ميناء البصرة في الثلاثينيات..كيف تطور الميناء خلال عشرين عاما؟

Sunday 17th of September 2017 06:10:34 PM ,

ذاكرة عراقية ,

مديرية الدعاية العامة 1939
كانت مديرية الدعاية العامة التابعة لوزارة الداخلية (وهي تمثل وزارة الاعلام فيما بعد)،تصدر مجلة شهرية لمنجزات الحكومة العراقية وتطور خدماتها المختلفة باسم (العراق الجديد)، وقد صدرت سنتها الاولى في اوائل سنة 1939،وفيما يلي تقرير نشرته المجلة في سنتها الاولى عن ميناء البصرة الواقع على شط العرب عند المدينة نفسها...

يعتبر ميناء البصرة من احسن وانظم موانئ العالم. وفي الكلمة التالية يجد القارئ صورة عامة للميناء المذكور بكافة مؤسساته واقسامه والتطورات التي تغلب فيها.يشتمل ميناء البصرة على النهر المعروف بشط العرب وعلى مسالكه الواسعة ابتداء من البحر المكشوف الى نهر عمر، اي ما يعادل مسافة 100 ميل، وكذلك على المرافيء والارصفة والترسانات والميناء الجوي وخلافها، وهو يشمل منطقة مساحتها 2000 فدان (اكر) وواقع تحت ادارة مديرية ميناء البصرة. ويرجع تاريخ تجارة البصرة الى بضعة آلاف من السنين ولكن التقدم الذي حازه ثغر العراق خلال العشرين سنة الماضية يفوق كثيرا ما ناله من التقدم طيلة العصور الدابرة.
وانه ليتعذر علينا الان ان نقارن مقارنة صادقة بين الميناء الحديث كما هو عليه اليوم وبين الاوضاع التي كانت سائدة فيه قبل عشرين سنة ولكن ذلك لا يمنعنا من ان نسجل هنا التغيرات التي ادخلت عليه خلال هذه المدة. وقبل ان نتبسط في الموضوع نرى من الفائدة ان نأتي على لمحة موجزة من تاريخ البصرة مما له علاقة بالموضوع.
فالمعلوم ان اسم”البصرة”مأخوذ من ذلك المعسكر العظيم الذي اقامه الخليفة عمر، ثاني الخلفاء الراشدين في سنة 637 ميلادية للسيطرة على العراق الادنى (الاسفل) ولاسيما على المسالك البحرية، ومن هذا المخيم العسكري انبثقت مدينة البصرة الشهيرة، مدينة الفلاسفة والشعراء والمؤرخين وعلماء الدين الذين قاموا بتأسيس المدارس الخطيرة التي كان لها السيطرة الواسعة على العقائد الاسلامية والاداب العربية، على ان هذه الاداب لم تأتنا بمعلومات وافية عن ميناء البصرة كما كان في ذلك العهد. وتقع مدينة البصرة على شط العرب على مسافة 85 ميلا تقريبا من خليج البصرة، وقد انشئت المدينة الاصلية في ربيع سنة 637 ميلادية على مقربة من الزبير حيث لا تزال اثارها بادية على بعد نحو ثمانية اميال من موقع المدينة الحالي. وقد ذكر الطبري في كتابه:”تاريخ الامم والملوك”ان البصرة اصبحت مركزا للامبراطورية التي كان العرب قائمين بتأسيسها كما وانها كانت المرسى الذي تقصد اليه المراكب القادمة من الصين والبلاد الدنيا.
لقد كان للبصرة صيت ذائع في زمن هارون الرشيد ولكن شأنها ما عتم ان تضاءل بتضاؤل شأن الخلفاء العباسيين، وبمرور الزمن اهملت الانهر الكائنة على هامش الاراضي الحصوية القائمة عليها المدينة اهمالا ادى بالنتيجة الى تراكم الوحول والرواسب فيها فانعدمت المواصلات بسبب ذلك بينها وبين الخليج. وهكذا اخذت مدينة السندباد البحري الشهيرة بثروتها وسعتها تسير الى الانقراض شيئا فشيئا حتى هجرت نهائيا عندما انتقلت المدينة الى موقعها الجديد. وقد احتل الترك هذه المدينة في القرن الخامس عشر ومنذ ذلك الحين ما فتيء مصيرها في تقلب مستمر، ومع انها اصبحت في نهاية القرن التاسع عشر ميناء ذا شأن لتجارة الصادرات والواردات العراقية فانها لم تستعد عشر معشار شانها القديم.
وعندما دخلها الانكليز في الحرب العامة اصبحة البصرة مقرا لقوات كبيرة من القوات المحاربة ويمكننا ان نقول بان تاريخ”ميناء البصرة الحديث”ابتدأ منذ ذلك العهد فلقد ادخلت عليه تحسينات جمة متوالية كان من شانها حصول مدينة البصرة ومينائها على هذه الدرجة من الاهمية والخطورة.
