يوميات مئة عام من العزلة.. قالت له زوجته: كل ما نحتاج اليه هو ان تفشل هذه الرواية

Tuesday 16th of May 2017 06:51:50 PM ,

منارات ,

علي حسين
بدأ اهتمامه بالرواية في الليلة التي قرأ فيها رواية”المسخ” لكافكا. يتذكر كيف عاد الى غرفته البائسة وبيده نسخة من تلك الرواية أعارها له صديق. كانت النسخة بترجمة اديب ارجنتيني لم يكن معروفا آنذاك اسمه خورخه لويس بورخس، خلع قميصه وحذاءه واستلقى على السرير، فتح الكتاب وبدأ بقراءة السطر الاول :”حين استيقظ غريغور سامبا في صباح يوم من الأيام

إثر أحلام مضطربة، وجد نفسه وقد تحول في سريره الى حشرة هائلة.”رمى الكتاب جانبا وهو يقول لنفسه :”اللعنة، انها تشبه الأسلوب الذي كانت تتحدث به جدتي".
بعد يوم قال لأحد اصدقائه : لقد وجدت مهنة تناسبني.. انها الكتابة.

جلس ليكتب قصته الاولى، اختار لها اسم”الاستسلام الثالث"، تدور فكرتها الرئيسية عن شخص غير متأكد ان كان حياً او ميتاً. وبالرغم من ان والده اخبره ان قصته مرتبكة ولا معنى لها، لكنه جازف وارسلها الى احدى الصحف المحلية، وبعد اسبوعين كان يجلس في المقهى، ولدهشته شاهد عنوان قصته يغطي صفحة كاملة من الصحيفة. نادى على بائع الصحف ليشتري نسخة لكنه تحسس جيوبه ليكتشف انه لايملك الخمسة سينتافو ثمن الصحيفة، عاد الى البيت وحاول ان يقنع شقيقته فسخرت منه، ليستنجد بأحد اصدقائه حيث خرجا معا لشراء صحيفة”الاسسبكتادور”ليوم الثالث عشر من ايلول عام 1947 ليجدا على الصفحة الثالثة قصة”الاستسلام الثالث”لغابرييل غارسيا ماركيز.
************
قال لماكس برود انه كتب بالأمس رواية صغيرة الحجم، ظل يكتب فيها من دون انقطاع في ليلة واحدة كان فيها مستسلما لخيال غير واقعي :"كتبت المسخ من دون توقف منذ العاشرة ليلا حتى السادسة صباحا، ولم اكن قادرا على سحب ساقيَّ المتصلبتين من تحت الطاولة، كان الارهاق الفظيع والبهجة اللذان تابعت من خلالهما تطور القصة يشبهان التقدم على الماء، كنت احمل في اثناء تلك الليلة ثقلي الذاتي فوق ظهري مرات عديدة”– كافكا اليوميات - ارسل نسخة من”المسخ”الى مجلة ادبية، وكان الجواب انهم على استعداد لنشرها بشرط ان يختصرها. حين كتب كافكا هذه الرواية القصيرة، كان في السادسة والعشرين من العمر، وكان يحس أن نهايته تقترب، بسبب إصابته المبكرة بالداء الذي قضى عليه شاباً. كان رد فعله على طلب المجلة حاسما، يمكنه تحمل فكرة ان لا تنشر الرواية، لكن فكرة ان ينشر ويبتر كانت فكرة لاتحتمل، فيكتب رسالة الى روبرت موزيل المسؤول عن التحرير :”لئن راودتك هذه الفكرة الغريبة في ان تطلب مني القيام فيها بتقطيعات للنص، فلأن تعاقب الصفحات التي تؤلف”المسخ”يبدو لي الامر مملا، لا استطيع حقا عمل اي شيء لكن ما يدهشني بوجه خاص هو انك تجهد في اقناعي، متوهما اني اقل ذكاء منك”. ويضيف كافكا في رسالته الطويلة :”الرواية بالنسبة لي ليست نوعا ادبيا محددا، و لافرعا من فروع شجرة الادب، لن نفهم في الرواية اذا انكرنا ملهمنا الخاص وهو الانسان الذي يبدو اليوم بلا ملامح.”بعد خمس سنوات يبدا موزيل يتذكر رسالة كافكا وحديثه عن الانسان بلا ملامح، وذات مساء يجلس موزيل الى مكتبه ليكتب رساله الى كافكا خاطبه فيها بالأب العزيز رغم انه يكبره بثلاثة اعوام، وفي لفته غير مسبوقة قام موزيل باعادة نشر”المسخ”مع الرسالة التي يقول فيها :”لقد سألتني قبل سنوات انك لم ترد مني ان ابتر عملك الروائي، وكالعادة لم استطع الرد عليك، من ناحية بسبب الاحترام الذي اكنّه لك، ومن ناحية اخرى لأنني لكي اجد تعليلا لهذا الجواب بدأت أبحث عن ملامح بطل قصتك، فأكتشف، ويا للرعب، اننا جميعا تحولنا الى مسوخ بلا ملامح انسانية”. وبعد عام يبدا موزيل بنشر الفصول الاولى من روايته المثيرة”انسان بلا ملامح”ساعيا لتحقيق هدف كافكا : ايجاد نوع من المصالحة مع الانسان الذي لم تحدده سمات، لأنه الانسان نفسه، لأنه الحياة نفسها، والانسان والحياة لاضفاف لهما.
