«اللاجئ العراقي»... ثنائية الهجرة والحنين.. عبد الله صخي يكمل بها ثلاثيته الروائية

Saturday 22nd of July 2017 06:36:23 PM ,

ملحق اوراق ,

عدنان حسين أحمد
صدرت عن «دار المدى» رواية «اللاجئ العراقي» عبد الله صخي لتكتمل ثلاثيته الأولى التي ضمّت روايتي «خلف السدّة”و«دروب الفقدان». يتمحور المناخ العام للثلاثية على ثنائية الهجرة والحنين إلى الوطن، وما ينجم عنهما من شعور بالغربة، وإحساس بالضياع والاغتراب بغض النظر عن طبيعة هذه الهجرة سواء أكانت داخل الوطن من جنوب شرقي العراق إلى عاصمته،

أو ضمن مدينة بغداد نفسها، أو الهجرة إلى المنافي العربية والأوروبية التي قد توفِّر للمُهاجر الحرية والعيش الكريم لكنها تستلب منه الأُلفة العائلية، والذكريات الحميمة، وعبق الأمكنة التي ترتبط بملاعب الطفولة والصبا، وقصص الحُب والغرام، والإرهاصات الفكرية الأولى التي تفضي دائماً إلى المساءلة القانونية، وتقود أصحابها إمّا إلى السجن والتعذيب والانكسار أو إلى قسوة الغربة، ووجع المنافي، ولوعة الاشتياق التي لا يعرفها إلاّ مَنْ ترك وطنه إلى الأبد ولم يجد أمامه سوى بوابة المتاهة والشَتات.