اما قبل الحرب فلم يكن الميناء ينطوي على شيء من التسهيلات ما عدا ثلاث مظلات خاصة بالشؤون الكمركية اذ لم يكن يتسنى للمراكب التي تغوص اكثر من 19 قدما في الماء الدخول في النهر بسبب السد الذي كان يعترض مدخل شط العرب ولذلك كانت التحميلات والتفريغات تجرى كلها في وسط المياه بواسطة القوارب الكبيرة، يساعد على ذلك ان المحمولات في ذلك العهد كانت غالبا من النوع الخفيف الذي يسهل نقله بهذه الوسيلة باستثناء المواد التي كانت تجلب من الخارج للقطار الالماني، فقد كانت هذه المواد ثقيلة بحيث رؤى من الضروري انشاء رصيف وقتي من اجلها في المعقل، وفضلا عن ذلك فان عدد البواخر الراسية في آن واحد في الميناء لم يكن في اي وقت من الاوقات يتجاوز الاثنتين.
ولكن هذه الاوضاع ما عتمت ان تغيرت بسرعة في ابان الحرب العامة وبعدها اذ قد جلبت المعدات والادوات اللازمة وكلها من احدث طراز وشيدت المرافيء ومهدت الاراضي ومدت الخطوط الحديدية وقد اختيرت قرية المعقل الواقعة على قيد اربعة اميال من العشار لانشاء المرافيء المركزية عليها، وانما وقع الاختيار على هذه القرية نظرا الى وجود مجرى عميق هناك يسير بمحاذاة ضفة النهر الى مسافة ميلين تقريبا الامر الذي قلل نفقات الانشاء الى الحد الادنى. وفي سنة 1919 رأت السلطات العسكرية ان تتخلى عن ادارة شؤون الميناء باعتباره مؤسسة عسكرية بعد ان خدم اغراضها ومصالحها وان تتخلص من تبعات صيانته وادامته بجعله مؤسسة تجارية قائمة بذاتها تحت اشراف الحكومة الملكية فتم ذلك في 1 نيسان سنة 1920 وتألفت هيئة استشارية من ممثلي المحلات التجارية التابعة للادارات الملكية والعسكرية ساعدت مدير الميناء على وضع قواعد الميناء ونظمه في شكل قوانين وجداول للرسوم والتكاليف.
ومع ان الميناء في ذلك العهد كان قد استوفى القسط الكبير من ضرورياته ومستلزماته فانه لم يكن في وضع يؤهله لان يقف في مصاف الموانيء التجارية الحديثة بل انما كان في وضع يتحتم معه بذل الجهود والاموال الطائلة في سبيل استكمال حاجياته الضرورية جدا لاسيما انشاء المخازن والمستودعات والمباني الدائمية.
ولما كانت الادارة العسكرية عند اضطلاعها بشؤون الميناء قاصرة جل همها على السرعة والعجلة بصرف النظر عن التكاليف بالغا ما بلغت فان ادارة الميناء – في عهدها الجديد – ما فتئت ان شعرت بحاجة ملحة الى اللجؤ الى اقصى حدود الاقتصاد في سبيل ضمان توازنها المالي. وكان اول تدبير قامت به في هذا الصدد انها قسمت ادارة الميناء الى اربع شعب وهي : الشعبة البحرية وشعبة الهندسة وشعبة النقل والشعبة المالية. وفي الوقت عينه انشأت دائرة لصحة الميناء كانت في بدء عهدها تابعة لدائرة الصحة العامة للحكومة العراقية ثم انتقلت في سنة 1932 الى ادارة ميناء البصرة.
وانه ليطول بنا الشرح اذا اردنا ان نعدد كافة المساعي والجهود التي بذلك في سبيل استكمال مهام هذه المؤسسة وحاجاتها من اعمال الحفر والبناء وامتلاك الاراضي وتسويتها واستحضار المكائن ووسائط لنقل وخلافه، فحسبنا ان نقول بان الميناء الان قد استوفى كافة حوائجه ومهماته بتكاليف قليلة تبعث على الدهشة والاستغراب وبانه قد اصبح – مع اعتبار حجمه – من احسن موانئ العالم بلا جدال. واذا تراه يستطيع اليوم ان يقدم للاوساط التجارية في العراق كافة التسهيلات المنتظرة من سائر الموانئ الحديثة، واذا هو استطاع ان يفتح مجالا للبواخر البحرية الضخمة في شط العرب فانما هو مدين بذلك بدرجة كبيرة الى قيام العراق باستثمار موارده الطبيعية سواء الفعلية منها او الاحتمالية.

