الشهرستاني وطريق الاصلاح والثورة

Wednesday 31st of May 2017 05:58:23 PM ,

عراقيون ,

توفيق التميمي
طريق الاصلاح طريق مليء بالعقبات و الاصلاح وهي ليست نزهة في حديقة عامة او بستان عامر بالاشجار بل هو ميدان معركة يخوضها المصلحون بعدة افكارهم وصلابة ثباتهم وقوة ايمانهم بنتائج وثمار هذا الطريق للنفع العام ضد قوى الجهل والتخلف والسلطة، ولان الشهرستاني كان اول من رفع راية العلم الطبيعي الحديث ومنافعه في الاوساط الحوزوية موظفا معطياته في علم الفتوى الشرعية ومصالح العباد.

من هناجازف الشهرستاني وهو يدوي بفتواه الشهيرة (بعدم جواز نقل الجنائز من امكنتها البعيدة الى مقبرة النجف) لما يسببه بعد المسافات وقسوة المناخ وتبدلاته من تفسخ للاجساد يضر بالبيئة العراقية وصحة البشر ويصيبهم بانواع من الامراض الخبيثة، تحولت فتوى الشهرستاني المثيرة للجدل والاعتراض الى كتاب تداوله عشاق الاصلاح وشبابه المتطلع للعلم والعقل،وتحولت الفتوى الى لغط وجدل عم حلقات الدرس ومجالس المثقفين وانقسم كل هؤلاء بين مؤيد للشهرستاني ومحارب له.فالمؤيدون له هم اصحابه من حلقة التنوير والمخلصين لايمانهم ولوطنهم وصيانته من تسلل الاوبئة والامراض من جراء نقل الجنائز هذه،والفريق المعارض هو الفريق المستفيد من قدوم هذه الجنائز ماليا ووجاهيا. (استطعت ان افهم حركة السيد الشهرستاني اكثر خصوصا في الكتاب الاخير (تحريم نقل الجنائز) وفهمت جيدا سبب الهياج العظيم الذي جوبه به الشهرستاني حتى اصبحت حياته في خطر واعتبرت دعوته هذه التي حملها كتابه دعوة مخالفة للشرع وقد تجرأ البعض فنسب له الكفر والزندقة وطلب منه ان يستغفر ربه ويتوب في حين كان قد بلغ مرحلة الاجتهاد واوغل فيها. ودعوة تحريم نقل الجنائز من الاماكن النائية الى النجف الاشرف تلخص في ان السيد هبة الدين الشهرستاني كان لايبيح نقل هذه الجنائز اذا ما اخل هذا النقل بحرمة الميت بحيث يسبب نتونة الجثة وتفسخها او الاستهانة بها،وحصر النقل في دعوته على الاماكن القريبة.) هكذا عرفتهم جعفر الخليلي ج1 ص486مصدر سابق.
انتهت الضجة التي اثارها المحافظون ضد الشهرستاني فيما يتعلق بفتوى تحريم نقل الجنائز الى تهديده والتلويح بتصفيته،فاشار عليه بعض من المخلصين لنهجه والمحبين له بالسفر والرحيل،توافق ذلك مع توقه الذاتي للانطلاق بالتبشير لافكاره الاصلاحية في بلدان اخرى واماكن اخرى اكثر امنا على حياته وستكون فرصة للاطلاع عن كثب على عادات وتقاليد وثقافات تعزز من شعوره الانساني وتفتح لمساره الاصلاحي مساحات واسعة باتجاه مدن العالمين العربي والاسلامي التي وصلها في رحلاته الخليجية والهندية..

