينيات توسع جديد، فقد ظهر نمط حديث من البيوت يختلف عن بيوت المرحلة الاولى للتوسع. عرف بنطاق البيوت المتصلة وهي ذات مساحات مختلفة تراوحت ما بين (200-300) متر،حدائقها كانت في المقدمة. ظهرت بيوت هذه المرحلة في محلات البتاوين والعلوية وفي مناطق مختلفة من كرادة مريم ومحلة هيبة خاتون في الاعظمية وفي منطقتي الوزيرية وبارك السعدون والمنطقة المحصورة بين الاعظمية وبغداد القديمة على شكل نطاق ضيق يمتد مع امتداد نهر دجلة.كان نمو مدينة بغداد خلال الحرب العالمية الثانية بطيئاً نسبياً بفعل عوامل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي،وتعرض المدينة لفيضانات متكررة فضلاً عن التأثيرات السلبية للحرب،التي انعكست على انخفاض الدخل القومي للبلاد فتدهور المستوى المعاشي للمواطن العراقي بصورة عامة.وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية استتبت حالة الأمن والاستقرار نوعاً ما في مدينة بغداد فكان هذا الامر من العوامـل المشجعة على توسع الضواحي المحيطة بالمدينة. التي كانت في الأصل بساتين تنتشر على ضفتي نهر دجلة في الرصافة والكرخ، بعد زيادة رغبات البغداديين في تشييدهم للدور السكنية الواسعة في تلك الضواحي. وفي مقدمة ذلك الاقطاعيون الذين قاموا بشراء الأراضي الواسعة وتقسيمها على قطع صغيرة المساحة بهدف تسهيل عملية بيعها وبأسعار عالية، ونافسهم التجار في ذلك لتحقيق الربح السريع.
لم تكن محاولات الإقطاعيين والتجار تلك بعيدة عن أنظار الجهات المسؤولة، وبهدف التخلص من محاسبة سلطاتها القانونية توصل المضاربون بتجارة الأرض الى وسائل وطرائق مختلفة، تمثلت باشراك اصحاب المناصب العليا، من الوزراء وكبار موظفي الدولة معهم واعطائهم نسبة من الارباح، وبفعل تلك المشاركة، تمتع المضاربون بحماية خاصة بعيداً عن طائلة القانون، وغض النظر عن اعمالهم. وبهذا الصدد يشير المؤلف عبد الرزاق الظاهر الى ضعف إجراءات الحكومة وازدواجية عملها قائلاً : (نحن نسوق للمحاكم من نجد عنده اذرعاً محدودة من القماش يبيعها في السوق السوداء في حين ان الارض المحيطة ببغداد والتي يراد تأسيس العاصمة الجديدة عليها تباع كلها على يد المضاربين بالسوق العلنية السوداء). أدى تنافس المضاربين بتجارة الأرض الى ارتفاع كبير في أسعارها ووصلت الى أرقام خيالية [حسب مقاييس تلك الحقبة] إذ ارتفع سعر المتر الواحد من نصف دينار الى دينارين ونصف ثم تضاعف الى عشرة دنانير. في حين كان ثمن الشراء لا يتجاوز أربعين او خمسين فلساً للمتر الواحد في اغلب الأحيان، لقد كان هذا التنافس عاملاً مساعداً ومشجعاً على نمو المدينة.
كان توسع المدينة على امتداد جانبي النهر ووصل البناء الى الكاظمية والاعظمية والكرادة الشرقية. الى جانب ذلك توسعت الرصافة من السنك والباب الشرقي نحو ارخيته والكرادة الشرقية، ثم اتصلت بمعسكر الرشيد والاعظمية، واتسع جانب الكرخ حتى (مكان محطة قطار بغداد) وجنوباً حتى كرادة مريم أي ان طول المدينة اصبح يتراوح بين (20-50) كيلو متر. ومن الجدير بالذكر ان التوسع قد حدث بعد ازدياد توجه سكان بغداد القديمة المحصورة ضمن بقايا السور نحو تلك المناطق (). انسجاماً مع التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي سمح لهم بالتنقل لشراء مساحات واسعة وتشييد بيوت فخمة تتلاءم مع مراكزهم الاجتماعية ومستوياتهم الاقتصادية.
