عبد الملك نوري وقصة الخمسينيات

Wednesday 4th of August 2010 05:12:43 PM ,

عراقيون ,

ياسين النصير
لم تعد القصة مشروعا لتفسير قضية خارجية، بل كانت تؤسس مشروعها على قدرة الشخصية على مواجهة ما يحيط بها. في حين أن القصة التي سبقت الخمسينيات كانت تفتح صفحاتها لتجدها موزعة بين مواقع عدة لا رابط بينها.

من الملامح البارزة والجديدة للقصة، توسيع اختيارات الكتاب للطرائق الفنية. لقد اعتمد عبد الملك نوري أسلوبا حديثا أطلق عليه بعدئذ التداعي. وأنا أميل إلي تسميته بفن الترابط(3). فجاءت قصصه جديدة في محتواها وأسلوبها، وليس كما أشار اليها الدكتور عبد الإله أحمد(4).
لقد وضع عبد الملك الجديد في الفن لسان العامة والبسطاء والشخصيات الثانوية لإيمانه أنها صانعة التاريخ، وهي التي تعكس بصدق أكثر ما تعانيه وما تعنيه. مؤملا من هذا التناول رسم صورة اجتماعية عريضة (للجماعة المغمورة) التي تمثلها شخصياته الثانوية. فابتعد عن طرائق الفن الشعبي الذي يميل إلى رصف حادثة الى اخرى بطريقة تجميعية لرسم صورة المأساة الاجتماعية العريضة.
كما استطاع عبد الملك بطريقته أن يلغي حيادية القارئ بربط المشاعر المستفزة داخل القصة بالقارئ. إن (بطرس) مثلا في قصة (جيف معطرة) و(عبود) في قصة (عبود) و(الرجل الصغير) ليسوا إلا شرائح لتلك الجماعة الساكنة في القاع الأسفل من المجتمع، استطاعت أن تعطي لموقعها الاجتماعي صوتا كان من حصيلته أن ارتفعوا بمأساتهم إلي مصاف الموقف السياسي. من هنا جاء استخدام التداعي أو فن الترابط مكملاً لشخصيات تستكمل شروطها الحياتية بالعمل أمام القارئ وليس كما ذهب الدكتور عبد الإله من أن التداعي لا يصح الإتيان به على لسان الشخصيات الثانوية، لأن الدكتور الفاضل وضع عسفا مقارنة (جيف معطرة) بيوليس(5) لجويس. إن اهتمام عبد الملك نوري بنوع من الشخصيات التي تقترب من النماذج الممسوسة، المحبطة والتي يسميها الدكتور عبد الإله (الشاذة) هو الذي دفعه لأن يضع على لسانها أفكارا معاشة وأخرى مستحضرة بالوعي، وهو على العكس من فؤاد التكرلي الذي اختار طريقة فنية تلائم أبطاله المكتملي التكوين والوعي، فلجأ الى دواخلهم الصافية ومن هناك طرح مشكلاتهم الذاتية أولا ثم عبر نحو المجتمع ثانيا، ولعل ولع الدكتور عبد الإله بطريقة فؤاد القصصية جعلته لا يفضل عبد الملك نوري قاصا مجيدا. إن هوى الدارس ليس هو المقياس لجودة كاتب، بل أن التحري الدقيق لأبعاد الفن القصصي في الخمسينيات يجعلنا نقول إن تعدد الطرق الفنية وتنوعها هو الذي أكسبها ميزة فنية متقدمة. فقاص كفؤاد التكرلي مثلا قد خبر بعض مفاهيم الفكر الوجودي، والفرويدي، وتمرس بقراءات جادة كما تدل عليه شهاداته الذاتية، مكنته من أن يغور في ذوات شخصياته النسائية خاصة ويحلل ما تعانيه وفق تصادم المواقف المتناقضة في داخلها، بينما لم يفعل ذلك عبد الملك نوري ولا مهدي عيسي الصقر، اللذان لجآ الى الكشف الخارجي لأفعال أريد بها أن تكون الصوت الاعلى لفترة الاحتجاج. إن قصصا كـ(التنور، العيون الخضر، الوجه الآخر، الدملة..) لفؤاد التكرلي ليست إلا دراسة نفسية ــ تحليلية لحالات ذاتية تماسكت اجتماعيا، وطرحت في إطار من التفرد. بينما قصص كـ(المجري، مياه عذبة، المضخة، مجرمون طيبون، عبود، نشيد الأرض، الرجل الصغير) وهي لكتاب مختلفين ليست إلا طرحا اجتماعيا لأوضاع عامة وجدت تمثلها في أبطال شعبيين.