الشهرستاني الثائر
كان الشهرستاني يخفي خلف جلباب المصلح وعاشق العلم والتجديد مواهب المقاتل العنيد والمحارب الشجاع التي ستظهر في ميادين الجهاد في جبهات الشعيبة متصديا مع كوكبة من العلماء ومقاتلي القبائل لاوائل جحافل المحتلين البريطانيين استجابة لفتوى المرجعية ونداء الضمير الوطني لتسجل له صفحات الجهاد انصع صفحاتها كما سجلت له صفحات الاصلاح سطورا من المجد والتالق التي انتهت بخسارة الثورة وكراهية الانكليز لهبة الدين الشهرستاني الذي قضى مسجونا في سجونهم من 1920 حتى الشهرالثالث من عام 1921جراء مشاركته الثانية في معارك ثورة العشرين،ارّخ الشهرستاني تجربة مشاركته في معارك الجهاد بكتيب يحمل عنوان (اسرار الحقيبة في استرجاع البصرة والشعيبة)(لم تمنع الاهتمامات العديدة للسيد هبة الدين من ان يكون الجهاد في صلب هذه الاهتمامات والأركان المقدسة التي يبتغي بها مرضاة الله تعالى كيف لا وهو حفيد سيد الشهداء الحسين (رض) وابن الحوزة العلمية المجاهدة فكانت لـــــه مساهمات في التصدي للاحتلال الانكليزي منها :-
1- في عام 1915عهد اليه قيادة هيأة علماء الدين لدعم المجاهدين المتطوعين لنصرة الجيش العثماني في معركتي الكوت والقرنة وكانت لخطبه المشجعة تاثيراً كبيراً على المجاهدين وزيادة حماستهم.
2- في عام 1916عهد اليه قيادة ركب العلماء والمجاهدين من العشائر الفراتية لنصرة العثمانيين في معركة الشعيبة قرب البصرة ضد قوات الانكليز الزاحفة اليها
3- في 1920/10/10اعتقلته السلطة البريطانية المحتلة وحكمت محكمتها العسكرية المنعقدة في الهندية والحلة عليه وعلى بعض من كان معه بالاعدام شنقا بتهم ملفقة وشهود زور وكان اسمه في مقدمة المحكومين وسجن مع رفاقه في سجن الحلة لغاية 1921/5/31حيث يصف السيد قصة تلك الايام في السجن فيقول:
لقد قضينا تسعة اشهر في الحبس وفي غرفة المصلبة (المشنقة) وعندما صدرت علينا الاحكام بالاعدام تغيرت الوان رفاقي كانوا في هم عظيم اما انا فلم اهتم لذلك فاخذت عباءتي وصعدت سلم المشنقة وجلست عند فسحة صغيرة ينتهي عندها السلم تحت المشنقة مباشرة ولكنهم نادوا علي كي انزل لشرب الشاي فقلت لهم ابعثوا بالشاي لي هنا فعجبوا مني ولكني كنت بهذه الكلمة بعثت في نفوسهم شيئاً من الاستهانة فما لبثوا ان صعدوا جميعهم السلم وجلسوا معي يشربون الشاي تحت المصلبة لقد قلت لهم لماذا اصفرت وجوهكم اننا شهداء فما لبثت نفوسهم ان اطمأنت حتى صارت المصلبة ملعبه). هبة الدين الشهرستاني- رجل الجهاد والتنويرمحمد فخري حسن موقع الحوار المتمدن.
ويصف الاديب والقاص جعفر الخليلي في انطباعاته عن شخصية هبة الدين الشهرستاني لاسيما فيما يتعلق بجانبها الثوري والسياسي(لاول مرة اسمع باسمه يتردد بشيء كثير من التقديس في الثورة العراقية الكبرى،فلقد كان احد اركان هذه الثورة والعاملين على طلب الاستقلال للعراق بحماس منقطع النظير وكان احد المستشارين والمقربين لمفجر الثورة الزعيم الروحاني الميرزا محمد تقي الشيرازي وكان له الفضل الاكبر في جمع كلمة البعض من زعماء القبائل المتنافرة وتوحيد صفوفهم وحين انتهت الثورة والقى الانكليز القبض على زعماء الحركة ورؤساء القبائل كان السيد هبة الدين من اوائل المقبوض عليهم،وزج في سجن الحلة ومنذ ان دخل السجن اصبح هذا السجن مسجدا عندما تحين اوقات الصلاة حتى يتقدم فيصلي بالمساجين من الشيوخ والزعماء،وقد ملا السجناء ثقة بانفسهم وازاح عنهم كابوس الهم والخوف من ان يصار بهم الى المشنقة)هكذا عرفهم الخليلي مصدر سابق ص 488