ظهرت احياء جديدة في بغداد عام 1945 حيث أسست شركة خاصة لإنشاء البيوت الحديثة الواسعة. بعد اتفاق جماعة من أصحاب رؤوس الأموال من العراقيين والمصريين على تأسيس شركة عرفت بشركة بغداد الجديدة على غرار شركة مصر الجديـدة، تولـى ادارتها المهندس جاسم محمد عبد الغني. يساعده مجلس ادارة تألف من ابرز المساهمين فيها، ومن الجدير بالذكر أن اليهود قد تمتعوا بنفوذ كبير في مجلس ادارة الشركة، فشرعوا بتمويل المشروع واخراجه الى حيز الوجود لأغراض اقتصادية صرفة.
كان رأسمال شركة بغداد الجديدة في بداية تأسيسها مليون دينار عرضت أسهمها في السوق بسعر (خمسة دنانير للسهم الواحد) فحدث اقبال كبير على شراء تلك الأسهم، وبعد الاكتتاب باشرت الشركة العمل واشترت ارض واسعة تتكون من ألاف الدونمات تقع في شرقي العاصمة. وكان (يحدها من الغرب تل محمد ومن الجنوب اراضي عبد الجبار غلام ومعسكر الرشيد ومن الشرق اراضي شفيق السعيدي وزيونة من الشمال). اشرف على تخطيط بغداد الجديدة المهندس سيد عبد الكريم المصري الذي خطط مصر الجديدة، وكانت تماثلها من حيث مساحات البيوت والشوارع ونوعية البناء.
ومما يجدر ذكره أن الأرض المخصصة للشركة كانت معرضة للغرق بمياه الفيضانات عند ارتفاع مناسيب المياه في نهر دجلة فتضطر الدوائر المختصة بهدف أبعاد خطر الفيضانات عن بغداد الجديدة الى أحداث كسرات في الأسداد التي تحيط بالمدينة، وبهدف التخلص من تلك الأخطار، قامت الشركة باتخاذ اجراءات احتياطية تمثلت بإنشاء سد ترابي لتامين ووقاية بغداد الجديدة اذا ما تعرضت للفيضانات، ثم قامت بعد ذلك بتخطيطها على شكل هندسي منظم.
شيدت الشركة اول بناء لها في بغداد الجديدة كان كازينو(ليالي الأنس) ودور منفردة قامت ببيعها للميسورين بأسعار عالية. كذلك أنشأت دوراً أخرى تضم كل منها ست غرف. اهتمت الشركة بتنظيم المدينة وتوفير الخدمات الضرورية فيها ونصبت جسرين في مدخلها وعبدت طرقها الرئيسة والفرعية،وافتتحت سوقاً عصرياً فيها، وقامت بإنشاء الحدائق المتنوعة وتشجير الطرق والشوارع وتشييد ساحة لسباق الخيل على الجانب الأيسر من الطريق المؤدي الى بعقوبة. كذلك وفرت الشركة فيها خدمات الماء والكهرباء والنظافة بوساطة (عمال النظافة). لعـدم وجـود السيـارات الخاصـة بنقل النفايات. اما الخدمات الصحية فقد افتقرت الى المستشفيات والصيدليات، لذلك كان المرضى يذهبون الى المستشفيات القريبة لغرض المعالجة.
يمكن القول إن بغداد الجديدة كانت مدينة عصرية توافرت فيها العوامل والأسباب الجاذبة لسكان بغداد القديمة، وقد وصفها السيد عبد الرزاق الحسني بانها صورة مصغرة للاحياء الحديثة في بيروت والقاهرة والقدس من حيث تخطيطها وشوارعها واسواقها وتوفر الخدمات الضرورية فيها.
لم يحقق مشروع بغداد الجديدة نجاحاً كبيراً في بداية الامر لتعرض المنطقة للفيضانات الى جانب المنافسة الشديدة التي اوجدتها شركة حديثة مماثلة لها تأسست بعدها لبناء البيوت في غربي بغداد عرفت بشركة المنصور.
