رسائل جان كوكتو إلى أمه: أقلّد رقاص الساعة الحائطية

Tuesday 23rd of May 2017 06:27:12 PM ,

منارات ,

سعيد بوخليط
عرف عن الفرنسي جان كوكتو، هو كاتب وشاعر ومخرج ومصمم وفنان، ولد في ميزون –لافيت سنة 1889، النجاح منذ شبابه. بدأ يتردد على الصالونات العالمية والفنية إلى غاية حرب 1914. وابتداء من سنة 1917 ربط علاقة صداقة مع بيكاسو وأبولينير وبليز ساندرارس.

شارك في كل تيارات حقبته من رقص الباليه إلى التكعيبية فاليسريالية. سنوات الثلاثينات، التفت نحو السينما والمسرح: «دم الشعراء، الآباء المرعبون، وصية أورفي». أعمال، كشفت عن موهبته. أصبح عضوا في الأكاديمية الفرنسية سنة 1955 وتوفي يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول 1963، وقد ترك نصوصا آسرة وخلاقة إلى أقصى حد، متوخيا من خلالها البحث عن تجربة الحدود. هنا مجموعة من رسائل بعثها لوالدته.

فال- أندريه 30/آب 1906
أمي العزيزة
شعلة شمعة ترتجف. خرير البحر. كل شيء هادئ. أولا أقبّلك ألف مرة، ثم أسرد لك قصة سفري. داخل عربة القطار، يجلس أمامي رجل يتمتع بهيئة جميلة، مستمتعا بقراءة كتاب:”مجرمو شيكاغو”. يتسع وجهه حبوراً يبدو أنه يستلهم سعادة هائلة من قراءته تلك، تغاضيت عنه كي يستغرقني تأمل”الفصول الأربعة”. يمينا وشمالا، تنساب منحدرات، جميعها متماثلة، بالتالي أملك ما يكفي من الوقت للقراءة.
إلى غاية وقت وجبة الغذاء، لا شيء يستحق الذكر، لقد نسيت مرور الوقت بصحبة غورينفلو وشيكو.
أذهب إلى المقصورة – المطعم وأنا أتمايل على الجدران بكيفية تقلد تماما رقاص الساعة الحائطية. أتناول الطعام بشراهة. الرجل صاحب الهيئة الجميلة، يتواجد أمامي، قدموا له قطعا من لفائف النقانق لكنه امتنع من البلاهة أيضا قراءة كتب وأنت على خط للسكة الحديدية، تركته يتبادل أطراف الحديث مع مسافر آخر حول أمور تتعلق بحجم الأشجار عموما وشجر المرّان خصوصا.
هناك، تنساب سهول من كل جانب، رائحة الغذاء لاذعة، انتهت ممتزجة بأخرى عديمة الطعم مصدرها الاغتسال السطحي بعطر الكولونيا. تتآخى المراحيض مع روائح السيجارة الإنكليزية ثم تشكل مجموعة أبخرة تحزن القلب.
مهما كان الأمر، يجري القطار، تبعث الشمس بحريقها، فتشعل حرارة لا تطاق، تحدث العربة قفزات فجائية عنيفة. بدأ الرجل صاحب المظهر الجميل، يصدر شهقات تنم عن الجزع… فجأة اختفى.
لا أشعر بأني على ما يرام أحس بألم يجثم على قلبي؟ صفارة إنذار محطة، ثم توقف القطار لقد أنقذت، أمدوني بمضخة الأوكسجين، اجتذبت منها ما يلزمني بجنون، فاستطعت بالمثابرة على هذا التمرين التنفسي أن أسترجع الاهتزاز المنخفض لصدري.