ما يميّز هذه الرواية هو كثرة الاستذكارات والاستعادات الذهنية للشخصية الرئيسية علي سلمان بحيث يتعرّف القارئ من جديد على أسرة سلمان اليونس وزوجته مكيّة الحسن وبناتهما الثلاث وأزواجهنَّ، كما يستعيد ذكريات بعض أصدقائه في سنوات الدراسة مثل موسى محمد لفتة، علوان عزيز، ورشيد المصوِّر، إضافة إلى بعض الشخصيات الشعبية التي أثثت المتن السردي للثلاثية برمتها مثل المجنون قاسم، والفرّاش عبيد شناوة، وعازف الطبلة سوادي حميد وسواهم من الشخصيات التي عززت هذه الرواية التي تصلح لأن تكون نموذجاً لأدب السجون في العراق لما تتوفر عليه من مطاردة، واعتقالات، واستجوابات متواصلة لمعظم أفراد هذه العائلة التي تُعتبر عيّنة مُصغّرة للمجتمع العراقي الذي تلبّسهُ هاجس الخوف والرعب من حُكم البعث الديكتاتوري السابق. ومن أبرز استرجاعاته الذهنية تعلّمه قراءة القرآن الكريم على يد الملالي، وتسجيله في المدرسة الابتدائية، وإتقانه عزف العود على يد الموسيقي علاء شاكر، ومواظبته على العمل في العطلة الصيفية، وتفكيره في الهجرة إلى سوريا أول الأمر ومنها إلى المجهول.
تبدأ أحداث الرواية من غرفة رقم 9 في حي أكتن تاون بلندن ثم يعود بنا الراوي بواسطة تقنية «الفلاش باك”إلى أربع عواصم عربية وهي بغداد ودمشق وبيروت وعدن ثم يختم الأحداث بنهاية فنية مؤثرة.
ومثلما نجح عبد الله صخي في اجتراح الثيمة الرئيسية وتعزيزها بثيمات مؤازرة تتضافر على مدار النص الروائي، فإنه يبدع في بناء شخصية البطل ويمدّها بمختلف العناصر الإشكالية العميقة، فهو عازف ماهر، ويمتلك موهبة غنائية أصيلة كانت على وشك الذيوع والشهرة لولا اعتقاله العشوائي الذي وُصِف في أحد التقارير «بأنه إجراء وقائي، تأديبي، تحذيري» (ص17). وقبيل إخلاء سبيله يوقِّع على وثيقة تعهد بعدم الانتماء إلى أي حزب سياسي ما عدا حزب السلطة. وحينما يصل إلى البيت مبتهجاً بحريته يكتشف وفاة أمه فيعقد العزم على الرحيل «والمضي بعيداً عن البلد الذي حرمهُ من والدته، ومن التعليم والموسيقى والحُب”(ص22) وما أن يضع قدميه في دمشق حتى يشترك في مؤتمر المعارضة العراقية الذي انعقد ببيروت وخرج منه بانطباعات سيئة لأن القوى السياسية لا تمتلك مشروعاً وطنياً يمكن أن ينقذ البلاد من الديكتاتور وحروبه العبثية المتواصلة.
يتعرّف علي سلمان بعد خروجه من العراق على ثلاث نساء وهنّ خولة العراقية، نسرين السورية، وساندرا البريطانية حيث يشعر أنه قريب جداً من خولة إبراهيم جميل، الشيوعية التي ألتقاها مُصادفة في رحلته إلى بيروت، وظل قلقاً عليها لأن ضابط الجوازات في المعبر الحدودي طلبها شخصياً بينما غادر سائق التاكسي رغم توسلات الرُكّاب الآخرين بأن ينتظر قليلاً. يقترن علي بخولة دون أن تغريه بالانتماء لحزبها، وتغامر بالهجرة إلى لندن لوحدها على أمل أن يلتمّ شملهما لاحقاً بينما يبقى علي في دمشق تحت وطأة البطالة وضيق ذات اليد بحيث يضطر للعمل في دار نشر، ومعمل لقصّ الحجر، ومكتب محاماة بينما كان يتغافل دائماً عن نصيحة صديقه أمين شاكر بالغناء في المطاعم ما دام أنه يمتلك خامة صوت جيدة يمكن أن يوظفها في كسب المال. أشرنا سلفاً إلى إشكالية هذه الشخصية التي تعرّض صاحبها للسجن في بغداد مدة ثمانية أشهر دون أن يرتكب جُرماً، وفي دمشق شعر بالذل وفظاظة الاستجواب الأمني الذي أفضى به إلى اليأس والخيبة والانكسار، فلا غرابة أن يفقد القدرة على الغناء لأن شيئا ما قد جفّ في روحه، شيئا «كالعطب يدفعه نحو العزلة الروحية، والاكتفاء بالهمس والمناجاة”(ص66). وفي غمرة هذا الفراغ الروحي والعاطفي يتعرف على نسرين السورية التي اندفعت صوبه كثيراً لكنه كان يتفادى عواطفها المتقدة، ويتذكر دائماً أنه متزوج من امرأة يحبها، ويتمنى أن يبدِّد وحدتها، ويجعل منفاها أخفّ وطأة وضراوة.
يذعن علي تحت وطأة الحاجة للغناء في مطعم «السهرانين”وتنبهر الفتيات بعذوبة صوته، وشجنه، ورخامته فتتحسن أوضاعه المادية ويحقق بعض الشهرة بين رواد هذا المكان غير أن هذه البحبوبة لم تستمر طويلاً، إذ هاجمه ثلاثة شبان وأشبعوه ضرباً وركلاً حتى أغمي عليه فأقسم ألاّ يغني في أي مطعم بعدما تشظت روحه من الإهانة والخذلان.
لا يعتمد عبد الله صخي على المبالغة في رسم شخصية اللاجئ فهو خائف، منكسر، ويمكن أن تتعرض حياته الأسرية إلى التفتت والضياع، تماماً كما حصل مع الراوي علي إذ انقلبت زوجته رأساً على عقب وطلبت منه الانفصال لأنها لم تعد قادرة على التواصل معه، والعيش تحت سقف واحد. تُرى، ما الذي غيّرها فجأة؟ هل هو المنفى، أم عذاباته اللامرئية؟ هل هي الوحدة أم الحنين إلى الوطن؟ هل هو التقوقع والانكفاء على الذات أم عدم القدرة على الاندماج بالمجتمع الجديد؟
يبدو أن نسرين السورية التي تعمل مضيّفة في إحدى الخطوط الجوية العربية قد جاءت إلى لندن لكي تنتقم منه بشكل ما بأساليب الأنثى التي أصبحت الآن عصيّة ومتمنعة على هذا الرجل الذي خذلها طوال إقامته في دمشق.
أما المرأة الثالثة فهي ساندرا الإنجليزية، صاحبة العينين الساحرتين «اللتين تنافسان الكواكب» (ص9) التي انفصلت هي الأخرى عن صديقها مارتن إثر عودتهما من رحلة إلى السواحل المغربية، فقد كانت مرشحة لأن تحتل مساحة عاطفية ما في قلب هذا اللاجئ المحطّم الذي أعياه المنفى فسقط مريضاً، وبينما كانت أصابعها الحريرية تمسه مسّاً رقيقاً «استبد به شوق جارف إلى بغداد، إلى نهرها ومقاهيها وشوارعها وحدائقها» (ص189) موقناً بأنه سيشفى إن عاد من كل أمراض المنفى التي تراكمت عليه مذ تجاوز معبر الرطبة الحدودي في رحلته المجهولة التي تسوقها المقادير.
مثلما تتألق لغة عبد الله صخي، ويتوهج إيقاعها السردي السلس على مدار النص تذهلنا النهاية التراجيدية لموت البطل المغترب الذي لم يبكِ عليه أحد من المشيّعين العراقيين «وحدها كانت ساندرا تبكي وهي تستند إلى سياج الشرفة”(ص192).