إن تنوع الطرق الفنية وتشعبها جعل الخمسينيات غنية وبوفرة دالة على اتساع المعرفة بالواقع وبالفن القصصي.
ومن الملامح الأخرى لقصة الخمسينيات محاولتها لأن توازن بين فن النثر وفن الشعر، واستطاع عدد قليل من القصاصين أن يجمعوا بين الاثنين خاصة أولئك الذين أشبعوا حدثهم بالغنائية والذين حملوا أبطالهم بعض هوياتهم الشخصية. وبرز بشكل واضح في هذا المجال عبد الملك نوري، نزار عباس، جيان، محمد كامل عارف، وقد أعطت هذه الميزة لفن القصة ولقالبها سعة في المشاعر، وانطلاقا لآفاق رحبة، إلا أنها أضرت بجانب آخر هو تحميلها الشخصية لغة لا طاقة لمكانتها الاجتماعية بها. وعلى جانب آخر من الموضوع نجد أن الشعر هنا تجسيد للشخصية الفردية الواعية التي نمت خلال الخمسينيات بين فئة المثقفين. وتعطينا هذه النقطة دلالة أكثر سعة، هي أن هذه الشخصيات تنبت أول مرة كجزء من عملية انفصال كبيرة بين شرائح البرجوازية في مرحلة الانهيار الواضح لجذورها الطبقية تمهيدا لأن تلتحم بالنوايات الاجتماعية الجديدة النامية في المجتمع. ولذلك نجد استخدام الشعر يعود إلي القصة في الستينيات لأن هذه المرحلة شهدت هي الأخرى عملية انهيار لقيم متناقضة طبقيا. في حين أن الشعر قل استعماله في أواسط السبعينيات بعد أن أخذ المجتمع طريقة اصطفاف ثوري حقيقي.
ارتباط الشعر بفن النثر يعطينا دلالة أخري، ربما لن تكون مهمة الآن وهي أن الشخصية لا تمتلك موقفا صلدا إزاء أحداث الواقع، وتحسب أن الاستفادة من الفنون لن تقتصر على الشعر وحده، بل استفاد القصاصون من المسرح خاصة في تجسيدهم للعنصر الدرامي في القصة، وهو أسلوب رافق موجة التجديد والإطلاع على عيون القصة الغربية. ويعكس العنصر الدرامي جانبا آخر من الموضوع هو احتواؤه على جانب من الصراع الاجتماعي ــ النفسي الذي برز يوم ذاك، لقد مالت قصة الخمسينيات كجزء من مهمتها إلى إبراز عناصر التضاد والتناقض خلال التشكيلات الأسرية والعمل والمغامرة الفردية، وكانت ترى في بؤس الواقع الاجتماعي ثوبا عريضا يختفي تحته العديد من الحالات الاجتماعية والذاتية. إلا أن طرحها للعنصر الدرامي هنا لا يجعلها مشابهة كما كانت تفعله قصة الأربعينيات في تجاور الأسود والأبيض، الخير والشر ضمن منطق التقابل الذي عملت به، بل أن العنصر الدرامي هنا تعبير عن الوجه العريض لصور التناقض في أرضية الواقع. لقد جسد عبد الملك نوري أبعاد هذا العنصر من خلال استحضار الماضي والحاضر في ذهن أبطاله الشعبيين، بينما حصره فؤاد التكرلي في دواخل الشخصية الواحدة ــ في حين حوله عبد الرزاق الشيخ علي، وغانم الدباغ، ومهدي عيسي الصقر، ومحمود الظاهر الى موقف مباشر من الصراعات السياسية القائمة.
إن الثراء في أساليب قصة الخمسينيات والذي أشرنا اليه قبل قليل يكمن في هذا التنوع في الأساليب، لقد كان القاصون يبحثون كل بطريقته الخاصة عن الأسلوب الذي يجسد موقفهم من الانهيار الذي تشهده الخمسينيات.

قصص الخمسينيات
ومجمل القول أن القصة في الخمسينيات لا ترقى في أفضل نماذجها الى العديد من قصص اليوم، ولكن قصة اليوم تعد متأخرة بالنسبة إلى المجتمع فتبدو بالتالي متخلفة عن أفضل إنجازات القصة الخمسينية قياسا إلى ما كان عليه المجتمع العراقي يوم ذاك. ولذا سيكون المنهج الذي نتبعه من هذه الدراسة هو قياس العلاقة بين فن القصة والمجتمع عبر تبادل التأثير بينهما.