الآن أنا بخير، بوسعي القراءة بهدوء. أتقاسم مع الرجل صاحب المظهر الجميل، محادثة متلهفا بصوت مرتفع، كي يظهر إليّ غزارة معلوماته عن الأسفار، مبينا ساعات الوصول وكذا أسماء مختلف محطات الوقوف، إلخ. هكذا تراجع تقديري كثيرا نحوه، لأن طنينه بات يشكل عقبة بخصوص تركيزي على القراءة.
إنها محطة مدينة «لامبال”نتدافع. أتناول أغراضي ثم يستحوذ عليّ الانطباع الذي سبق أن أخبرتُك به لحظة نزولي السريع في مصعد. من الذي سألتقيه؟ ينقبض قلبي المتعب، شعور غبي ربما، لكنه شاق على أي حال. لا أتبين أحدا ينتظرني وعوض أن يضايقني هذا، تنفست الصعداء بحيث لدي الآن ساعتان من الزمان كي أتهيأ. أكتشف هنا عالما مختلفا عن ما تركته، أرى نساء مخمليات ومرتبات الشعر يتجولن ويرتدي الرجال لباسا قصيرا أزرق. لا وسيلة لنقل أمتعتي. أخيرا تقترب سيارتان أشرت إلى الثانية، كنت في البداية وحدي، ثم التحقت بي سيدتان تبدوان طيبتين، تتصببان عرقا، وبالكاد تتنفسان، تحملان أمتعة ضخمة. سلكنا طريقا أشبه بالبياض تقريبا، تغمره أتربة طباشيرية. يمينا، المقعد يحجب عني الرؤية، أمامي وخلفي تمر سهول شاسعة لكنها قبيحة المنظر. سحابة رمادية، مصفرة بالشمس، مستمرة وراءنا تخط على الطريق عبورنا، بقدر تقدم السيارة، نطوي الطريق رويدا رويدا، ثم ها هو النقر المؤلم جدا يستحوذ ثانية على بطني. هل من مؤشر على أننا نقترب؟ توجهت بالسؤال إلى إحدى السيدتين، فأجابتني بعد نصف ساعة من الآن وددت الرد عليها أنه مع هذه الارتجاجات تكفي دقيقتان، لكنها لن تستوعب المستملحة، بالتالي التزمت الصمت. يصير المنظر أكثر إثارة للإعجاب، نرى السماء تسقط على الأفق من كل الجهات، زرقاء فوقنا ومكفهرة في الجهة الأخرى، اكفهرارا يمتزج بسراب بنفسجي مثل بخار خفيف، كل شيء من حولي يقضمه الغروب ثم تظهر طاحونتان، تدور أجنحتهما ثم تدور.
تستند المرأة المسنة على ركبتي، تأخذها بلا شك كمقعد، وتطبطب عليها بإيقاعات عسكرية، فجأة تعالت صرختان «فيردولي verdelé”ثم يرمق بصري تلك الصخرة الشهيرة وقد اعتراها التشوه نتيجة نبرتهما، تنتصب وسط منفذ في الجبل بنفسجي وأخضر عند ركن أزرق. وهاتان الطاحونتان الشقراوتان ذاتا الأجنحة الصفراء مستمرتان في الدوران أشعر أكثر فأكثر بالإرهاق. تظهر بعض المنازل، وأكواخ، وصخور لقد وصلنا فتاة صغيرة تسوق أمامها بقرتان. صدغاي، يتصارع اصطكاكهما. ها نحن في المنزل الريفي لجورج- آن. الجميع منهمك في لعب كرة المضرب، أنا وحيد. توخيت بجنون أن أنسحب وأعود من حيث أتيت لكن تبا، وقررت البقاء. أرى رجلا وسيدة قادمين، أحدس أنهما أسرة دييتز”بلا شك هما”تقول مدام بيلازور. دفعا الحاجز، صعدا الدرج دقا الباب، ثم ها هما هو يشبه قليلا الممثل موني- سولي، عين جد متملصة، نظرة إلى الأسفل، أحاديث مبتورة. هي خصلة شعر على جبهتها، تبلغني بصيحات صغيرة أنه ابتداء من الغد بداية العطلة، سنقوم برحلة على متن الدراجات لقطع مسافة ستين كيلومترا، «إذا لم ترغب فسيكون موقفك مؤسفا»، ثم أمسكت ذقني بحركة لا تقتضي مقاومة وتفحصت حلقي كي تخبرني بأني لا أعاني تقريبا من أي شيء وهو ما أعلمه جيدا.