حدود الميناء:
تمتد حدود الميناء من خليج البصرة عند مدخل شط العرب الى نهر عمر على بعد 21 ميلا من البصرة ويقع الاشراف على البواخر في عبادان ضمن اختصاصه.
اعمال الحفر:
لقد كانت ملاحة الميناء فيما مضى مفيدة بدرجة عمق المياه في السد الخارجي عند مدخل شط العرب على بعد 16 ميلا من الفاو، وكان هذا السد عائقا كبيرا لشؤون التحميل. ولذلك كان من الضروري القيام باعمال الحفر في هذا السد لافساح المجال للمراكب الكبيرة للدخول الى النهر، وعليه فقد شرع في الحفريات في كانون الاول سنة 1924 عندما وصل اول واصغر مركب حفار المسمى”ليجر”وفي اذار سنة 1925 وصل الحفار الثاني”تيجون”ثم اعقبا بحفارين ثانيين”اونكر”و"بصرة”في سنتي 1935 و 1937 فبلغ مقدار ما استخرجته الحفارات الثلاث الاولى من المواد الى نهاية كانون الاول سنة 1936 (174.867.321) طنا وهكذا بينما كان عمق الماء عند السد الخارجي في ايام الزيادات 19 قدما فقط اصبح الان يبلغ نحو 32 قدما، اما المنطقة التي تناولها الحفر فتبلغ نحو 15ميلا بعرض 300 قدم.

الاسعافات والعوامات والاضاءة:
تقع مصلحة شؤون الاضاءة والعوامات وغيرها الكائنة في المسالك المؤدية الى النهر وفي مجاري البحر الموصلة الى الميناء وفي شط العرب تحت اشراف الميناء. وفضلا عن ذلك فان مديرية ميناء البصرة مكلفة نيابة عن حكومة الهند بتعهد وصيانة المنارات وشؤون الاضاءة في خليج البصرة.
وهناك، في السد الخارجي، دليل (سمافور) قائم لارشاد السفن مجهز بآلة مسجلة اوتوماتيكية ليلية تبين للمراكب التي تريد المرور عمق المياه في الوقت الراهن. اما السد وسائر ما يعترض الملاحة من الصعوبات فقد اتخذت التدابير الدقيقة لتلافيها بواسطة علامات دالة و50 اداة من ادوات الاضاءة الحديثة ذلك فضلا عن المقاييس الاضافية الاوتوماتيكية الاربعة المضاءة لارشاد الملاحين، الامر الذي جعل سير المراكب في النهر ميسورا في الليل كما في النهار.

مرفأ البصرة:
تمتد حدود مرفأ البصرة الى”معقل”على مسافة 5 اميال من المدينة حيث تقوم اهم ممتلكات ميناء البصرة.

منطقة الميناء:
تشمل ممتلكات ميناء البصرة في المعقل منطقة مساحتها نيف و 1500 فدان (أكر)، وقد روعي في امتلاك هذه الاراضي الشاسعة احتمال التوسعات التي قد تدعو الحاجة الى اللجوء اليها في المستقبل. وقد ظهرت الان حكمة هذا التدبير وصوابه فقد ارتفعت قيمة اراضي هذه المنطقة ارتفاع لم يكن في الحسبان وعلاوة على ذلك فقد تسنى لدائرة الميناء – في سبيل مصلحتها والمصلحة العامة – ان تؤجر قسما كبيرا من هذه الاراضي الى السكك الحديدية بحيث اصبح خط قطار بصرة – بغداد ينتهي ضمن منطقة الميناء في الجهة المقابلة للمرافيء المركزية، هذا ومع تخصيص قسم من هذه المنطقة لبناء ميناء البصرة الجوي الجديد فقد بقى في حوزة الميناء من الاراضي ما يكفي للتوسعات التي ستدعو اليها الحاجة في المستقبل.
الدوائر:
تقع دوائر موظفي الميناء في ابنية المقر المطلة على المرافيء المركزية في معقل، وقد عهد بادارة شؤون الميناء الى مدير الميناء ومدير الملاحة العام وتنقسم هذه الادارة الى شعب البحرية والنقلية والهندسية والمالية وصحة الميناء وقد تم انشاء هذ البناء الفخم وقام جلالة المغفور له الملك فيصل الاول بافتتاحه في اذار سنة 1931، ويبلغ طول هذا البناء 250 قدم وعرضه 70 قدما وارتفاعه من مستوى الطريق الى قمة برجه الازرق الغامق 66 قدما وهو بناء شائق متين يليق بشأن مؤسسة خطيرة كمؤسسة الميناء.

