من آينشتاين الى هوكينغ..صراع العلم والدين ومعركة الأصل والمصير

Tuesday 19th of September 2017 06:06:48 PM ,

منارات ,

د. جواد بشارة
في بداية ثلاثينات القرن الماضي القرن العشرين كانت النقاشات الفلكية وعلم الأكوان حادة ومكثفة جداً. أفرزت فكرتين رئيسيتين : الأولى تقول أن الكون المرئي بمجمله بات موضوعاً علمياً، والثانية تقول بأنه لا يمكن وجود علم كوني بدون نظرية موازية عن نشوء الكون وعلم تكون الأجرام السماوية، أي بمعنى آخر لا يمكن مقاربة الكون المرئي علمياً بدون طرح التساؤل حول الفرادة البدئية أو التأسيسية

ووفق المقولة الأولى حدثت ثورة عارمة حقيقية في الأذهان وأنماط التفكير، إذ بظهور نظرية النسبية العامة لاينشتين بات من الممكن اقتحام مجاهل الكون المرئي وأصبح هذا الأخير خاضعاً للحسابات العلمية والتعبير عنه بالمعدلات الرياضية وقابلاً للرصد والمراقبة والمشاهدات الفلكية. أما المقولة الثانية فقد استندت إلى تطور الفيزياء الكوانتية أو الكمية التي مكنت العلماء من العمل بالطرق التجريبية حول الإمكانية العملية العلمية والمادية الملموسة لبداية الكون المرئي حيث أتاح علم الكونيات في تلك الفترة إمكانية سرد قصة الكون المرئي من وجهة نظر علمية بحتة. صار الناس يفكرون علمياً بالكون حتى قادهم ذلك بالضرورة للتحدث عن تطور الكون منذ الأصل الأمر الذي أوجد صعوبة جديدة أمام العلماء والفلاسفة على حد سواء وبالطبع لم يستثن رجال الدين.
عندما نشر آينشتاين مقاله الشهير عن الكون سنة 1917 حاول بذكاء منقطع النظير أن يتفادى معضلة أصل وبداية الكون فأضاف بشكل مصطنع وعن قصد أيديولوجي مسبق ما عرف بـ”الثابت الكوني الذي يجعل الكون من الناحية النظرية أبدياً أو خالداً وموجود منذ الأزل ولكن سرعان ماانهارت هذه المسلمة الفكرية المصطنعة التي ساهمت ولفترة طويلة بتجنب الصراع الفكري بين الطرح الديني والطرح العلمي لمفهوم البداية والأصل. بيد أن الأبحاث العلمية التي قام بها الراهب ورجل الدين والعالم الفيزيائي جورج لوميتر بين 1927 و 1933 دفعت إلى مقدمة المشهد الفكري والثقافي حيثيات علم الكون وعلم نشوء الكون وأجرامه السماوية مما أرغم رجال العلم ورجال الكنيسة على مواجهة المشكلة المطروحة المتعلقة بالأصل والمصير، كل من زاويته وبأدواته النظرية بغية الإقناع. ففكرة البداية العلمية أو التكوين حسب المصطلح الديني، أصبحت العمود الفقري أو المحور الذي تدور حوله الأبحاث العلمية وكافة التأملات بشأن الكون المرئي وتحددت الإشكالية بطريقة الطرح والمعالجة لموضوعة”الأصل". فلقد ربطت نظرة النسبية العامة بين المادة والزمن والمكان ولم يعد ممكناً الحديث عن بداية للعالم المادي بدون طرح السؤال بشأن البداية الزمنية والمكانية لهذا العالم. وبذلك تحولت قضية الأصل إلى مسألة مطلقة وقد ورد أغلب ما تعرضنا له أعلاه بوضوح وصراحة مدهشة في أبحاث لوميتر العلمية والفلسفية حيث تحدث عن التبعات والتداعيات الفلسفية لمفهوم”الفرادة البدئية أو التأسيسية الذي اقترحه لوميتر في أطروحته ونموذجه عن الكون في كتابه المعنون”فرضية الذرة البدائية حيث يعتقد لوميتر أن نظريته موجودة خارج حدود التساؤلات الميتافيزيقية