في ميدان بحثنا: فإن القصة القصيرة حملت كثيراً من أشكال هذا التبادل وأفرزته وهي تصور السياق الكلي للحياة من دون أن تعتمد الكلية الشاملة. بمعني آخر كما يقول لوكاتش (السمة المميزة الحقيقية للقصة القصيرة هي أنها لا تهدف الى تصوير الحياة كشيء كلي. ولهذا السبب فإن شكلها ملائم لأية صلات حياتية خاصة جدا، مثلا: دور المصادفة).(2) بل هي تتوسل بشخصيات وأحداث ثانوية أحيانا تكون حاملة لتلك الكلية. وهذا ما نجده واضحا في أفضل نماذج القصة الخمسينية.
وقبل الدخول في تفاصيل هذه المنطقة الحساسة نوضح نقطتين مهمتين:
الأولى، هي أن الحياة الشعبية هي المعين الذي اعتمده كاتب القصة الخمسيني من دون أن يجعل منها منطلقه الكلي. فالحياة الشعبية أكثر من غيرها قادرة على فرز أحاسيس صادقة بثقل الوضع الاجتماعي والسياسي، ولذلك نجد الكاتب القصصي، وهو المتحدر من احدى فئات البرجوازية ينحاز بحكم حاجته الفكرية وحاجة فن القصة نفسه الى هذه الحياة ليصور الثورة الجديدة المعتملة في نفسه تجاه ذلك الانهيار الكلي للطبقات المستغلة.
الثانية، هي أن الكاتب القصصي في تلك الفترة لم يضع فواصل كبيرة بين فن القصة وفن الرواية. بل كان يعايش بين الاثنين من خلال نوع الشخصيات، وطريقة السرد، وحشد الموضوعات فقصص (الوجه الآخر) للتكرلي، و(نشيد الأرض) لعبد الملك نوري، و(الأيام المضيئة) لشاكر جابر، و(حياة جديدة) لنزار عباس، وغيرها كانت روايات بقصص قصيرة، وكانت قصصا قصيرة بمشاريع روائية، ويعكس هذا الوضع الحاجة الاجتماعية التي أثقل بها فن القصة القصيرة وهي تشترك مع القصيدة الحديثة واللوحة الفنية في تشخيص أبعاد المرحلة، ومن ثم تحويلها الى منطق شعبي مواز للإحساس العام بانهيار المجتمع القديم وإقامة المجتمع الجديد. وترتبط النقطتان بحقيقة واحدة، هي أن الشعبية في الحياة لا تفرز الشعبية في الفن، وبالحدود نفسها نلمح أن أدبنا في تلك الفترة يؤسس منهجا نقديا للمجتمع ويوضح عبر أبطاله الثانويين ــ الشعبيين ــ الإمكانية لكتابة تاريخ المرحلة، وقد دفعت الثقافة الشعبية: البرجوازي الكبير الحاكم ــ الوالي ــ المسؤول الكبير ــ الإقطاعي.. الخ إلي الجزء الثانوي من العملية الفكرية واعتمدت بدلا عنه البرجوازي الصغير ــ العامل ــ الإنسان الشعبي ــ الفلاح ــ المرأة المسحوقة ــ الطالب.. كبطل رئيس يستوعب في أبعاده القيمة الفكرية لمجتمع ناهض على أنقاض مجتمع منهار. نقول ذلك ونعرف أن الخمسينيات أفرزت قصاصين مجيدين، فهي لم تقف كما هو شائع عند القاص عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وحسب، بل كان الى جانبها، غائب طعمه فرمان ومهدي عيسي الصقر، وغانم الدباغ، وادمون صبري، ونزار عباس، وعبد الله نيازي ومحمد كامل عارف، وعبد الرزاق الشيخ علي، وجيان، ومحمود الظاهر والعديد من أصحاب المفردة والاثنتين. وعندما تقرأهم مجتمعين تشعر بطعم الواقع مبثوثا في ثنايا فنهم، وتجد إن أردت التفصيل أنهم شخصوا عنف الواقع وصخبه يوم كانت الكتابة القصصية لا تمر إلا عبر القناة الشعبية في تجسيد مشكلات الحاضر. وعندما نتلمس الفائدة وأنت في موقع السبعينيات، تستطيع تشخيص امتيازات القصة الخمسينية بوضوح، لعل أولاها، هو ارتباطها بما هو مأساوي في الحياة الشعبية. ناقلة بذلك أحداثها البسيطة والمعاشه الى ما يشبه التراجيديا الحديثة المشبعة بالسخرية وبالثانوي من مجريات الأحداث. واعتماد قصة الخمسينيات