اما تخطيط مدينة بغداد بعد عام 1945، فقد شعرت امانة العاصمة بأهمية وضع دراسة شاملة عن المدينة.فقامت باستدعاء مؤسسة مونبريو البريطانية وكلفتها بإعداد تصميم جديد للمدينة يتلاءم مع متطلبات العصر،وركزت جهودها على تنظيم وترميم بعض الواجهات القديمة فيها وعملت على فتح طرق ثانوية بهدف الربط بين مناطق السكن وأماكن العمل الرئيسة في المدينة واقترحت إنشاء خمسة جسور جديدة، واوصت بفتح كورنيش ونقل المطار الى طريق الفلوجة، ودعت الى إنشاء محطات ومخازن وأرصفة شحن خلف السدة الشرقية. كما أوصت بحصر المؤسسات الصناعية في منطقة الدورة وقرب مصافي النفط وقرب معمل الأسمنت في جنوب معسكر الرشيد ونقل معامل الطابوق ومنع انشاء الدور في المناطق الصناعية. ولم تّطبق توصيات الشركة في وضع التصميم لعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي فضلاً عن عدم وجود المبالغ اللازمة لذلك.
امتدت بغداد خلال هذه الحقبة نحو الأعظمية التي توسعت هي الاخرى نحو الجنوب باتجاه الكرادة الشرقية بعد ان حلت الدور الجديدة محل بساتينها وامتد الكرخ بشكل بطيء نحو الشمال ثم توسع نحو الجنوب واتصل بكرادة مريم نحو الغرب إذ ظهرت بداية ضاحية جديدة هي المنصور وتوسعت الكاظمية نحو الجنوب.
ازداد بناء الدور الحديثة ذات الحدائق الواسعة في الكرادة الشرقية في اطراف العلوية، وفي منطقة الصليخ وفي اطراف الاعظمية والكاظمية، والمنصور على حساب بساتين النخيل التي كانت قائمة خلف تلك المناطق، الا ان هذا التوسع كان ضمن حدود امانة العاصمة المتمثلة بالسداد الشرقية التي لا تبعد كثيراً عن ضفة النهر، فبقي الشكل المستطيل هو السمة الغالبة للمدينة بسبب الخشية من الفيضانات التي لعبت دوراً كبيراً في الحد من توسع المدينة عرضياً. حتى انشأ سد الثرثار عام 1956 الذي حد من خطورة تلك الفيضانات.
ظهرت محاولات اخرى لوضع تصاميم جديدة لمدينة بغداد في بداية الخمسينيات، ويذكر فخري الفخري.امين العاصمة عام 1954 الجهود التي بذلها في تخطيط المدينة بوضع تصميم اساس لها في سنة 1956 بعد تقديمه طلباً الى الجهات المختصة لاستقدام المستشارين البريطانيين (مينوبريو وبنسلي وماكفارلين) للقيام بأعداد الدراسة الشاملة من اجل وضع تصميم مميز عن التصاميم الأخرى، فتم تطبيقه في حين بقيت التصاميم السابقة لمدينة بغداد حبراً على ورق.
كان التصميم الأساسيّ الذي وضع لمدينة بغداد عام 1956 على شكل شعاعي يسهل الحركة في المدينة واطرافها من جهة ولكنه من جهة اخرى قد يؤدي الى أضعاف الوظيفة السكنية لان قطع الأراضي ذات الأشكال الهندسية قد لا تكون مرغوبة لأغراض السكن. واهم ما جاء في التصميم فتح شارع الخلفاء وانشاء مشروع تصريف المياه القذرة. وصاحب تطبيق التصميم هدم كثير من الدور في الجانب الشرقي من بغداد.
وفي عام 1958 كلفت الحكومة شركة دوكسيادس اليونانية بأعداد تصميم جديد للمدينة يكون على شكل مربع يمتاز بطرق مستقيمة ومتوازية ومتقاطعة مع بعضها ومما يجدر ذكره أن هذه الشركة قد استعملت للتخطيط الموقعي وليس لتخطيط المدينة وانما قامت بوضع تصاميم لمشاريع الإسكان في حي اليرموك وغربي بغداد لكنها اهملت لانها لم تكن دقيقة.

عن رسالة (الحياة الاجتماعية في بغداد 1939 ــ 1958)