والدينية رغم كونه رجل دين مؤمن إذ يعتقد أنه يمكن للفكر المادي أن ينكر وجود كائن متسامي ومتعالي يكون فوق الوجود المادي وخارج عن مدى المعرفة الإنسانية. فلا يمكن لأية تفسيرات للمعطيات العلمية، التي كانت متوفرة في ذلك الوقت، أن تكون مطلقة وقاطعة لأن الفرادة البدئية التأسيسية الأولية غير قابلة للكشف والاختبار من ناحية المعارف البشرية المحدودة ما يعني في نفس الوقت فتح المجال على مصراعيه أمام أية فرضيات ميتافيزيقية، سواء أكانت دينية أو وضعية. بعبارة أخرى أن العلم لم يستسلم أمام الكون أو ييأس أمام غموضه فيما عدا ما يتعلق بمسألة الأصل، حيث لم تعد سوى مسألة وقت قد يطول ولكن في النهاية سوف يحسم العلم هذه القضية بشكل أو بآخر، وفي نفس الوقت لن يتمكن أي دين أو معتقد أو إيمان من أن يستند إلى الكون المرئي”ولا حتى لنقطة البداية"، لأثبات صحة الأطروحة الدينية أو تبريرها. من هنا أصبح الكون المرئي القابل للرصد والمراقبة من احتكار العلم وحده ولم يسمح بأية مقاربة بين الله والكون إلا أن النقد والشكوك والهجمات المتبادلة استمرت على نفس الوتيرة بين رجل العلم ورجل الدين دون أن يصل ذلك إلى حدود الحرب بل مجرد معارك متناثرة وعلى فترات زمنية متفاوتة حسب المناخ الفكري السائد ونوع السلطة السياسية وميولها. فعندما تحدث جورج لوميتر عن فرضيته عن الذرة البدائية قاطعه آينشتين بحدة وصرامة قائلا ً”لا ليس هذه لأنها توحي كثيراً وتذكر بمفهوم الخلق الرباني” كما أورد لوميتر نفسه هذه المحادثة بينه وبين آينشتين وردة فعل آينشتين الحادة المعبرة عن حساسيته المفرطة تجاه كل ما هو ديني وهو ما شعر به عند سماعه لوميتر يتلو عليه نظرية الذرة البدائية وذلك في لقاء جمعهما في باسادينا في أواسط سنوات العشرينات من القرن المنصرم. مما لا مناحة منه القول إن الإشكاليات والمشاحنات الميتافيزيقية بين أنصار العالم الأبدي الثابت من جهة ومن يدافعون عن فكرة”الأصل”من جهة أخرى، قد أثارت الاضطراب في النقاشات الكونية أو الكوزمولوجية العلمية حتى نهاية سنوات الستينات من القرن العشرين. فالمفهوم الأكثر إثارة للاعتراض والتبرم هو مفهوم الخلق الفوري المباشر بإرادة ربانية وبطريقة إعجازية خارقة لقوانين الطبيعة المكتشفة علمياً وهو الأمر الذي حاربه العلماء ومن بينهم آينشتين نفسه. وكان من بين أشد المنتقدين لأطروحة جورج لوميتر، الذي يعتبر الأب الروحي لنظرية الانفجار العظيم البيغ بانغ، هو العالم الفلكي الانجليزي الشهير فريد هويل الذي كان يصف لوميتر برجل البيغ بانغ، وهو من مؤيدي فكرة ثبات الكون وأزليته وبقائه على حاله إلى الأبد. وبهذه المناسبة يجدر بنا التذكير بأن الفريد هويل كان يسخر من فكرة الأصل والبداية منذ سنوات الأربعينات حيث وصف هذه الفكرة ساخراً في برنامج إذاعي بأنها تجعل الكون يولد من انفجار عظيم بيغ بانغ وبلهجة السخرية والاستهزاء لكن هذا التعبير غير العلمي أصبح فيما بعد بمثابة الصفة الرسمية التي عرفت بها نظرية الأصل للكون وانتشرت كالنار في الهشيم وصارت هي الرديف والدال على نظرية بداية الكون المرئي. من ثم امتزج علم نشوء الكون والأجرام السماوية بعلم الكونيات حسب تعبير الفيلسوف