الشرطة ورجال الاطفاء:
لادارة الميناء شرطتها الخاصة وهي تتألف من 50 شرطيا من قوة الشرطة العراقية ومركزها في مداخل المرافيء الكبرى، ولها ذلك قوة من رجال الاطفاء مجهزة باحدث المكائن والزوارق الخاصة بالاطفاء ذلك فضلا عن المضخات والاستعدادات الاخرى الكافلة لمجابهة الطوارئ بكفاية تامة.

سرعة الشحن:
في وسع ميناء البصرة، بما لديه من المعدات الحديثة والمداخر الواسعة وتدابير الوقاية من كافة انواع الطوارئ، ان يقوم بتفريغ الاموال على اختلاف اصنافها وتحميلها وخزنها بكل سرعة واقتصاد ومثالا على سرعة الشحن قضية مراكب البريد السريع الاسبوعية المسافرة الى بومبي، فانه لما كان سير هذه المراكب مقيدا باوقات معينة فهي ملزمة بعدم البقاء في الميناء اكثر من 48 ساعة على ابعد تقدير ففي هذه المدة المحدودة تقوم ادارة الميناء بشحن وتفريغ ما قد يبلغ 5000 طن من الاموال.

المواصلات اللاسلكية والتلفون:
يتصل مقر الميناء بكافة محطاته الخارجية وكذلك بمراكب الحفر والتفتيش والانقاذ وغيرها التابعة ل وبدوائر الميناء في عبادان ومعامل التصليح مع المقر في الفاو بواسطة الراديو تلفون والتلغراف اللاسلكي، كما ان الاتصال بينه وبين سائر الاقسام الداخلية التابعة له قائم بواسطة التلفون الاتوماتيكي.

الواردات:
ان الاموال الواردة الى العراق انما تأتي في الغالب من انكلترة والمانية وفرنسة وايطالية والهند واليابان واهم هذه الواردات المواد البنائية والشاي والسكر والقماش والخشب والسمنت والمكائن. ومما هو جدير بالملاحظة ان الوارد من المواد البنائية قد زاد في السنين الاخيرة زيادة كبيرة ويرجع سبب هذه الزيادة الى فتح حقول النفط في الشمال وسائر المشاريع الصناعية وكذلك المشاريع العمرانية الواسعة القائمة على ساق وقدم في بغداد وسائر المدن الكبيرة.
الصادرات:
تعد البصرة من اعظم اسواق التمر في العالم. ويمكننا ان نقدر خطورة هذه السوق اذا علمنا بانها تمون العالم بما يقارب 75 بالمائة من مجموع حاجته من التمور. ومعظم هذه التمور تشحن الى انكلترا وسائر البلاد الاوروبية والولايات المتحة وكندة واسترالية وافريقية الشمالية
والهند.
ومن اهم صادرات العراق الاخرى الشعير والحنطة وسائر الحبوب ولاشك في ان صادرات هذه الاصناف ستتوسع توسعا كبيرا عندما يتم تحقيق مشاريع الري التي هي الان في حيز التنفيذ يضاف الى ذلك الهمة الكبيرة المبذولة في سبيل ترقية الحبوب على اختلاف انواعها. وثمة اصناف اخرى من الصادرات كالصوف والجلد والسوس والقطن ومنها ايضا الخيل التي يرسل منها جانب لا يستهان به في كل سنة الى الهند سواء الاغراض السباق او للنقل.

مياه الشرب:
تؤخذ مياه الشرب من الميناء وتقوم مديرية الميناء بتوزيع هذه المياه على البواخر بواسطة الجنيبات (الدوب).
الصحة والطبابة:
في الميناء قسم خاص بالطبابة ترجع اليه منطقة الميناء كلها فيما يتعلق بشؤونها الصحية ويتالف هذا القسم من ضابط صحة وجراح وطبيب يعاونهم العدد اللازم من المفتشين الصحيين.
وللميناء ايضا، علاوة على منطقة الاعتزال الكاملة العدة، مستشفى مشترك مع السكك الحديدية، وهناك ايضا عند مدخل المرافيء الكبرى مستشفى آلي سيار لنقل المرضى والمصابين باحداث طارئة.

الكهرباء:
للميناء محطته الكهربائية الخاصة التي تقوم ليس فقط بسد حاجته الخاصة بل وتتعهد بتزويد البصرة كلها بالتيار الكهربائي ايضا. اما ماكينة الكهرباء الجديدة فقد نصبت في الحبيلة على مقربة من معامل الميناء ومخازنه وقد تم نصبها وتشغيلها في اذار سنة 1925 عندما اغلقت محطة الكهرباء القديمة التي كانت قد اقامتها السلطات العسكرية في زمن الحرب.

عن كراس اصدرته مديرية الدعاية / 1939