عشاء العائلة
ثلاثة نزلاء وصبي، ثم حل ضيف آخر سيأخذ مكاني في النزل. بالتالي إلى أين سأذهب أنا «لا أدري”سأستسلم لمجريات الأمور، إنه القرار الأكثر بساطة، فلم يكن من اختيار ثان سوى الامتثال له. ابتداء من هذه الليلة اشتغلت على اللاتينية، كريستي لا يضيع وقته أنا أبله وحائر على نحو مطلق. إلهي كم أشعر وحيدا أتمنى أن أتحفز ثانية مع الليل، ثم أنهي هذه الرسالة كي أنام. أحبك عزيزتي الصغيرة أمي، وأنا أبكي بمرارة لكونك بعيدة عني، أغمرك بقُبلي.
جان.
اكتبي إليّ رسائل طويلة تجعلني أكثر قربا.
الرسالة الثانية
فال- أندريه
15/أيلول 1907
الأحد
أمي الصغيرة العزيزة
خلال خمسة عشر يوما سأكون على وشك الالتقاء بك أشعر أكثر من أي وقت مضى بالحنين إلى الديار، لكن للحسرة وضع حد لمعاناتي لن يتجاوز يوما واحدا مادمت ملزما بالرجوع ثانية فور قدومي. بدأت أشكر لاختبارات البكلوريا اقترابها السريع لأن هذه الحقبة المرتبطة بالدراسات الصارمة وكذا المجهودات المبذولة تثير أعصابي أو تنهكني. أقضي ليالي رهيبة، لكني أفكر فيكِ، وكذا الصداقات العميقة التي عرفت كيفية نسج خيوطها مبديا في الآن ذاته تذمري من الأنانيين الذين لا يعرفون أبدا عزاءات القلب غير القابلة للوصف. صارت العزلة لدي خلال النهار جحيما، نتيجة ضوضاء البهجة البلهاء والسعادة الطفولية: كرة المضرب، وجلبة تصحبها أغاني. سعيد جدا، أنكِ أخيرا أنصفتِ موريس ميترلنك (كاتب) ووضعتِه ضمن الخانة التي يستحقها، وأعيدي قراءة روديار كبلينغ (كاتب)، مدهش حقا عمله: «النور الذي خمد»، نص يثير الإعجاب. كل أهل البلدة يحبونك وأنا أهيم فيك.
جان.
ملاحظة: شكرا ألف مرة بخصوص لطفك.
الرسالة الثانية:
عزيزتي
تدركين جيدا، لا شيء في هذا العالم يرضيني سوى رسائلك وكذا كلمة ثناء منك تشكل لي درعا أتحصن به ضد كل الطعنات. البارحة ليلا، جدال حول الخوف وكذا اليرقات الكوكبية. رعب كبير. بهذا الخصوص، أدلى”ليون”بإيضاحات تقتل على الفور. يحكي بأنه مع بعض الحالات يمكن لانعكاس مِرآة أن يحدث إشارة معاكسة لإشارتك وتأخذ حياة خاصة. يعني هذا أن لا تلج ليلا غرفة الحمام.
حب.
جان.
الرسالة الثالثة:
عزيزتي
تعلمين حبي لك أكثر من أي شيء آخر في هذا العالم وبأن مصدر أمزجتي السيئة كوني أحيانا أحزن نتيجة غباوة تنتزع مني عذوبة الهدوء. إعصار، عاصفة، ديكة وأبقار جميعها تخلق الكآبة على وقع نقرات المطر الخريفي. رسم إميل بلانش نبات البيغونيا، ستفقدك عقلك، وباقات زهورها الشمسية تنير وتدفئ المنزل بزيتها الوضاءة.
أقبّلك من كل قلبي.
جان.

عن الاتحاد المغربية