جاك ميرلوبونتي عندما صرح قائلاً”إن مفهوم الخلق الذي نساه الفلاسفة المعاصرون ونسته فلسفة الطبيعة منذ زمن طويل يعود للبروز من جديد في أفكار وكتابات علماء الكونيات. يجدر بنا التنويه أننا عندما نذكر أو نستند إلى مواقف علماء يتحدثون عن الأصل والبداية فهذا لا يعني على الإطلاق أنهم يقصدون فعلاً إلهياً خارقاً وإنما فقط الإشارة إلى بداية معلومة بالوسائل العلمية المتاحة لكل شيء مادي ملموس بما فيه الكون المرئي ومحتوياته المكتشفة لحد الآن وعلينا ألا ننسى أن المادة في الكون المرئي لا تتجاوز نسبتها 4% فقط من مكونات الكون المرئي وأن 96% من المحتويات مجهول الماهية، خاصة الطاقة السوداء أو المعتمة والمادة السوداء أو الداكنة المفترضتين من جهة أخرى يتحدث رجال الدين عن عملية الخلق بالمعنى الجوهري المعتمدة كلياً من الألف إلى الياء على الله المطلق، فبدون الله لا يمكن لأي وجود أن يوجد، إلا أن البعض من رجال الدين المعتدلين والمرنين صرح أنه حتى لو كانت النظرية العلمية صحيحة فإننا يمكن أن نعتبر أن الله هو الذي يقف وراء عملية الانفجار العظيم، ثم ترك الكون يستمر في الوجود بصورة مستقلة ظاهرياً منذ لحظة البداية وليس قبلها، وذلك بالاستناد إلى قوانينه الجوهرية التي تسيره والتي وضعها الله له لكي يعيش ويتطور وفق المنهج العلمي. ولكن هل العلم بحاجة إلى الله؟ رد العالم البريطاني الفذ ستيفن هوكينغ بالنفي بعد أن غير رأيه الذي كان يجهر به قبل ثلاثة عقود عندما أعلن في كتابه الجديد التصميم العظيم الصادر في أيلول سبتمبر 2010 مشيراً إلى أن الله ليس ضرورياً في ظهور الكون للوجود بل يعود سبب وجوده إلى قوانين الكون الجوهرية وأهمها قانون الثقالة أو الجاذبية فبفضل هذه الأخيرة أي الجاذبية يمكن للكون أن يخلق نفسه بنفسه انطلاقاً من لاشيء، فالخلق العفوي أو الذاتي هو السبب في وجود شيء ما بدلا من لا شيء، ولذا فالكون موجود ونحن موجودون وليس ضرورياً اللجوء إلى إله خارج الكون، مهما كان شكله وحجمه، ليقوم بعملية القدح وإطلاق الشرارة لخلق الكون.
وهذا الموقف يشاطره فيه العديد من العلماء المشهورين والفلاسفة الوضعيين المحدثين من بينهم عالم الأحياء هو ريشارد داوكينز الذي قال في كتابه الصادر سنة 2006 بعنوان”لننتهي من الله مرة وإلى الأبد بما أن العقول الواعية الذكية والمبدعة، من نتاجات التطور، ظهرت مؤخراً في الكون المرئي، فلا يمكننا أن نعزي أو ننسب لها عملية خلقه ومع ذلك وبهذا المعنى يبدو الله مجرد وهم”. أما العالم الفيزيائي ستيفن وينبيرغ فقد ذكر بهذا الصدد في كتابه”حلم النظرية الأخيرة أو النهائية l الصادر سنة 1997”البعض يكون فكرة عن الله من السعة والمرونة بمكان تجعل من الحتمي أنهم يعثرون عليه في كل مكان وفي كل شيء أينما يبحثون، فنحن نسمع من يقول الله هو العلي الكلي، الأول و النهائي أو الأخير أو أن الله هو كل ماهو أفضل فينا أو الله هو الكون وغير ذلك، ومن هنا بالطبع يمكننا القول أن الله هو كل ذلك وأكثر منه وهو كلمة كباقي الكلمات يمكننا أن نضفي عليها المعنى الذي نريده، فإذا قلنا أن الله هو الطاقة، على سبيل المثال، فهذا يعني أننا يمكن أن نعثر عليه في قطعة كاربون”.