رسالة من موسكو

Monday 10th of July 2017 06:34:15 PM ,

كان زمان ,

ماذا يكتب الصحفي الاجنبي عن روسيا ؟
لقد اصبحت قصص البطولة الروسية مملة، لأنك في كل لحظة تسمع قصة بطولة جديدة، حتى اصبحت قصص البطولة كالاخبار الروتينية او كتنقلات صغار الموظفين!
إنني أعيش في موسكو وسط ملايين الابطال الذين لا يقلون شجاعة عن ابطال شكسبير وديماس!
انهم يتحدثون عن الممرضة الروسية "فيرا كريلوفا" التي قال لها ضابط الفرقة الروسي وهو في النزع الأخير:

- لقد نفذت الذخائر فإبلغي الجنود وجوب التسليم!

وحرفت الممرضة في الأمر، وأمرت الجنود بالهجوم على الدبابات الالمانية بدون سلاح، وتقدمت الهجوم!
وقتلت الفتاة الروسية، وقتل جميع جنود الفرقة، ولكن بعد ان نجحوا في افساد بعض الدبابات، وبعد ان استنفذت صدورهم رصاص الالمان!
***
ولكن لنترك الآن احاديث البطولة، ونتحدث عن الحياة في موسكو التي كان الناس يتلمسون اخبارها قبل الحرب وكأنها اخبار حريم هارون الرشيد!
لقد اقفلت معظم فنادقها، ولم يبق منها إلا القليل، وفي مقدمتها مطعم القوازق بجوار معهد لينين، وهو يدار خصيصاً للاجانب وكبار الفنانين الروس وهم يعاملون في روسيا كما يعامل الامراء في بلاد الانجليز.
ولا يستطيع الروسي المعادي دخول هذا المطعم الفاخر!
ومعظم المحلات التجارية في موسكو قد اقفلت ابوابها، والمفتوح منها خال من البضائع.
والبضائع المتوفرة هي الآلات الموسيقية والكتب القديمة! ويرتدي معظم افراد الشعب احذية بالية يأنف بعض الخدم من ارتدائها!
بل من المناظر العادية في موسكو ان ترى موظفاً كبيراً جالساً على الرصيف يداعب "أللوزة" ويعيدها الى مكانها في الحذاء!
واذا ركبت الترام فان الانظار تجه في الحال الى حذائك فان كان جديداً فلا شك انك اجنبي من اصحاب الملايين!
ولقد احتلت المرأة الروسية مكان الرجل في المصانع والمكاتب والشوارع بل لقد اختفى الآن الكناسون والشيالون الرجال وحلت محلهم النساء!
وحدث عند وصولي الى محطة موسكو ان حاولت مساعدة الشيالة الحسناء في حمل صندوق ملابسي الضخم، ولكنها رفضت باباء وشمم!
ومع ذلك فعند النساء الروسيات متسع من الوقت ليصحبن امهات.. فشوارع موسكو مزدحمة بانصاف الأمهات وبالأمهات الكاملات يحملن اطفالهن!
ولقد اختفت من موسكو عربات الاطفال، لأن ستالين امر بصهرها وتحويلها الى مدافع وقنابل!
والمرأة الروسية تتبع طريقة غريبة في "لف" طفلها فهي تلفه كما كان قدماء المصريين يلفون المومياء!
والطفل الروسي أقل اطفال العالم بكاء وقد يدهش القارئ اذا اقسمت اني في الستة الأشهر الاخيرة لم اسمع طفلا يبكي!
ووجوه الاطفال الروس صفراء باهتة ولعل ذلك يرجع الى قلة الطعام..
والواقع ان كميات الطعام التي توزع على الجمهور – غير المشتغل بالصناعات الحربية – ضئيلة جداً ومع ذلك فالشعب لا يشكو ولا يتذمر ولو في السر!
وقد سألت اصدقائي عن سر عدم الشكوى وعدم التذمر فقالوا:
- سنجوع سنة.. سنتين.. ثلاث سنوات ولكن نحن واثقون اننا سنموت من التخمة بعد ذلك!
وترجع اسباب النقص الشديد في التغذية الى الاسباب التالية:
1- يأكل الجندي الآن ضعف ما كان يأكله قبل الحرب.
2- غادر مئات الألوف من الفلاحين مزارعهم للالتحاق بالجيش الاحمر فقل الانتاج الزراعي.
3- استولى الالمان على اعظم مزارع روسيا.
4- فضل ستالين ان ترسل له اميركا وبريطانيا الذخائر على ان ترسلا له القمح!!
ويوزع الطعام بالبطاقات وكمياته لا تشبع مطلقاً..
ولقد رأيت اطفالا يشترون الخبز لأسرهم من السوق ويأكلونه قبل الوصول الى البيت لشدة جوعهم!
بل إن كبار موظفي الحكومة يشعرون بالجوع ولا يستطيعون كبح جوعهم في المآدب الرسمية!
رأيت اخيراً موظفاً روسياً يهجم على البوفيه كما هجم تيموشكو على الالمان!
بدأ بالهورديفر ثم انتهى بالحلو وانتقل الى المائدة المجاورة وبدأ بالهورديفر وانتهى بالحلو وكرر الانتقال من مائدة الى اخرى اربع مرات!