الشهرستاني وزيرا
رغم كراهية الانكليز للسيد هبة الدين الشهرستاني الذي قاتلهم ايام حركات الجهاد في الشعيبة وميادين ثورة العشرين و هيمنة المستشار البريطاني على تقاليد الامور التي اعقبت ثورة العشرين وانتكاستها، فقد تم اختياره كوزير للمعارف في حكومة عبدالرحمن النقيب الكيلاني الثانية والتي استقال منها في 14 اب 1922 اثر التصديق على المعاهدة البريطانية العراقية وتساهل الحكومة في مجابهة سلسلة الهجمات الوهابية على حدود المدن العراقية الامنة، وستظل قائمة وزراء المعارف والتربية في العراق تسطع بمنجزات الشهرستاني لقطاع التعليم والتربية في العراق مدى الدهر فسابق الزمن ليضع بصماته الاصلاحية على كل اجهزة التعليم الوظيفية ومناهجها التعليمية وبنايات مدارسها وتعليم البنات بما لم يشهده عهد تربوي قبله (اعلن تشكيل الوزارة الجديدة في 12 ايلول 1921 فكان فيها النقيب رئيسا للوزارة والحاج رمزي وزيرا للداخلية وناجي السويدي للعدلية وجعفر العسكري للدفاع وعزت الكركولي للاشغال والمواصلات وعبداللطيف المنديل للتجارة ومحمد علي فاضل للاوقاف وحنا خياط للصحة وعبدالكريم الجزائري للمعارف.ولم يكد يعلن تشكيل الوزارة حتى ارسل عبدالكريم الجزائري من النجف اعتذاره عن الاشتراك فيها وهنا بدا التداول والجدال من جديد حول من يتولى وزارة المعارف على شرط ان يكون شيعيا وتم الاتفاق اخيرا على اختيار السيد هبة الدين الشهرستاني من كربلاء وجاء الى بغداد وتولى الوزارة)لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج6 ص126 د. علي الوردي
ويستذكر الشهرستاني نفسه تلك اللحظات الاولى التي قبل بها في منصب وزير المعارف في حوار معه اجرته مجلة الاسبوع :(ذهبت الى بغداد وكان المرحوم فهمي المدرس مدير شؤون الامير وهو نازل في قصر شعشوع وهناك عرض علي الملك فيصل ان اكون رئيسا للوزراء عند تشكيل الحكومة فاعتذرت ثم عرض علي وزارة المعارف فاعتذرت ولكنه هددني بان يشكوني يوم القيامة لدى جده وجدي فقبلت)من حوار مع السيد هبة الدين الشهرستاني لمجلة الاسبوع (ملحق جريدة الشعب) 1957

عامان في الوزارة
عامان من الاستيزار لشخصية تكاملت عناصرها التنويرية وترجمت تطلعاتها الاصلاحية بمجلة للعلم وسنوات خصبة من تدريس جرئ وجسور داخل اروقة الحوزة النجفية ومقالات في الصحف والمجلات وخطب تحرض على التنوير. كان ذلك كافيا ليترجم الشهرستاني في مدارس المعارف ودوائرها كل تطلعاته الاصلاحية في اصلاح التعليم المدني هذه المرة وتنشيطه واصلاح مفاصله الموروثة من العهد العثماني البالي، فكان له في سنوات الاستيزار صولات وجولات واثار وبصمات لن تمحى ستهيئ للقادم من زملائه وزراء المعارف الاخرين قاعدة صلبة وقوية للانطلاق لتطوير افكارواعمال ماقام به الاصلاحي وزير المعارف هبة الدين الشهرستاني(الغيت من وزارة المعارف وظائف عدة كانت لاقطاب الانكليز،اتخذت فرصة انتهاء مددهم او عدم وجود حاجة ماسة اليهم ذريعة لطرد هذه العناصر التي جاءت مع الحرب فاثرت في صبغة الوزارة وسمعتها) من مذكرات هبة الدين الشهرستاني المخطوطة.
فاحدث الشهرستاني تطورا نوعيا وكميا في التعليم العراقي خلال مدة استيزاره القصيرة(ان منهجية هبة الدين وتنوره ساعدته على الخروج بنتائج ايجابية في بناء قاعدة للتعليم تعد الاولى بتاريخ هذا البلد فقد ارتفع عدد المدارس من (88) الى (151) واليه يرجع الفضل في تاسيس مجلس المعارف وكان الرائد في ارسال اول بعثة علمية الى خارج البلاد كما ان مساهمته في تعليم المرأة واضحة حيث بلغ عدد مدارس البنات في عهده (27) مدرسة بعد ان كانت (3) مدرسة وكان له دور كبير ايضا في زيادة ميزانية وزارة المعارف بعد ان دعا العراقيين للتبرع بالمال للوزارة نتيجة للتخصيصات المالية القليلة) هبة الدين الشهرستاني- رجل الجهاد والتنويرمحمد فخري حسن موقع الحوار المتمدن..