هذا المنحى إنما كانت ترصد النوايات الجديدة النامية في وسط كبير بدأت أعمدته على وشك السقوط والانهيار. إن قراءة متمعنة لقصص (عبود) (الرجل الصغير) و(نشيد الأرض) و(العاملة والجرذي) و(الجدار الأصم) و(ريح الجنوب) لعبد الملك نوري، تكشف عن إنسان القاع الشعبي وهو يواجه ضغوطا يومية تمثل بعضها في طبيعة الحياة الشخصية التي يعيشها (عبود) (الرجل الصغير) وبعضها في إيضاح أثر السجون الى الأبناء البسطاء( الجدار الأصم). وآخر في تقليب نفسية المرأة في مجتمع الاستغلال( العاملة والجرذي).. لفؤاد التكرلي إسهامه في كشف عمق الجانب التراجيدي في الحياة الشعبية، فقصص كـ(الوجه الآخر، العيون الخضر، التنور، الدملة.. الخ) توضح أبعاد المأساة الاجتماعية التي تغلف امرأة القاع السفلي للمجتمع وهي تتجاذب حياتياً بين الاستغلال والانتفاع البسيط. وفي أبعاد هذه الحياة تكشف القصة العراقية عن جوانب لا حصر لها من أشكال المعاناة والاضطهاد والفقر والعوز والمطاردة. وأوضح مهدي عيسي الصقر جانبا من حياة بعض الناس، كـ(الشرطي حسن) و(المجرمون الطيبون). وقال على لسانهم الصوت الاجتماعي الشعبي عندما واجهوا فيه وضعا ماديا أو نفسيا لا قدرة لهم على مجابهته، كما أوضح غانم الدباغ في(الظلام المخمور) القدرة على كشف كوامن المرأة في وسط أحاطها بظلام، ظلام طبيعي، وآخر من فعل الإنسان، فكانت ضحية الاثنين، في حين أن عدتها في كل ذلك نفسية بسيطة وكلمات مؤجلة، أما عبد الرزاق الشيخ علي فقد وظف كل قصصه لإظهار التناقض في الحياة اليومية لأناس مزدوجي الحياة فالمحامي أو الصحفي، أو البرجوازي الصغير الذي يحيا حياة أبن المدينة، نراه في الجانب الآخر مضغوطا بجدار العائلة واحتياجاتها ومتطلباتها اليومية، وعندما لا يجد حلاً لما هو قائم، نراه ينخرط في صفوف المناضلين لا كخلاص مؤقت وإنما كحاجة فكرية وسياسية، تفضح عن محنة الإنسان المثقف يوم ذاك.
وفي القصة الخمسينية شواهد كثيرة علي رصد هذا الانهيار الاجتماعي الذي يغلف حياة الناس. فالأبطال الذين أشرنا الى معاناتهم كانوا يطرحون الوجه الشعبي للجانب الآخر ــ جانب التفاؤل ــ القائم على أنقاض ذلك الانهيار، والقصص إنما تجسد أبعاد هذا الانهيار في أشكال الحياة اليومية إنما كانت بين ما تدين به الطبقات المستغلة التي تدفع بالبسطاء الى العيش المأساوي. فلم نجد في القصة الخمسينية من يمجد الإقطاع والحكام والمستغلين، بل وجدنا من يدينهم من خلال رصد الحياة الشعبية المثقلة بأحزان الحاضر، ومن خلال هذا الرصد تؤكد في أبعادها القيمة الكبيرة للمستقبل دون أن تضع منهجا تفاؤليا مباشرا لما يأتي من الأيام. إن التفكير يقودنا بعد قراءة قصص الخمسينيات مجتمعة الى الحاجة الى تغيير المجتمع، والى الإشارة الى أن نهوضا اجتماعيا وطبقيا يشيد على أنقاض الوضع الموشك على الانهيار. وتتأكد أكثر صورة هذا الانهيار في الشكل الفني الذي اعتمدته القصة الخمسينية المتألقة، وهو ما ندعوه بالامتياز الثاني لها.
من ملامح هذا الشكل، هو ابتعاده عن طرائق الفن الشعبي الذي توارثه المجتمع والقصة. وتعد هذه النقلة بمثابة القيمة الفنية لفن يريد مواكبة النهوض الفكري الشعبي الذي استوعب الشعر وفن التشكيل جزءا مهما منه. وبالطريقة ذاتها شخصت هذه النقلة ما سبقها من طرائق فنية شائعة على يد كتاب الأربعينيات والثلاثينيات ووثقت الصلة بالقصة الفنية التي حاول محمود أحمد السيد كتابتها.