ورغم قلة الطعام فالروس محتفظون بصحتهم وإن كان الرجيم قد ساعد على لف قوام الفتيات الروسيات بعد ان كان قد زاد وزنهن حتى كدن ينافسن ضخامة المرأة التركية في عهد السلطان عبد الحميد!
وثمن الطعام بدون البطاقات لا يطاق! فرطل عسل النحل ثمنه عشرة جنيهات!
ورطل اللحم خمسة جنيهات.. ويعامل البيض معاملة الاحجار الثمينة فيلف بالحرير.. وثمن البيضة نصف جنيه!
اما ثمن (كوب اللبن) الحليب فجنيه واحد لا غير!
***
والطبقة المنعمة في موسكو هي طبقة الموظفين.. فسلطتهم لا حد لها ففي يدهم الامر والنهي ومستقبل العباد!
فهم يقررون لكل فرد من افراد الشعب مقدار طعامه وهل يأكل اليوم سبانخ ام قرنبيط.. وكم يكسب واين يسكن ومتى يذهب الى الاوبرا!!
ويبلغ عدد موظفي الحكومة في روسيا عدة ملايين.. وهم طبقة منعزلة عن الشعب، بل انهم اقرب الى طبقة النبلاء في بلاد الانجليز.!
ولهم حقوق ومميزات جعلت الاقبال على الوظائف الحكومية في روسيا أكثر من الاقبل على الطعام
فالموظف في موسكو يمكنه إيجار شقة مكونة من ثلاث حجرات وحمام وبيانو!
اما غير الموظف فلا يستطيع ان يسكن في حجرة تزيد مساحتها عن تسعة امتار سريعة اي طولها وعرضها 3 امتار!
ولمعظم موظفي الحكومة سيارات، وبطاقات الطعام التي تمنح للموظف تتيح له بأن يأكل في اي مكان يشاء بشرط الا يكون مصحوبا بأحد افراد اسرته.
ولموظف الحكومة الاولوية في تذاكر الاوبرا والمسارح وله ان يمتلك كوخاً خارج المدينة يمضي فيه عطلة الاسبوع والشعب الروسي شعب منظم يسير كما تسير عقارب الساعة!
فاذا انتظر توزيع الطعام انتظر في طابور!
واذا ازدحمت محطة المترو وقف في طابور. بل لقد رأيت طابوراً امام إدارة جريدة برافدا الروسية ينتظر صدور الجريدة ليقرأ آخر الأخبار!
وللجرائد مزايا كثيرة في موسكو.. فالروسي يقرأها اولا ثم يضعها بين اللحاف والبطانية في الليل ليضمن الدفء ثم يصحبها بعد ذلك الى دورة المياه!
**
والمرأة الروسية اقل نساء العالم استغلالا لمميزاتها الجنسية، فهي لا تكشف عن سيقانها او صدرها، ولا تتفنن في إبراز النهدين كما تفعل بنات العالم.
والصحف الروسية لا تنشر صور فتيات عاريات ولا نصف عاريات ورقابة السينما تخذف من الافلام الاميركية المناظر التي فيها خلاعة وفيها سيقان او جاذبية جنسية!
وتجارة الاعراض لا وجود لها في موسكو.. ولو ان مائدة مزدحمة بالاطعمة قد تؤثر في اعجاب كثير من الفتيات الروسيات!
والمرأة الروسية لا تلهب غراماً ولذلك يعتقد بعض الاجانب انها باردة في غرامها.. ولكن الواقع ان المرأة الروسية إن احبت عبدت والهبت، واحترقت في سبيل حبيبها..
وهي لا تنظر الى الحب كوسيلة الى انشاء بيت الزوجية كما هو الحال عند بنات العالم بل هي لا تهتم كثيراً بالزواج وكل ما يهمها هو الحب.. والحب الصحيح وكثيرا ما تعيش فتاة روسية مع شاب عدة سنوات دون زواج رغم انه ليس ابسط من الزواج في روسيا فهو عبارة عن توقيع الزوجين في سجل بسيط دون مراسم او شهود!
والمرأة الروسية كحواء، تحب التواليت وحتى بنات روسيا الفقيرات يصبغن الشفاه بالروج!
والفتاة الروسية تعتني بتقليم اظافرها ولكن من النادر ان تضع فتاة شعرها وهي خبيرة بالحياكة والتطريز وتجيد قلب ثوبها القديم الى فستان شيك لا يقل اناقة عن اثواب لندن وباريس
***
قلت لك ان قصص البطولة في موسكو اكثر من عدد السكان ولكن عيدان الكبريت اقل من عدد السجائر!
فمن النادر ان ترى في الشارع رجلا يولع سيجارته بعود كبريت!
بل يخرج السيجارة ويضعها في فمه ويستوقف اول مدخن ويقول له:
- تسمح تولع لي؟
وقد علمتني التجربة ألا ادخن في الطريق إذا كنت على موعد هام وإلا يستوقفني مع كل سيجارة ادخنها عشرة من الروس يقولون لي في أدب:
- تسمح تولع لي!؟

الأثنين والدنيا /
كانون الاول- 1944