قاض في محكمة التمييز الجعفري
استحدث الملك فيصل الاول محكمة للتمييز الجعفري بعد ان كانت هناك محكمة للتمييز السني فقط والتي كان يراسها قاضي سني اصلاحي اخر هو العالم الشيخ امجد سعيد الزهاوي ،وجعل من الشهرستاني الذي يكن له مشاعر الود والحب والاحترام رئيسا لها ، تمكن الشهرستاني ان يحول سنوات خدمته في القضاء الى فرصة لتحقيق العدالة بين المختلفين و تسليط الضوء على تاريخ القضاء العراقي ومكانة القضاة وظهر ذلك في مؤلف اختص به الشهرستاني القضاء والقضاة. استمر في منصبه كقاضي لمحكمة التمييز الجعفري اكثر من احدى عشر عاما.

فقدان البصر ومكتبة الجوادين
لم ينس الانكليز مواقف الشهرستاني الصلبة منهم والمعادية العلنية لسياستهم في العراق،سواء في حركات الجهاد 1914 ام ثورة العشرين ام دوره الثقافي والتنويري الذي يتقاطع مع استراتيجية التجهيل الاستعمارية لابناء شعوب مستعمراتها ، لاسيما انه كان المبادر بطرد المستشار البريطاني للوزير العراقي في سابقة لم يفعلها احد من قبله من الوزراء العراقيين، لهذه الاسباب وغيرها كادت له الدوائر الاستخباراتية البريطانية له المكيدة تلو الاخرى حتى نجحت في النيل منه واطفاء نعمة بصره بمكيدة مدبرة من المس بيل وكيلة الاستخبارات البريطانية في العراق،والطبيب الايطالي طوبليان بمساعدة ممرض هندي كان يسكن لدى الشهرستاني في عمارة يمتلكها عن طريق زرقه بحقنة تطفئ بصره،ولكن لم يطفئ بصر عينيه شعلة حماسه الاصلاحي ولم تكبل خطواته الجريئة في التغيير، فبعد اطفاء بصره توقدت ذاكرته والتهبت نيران قلمه فالف وكتب وحقق المئات من الرسائل والكتب والوثائق التي اصبحت مرجعا في مجال الاصلاح والتجديد والادارة.

مكتبة الجوادين
من ابرز الاثار الشاخصة التي تركها هبة الدين الشهرستاني والتي تحكي قصة جهاده الاصلاحي وادواره التنويرية هي مكتبة الجوادين العامة التي تحتل الركن القصي من الصحن الكاظمي الشريف وهي تضم الى جانب ما تركه من مؤلفات ومخطوطات ووثائق / الالاف من الكتب في شتى صنوف المعرفة والعلوم.
حيث بعد تقاعده من منصبه كرئيس لمحكمة التمييز الجعفري اختار زواية في الحرم الكاظمي الشريف ليحولها الى مكتبة عامرة وميدانا لمواصلة مشروعه الاصلاحي تاليفا وتحقيقا وترجمة وكانت تلك اول مكتبة تقام في الصحن الكاظمي الشريف باسم مجلته العلم والتي تحولت الى مكتبة الجوادين 1941 لتظل عامرة بعبق انفاس الشهرستاني الاصلاحية وقبلة تهفو اليها طلاب العلم والمعرفة وعشاق التنوير والتجديد الذين ينحنون امام اسم وصورة باني حجرها الاول وباني لبناتها الاولى الاصلاحي والتنويري هبة الدين الشهرستاني.

مرقد قرب كتبه
لم يطفئ الموت الذي وافه في صبيحة يوم من شهر شباط 1967 من سطوع نجمه عاليا، ولم يقف غيابه عن الدنيا حائلا دون تكاثر مريديه وطلاب مدرسته الاصلاحية فظهر له طلابا نابهين اقتفوا اثره ونقبوا في مخطوطاته حتى عد احد تلامذته وهو الدكتور اسماعيل طه الجابري رئيس الدراسات التاريخية حاليا في بيت الحكمة بان السيد الشهرستاني حظى بدراسات ومؤلفات وكتابات بما لم يحظ به من قبله عالم دين من السنة والشيعة في العراق.