************
بعد مضي سنوات يقول غارسيا ماركيز انه عاد الى البيت وجلس الى آلته الكاتبة، وتذكّر كاتبه المفضل كافكا، تماما مثلما قرأه للمرة الاولى قبل عشرين عاما :"انني هذه المرة لم أنهض لأمضي ثمانية عشر شهرا أواصل الكتابة كل يوم"، وقد اخبر صديقه فيدل كاسترو ان المشكلة الكبرى التي واجهته هذه المرة تمثلت في البدء بالكتابة، فهو يتذكر اليوم الذي اكمل فيه الجملة الاولى بصعوبة بالغة :”بعد سنوات طويلة، وأمام فصيل الإعدام تذكر الكولونيل اورلياندنو بوينديا، عصر ذلك اليوم البعيد الذي اصطحبه فيه ابوه كي يتعرف الى الجليد"، بعدها يسأل نفسه وهو في حالة من الهلع عن الجملة التالية، ولم يكن يتوقع ان الكتابة هذه المرة ستصل الى نهاية معينة، فقد ادرك ان عالم كافكا الغرائبي والساحر يتملكه، بعد عشر صفحات وعند جملة”مات ملكيادس”قال لنفسه انه يستطيع الان ان يسترخي ويذهب باتجاه المطبخ، كانت ميرثيديس تعد الغداء، اقترب منها وهو يقول”هذه المرة لن يكون الأمر سيئا لقد اكتشفت طريقي". يكتب ثمانمئة صفحة بطريقة متواصلة، لكنه يقرر في النهاية ان يختصرها الى 400 صفحة، وفيها سيروي لنا قصة اربعة اجيال من اسرة بوينديا، التي تعيش في بلدة اركاتاكا، لكنه يستعمل اسما آخر لها هو ماكوندو، هو الان في الاربعين من عمره، يدرك ان العمر يمضي سريعا وعليه ان يؤلف كتابا حول ذكريات طفولته وليس كتابا عن قصة عائلته، وبدلا من ان يكتب رواية واقعية، عليه ان يكتب شيئا اخر يجعله قريبا جدا من كافكا، وبعد ان كان يتململ من الكتابة ويكتب في اليوم صفحة واحدة، الان هو يكتب عدة صفحات منقحة في اليوم الواحد، والكاتب الذي كان يعاني من تسلسل الاحداث الواقعية فيما يكتبه، بات الان يتلاعب بالاحداث فيدمج حياة جده مع حياة ابيه، ويدمج جدته مع زوجته مرثيدس، دامجا تاريخ اسرته بتاريخ اميركا اللاتينية. ومثل سيرفانتس وهو يكتب”دون كيخوته”حاول في”مئة عام من العزلة”ان يضع قواعد جديدة للرواية الحديثة، موحدا المكونات الادبية : بورخس، ستورياس، ورابليه، بهمنغواي وفوكنر وديفو بمدونات الفتوحات الاسبانية. انتهاء الاسبوع الاول من الكتابة كان ماركيز قد قطع شوطا كبيرا، وسرعان ما اكتشف انه بحاجة الى ان يعلق كل نشاطاته، يكتب رساله الى صديقه كاسترو يطالبه بتأجيل لقائهما، ثم يكتب رسالة اخرى الى وكالة الانباء التي يعمل فيها يخبرهم فيها بعدم تمكنه من الاستمرار في العمل، وتخبره مارثيدس انه يقوم بمقامرة غريبة لرب اسرة يفترض فيه انه يفضل عائلته على الرواية، بعد ذلك يخبر كاتب سيرته جيرلد مارتن”لم اكن واعيا بأي أمر، كنت اعتقد انني مجرد رجل عليه ان يروي القصص والحكايات.”
في ايلول من عام 1965 كان ماركيز يذهب بولديه كل يوم الى المدرسة وبعد ان يعود يجلس الى مكتبه من الساعة الثامنة صباحا وحتى منتصف الغروب حابسا نفسه في غرفة صغيرة وغارقا وسط الدخان ولايظهر الا عند اوقات وجبات الطعام. لكن الغريب ان الجميع كان ينتظر هذا الكتاب، ويتذكر ماركيز فيما بعد فيقول لبلينيو ميندوثا في رائحة الجوافة :”مارس الكتاب منذ اللحظة الاولى وقبل نشره بزمن طويل تأثير السحر على جميع الذين اصبحت لهم صلة بالكتاب، اصدقاء كانوا او افراد عائلة وحتى الآخرين كالجزّار وصاحب البيت الذي نسكن فيه وغيرهم من الذين كانوا ينتظرونني كي افرغ من كتابته كي اسدد ديوني"، كانوا مدينين لصاحب البيت بأجر ثمانية اشهر، لما كان صاحب البيت يكثر في طلب نقوده قالت له زوجة ماركيز : انظر ما إن ينتهي من هذا الكتاب حتى تجد نقودك بين يديك، وكانت قد سألت ماركيز متى ينتهي من الرواية فأخبرها ان أمامه خمسة اشهر، عندئذ قالت للدائنين : عليكم الانتظار حتى ايلول المقبل. ومن بين الذين كانوا ينتظرون ماركيز ان ينتهي من الرواية، الفتاة المريضة التي تشتغل على الالة الكاتبة. كان ماركيز يأخذ لها كل بضعة ايام ملزمة سبق ان نضدها وصححها بيده لتقوم بتنضيد نسخة خالية من الأخطاء، كانت الفتاة تشكو من اخطائه الإملائية الفظيعة، وذات يوم كادت الرواية ان تضيع حين تعرضت الفتاة الى حادث دهس وتطايرت الاوراق في جميع ارجاء الشارع، بعد ذلك قالت ارياثا انها كانت تدعو صديقاتها كل نهاية اسبوع لتقرأ لهن ما يقدمه اليها غارسيا ماركيز من فصول الرواية.
************
في مطلع عام 1966 كانت النقود قد تبخرت من البيت، في الوقت الذي اخذت فيه الرواية تكبر وتكبر، لكن الدائنين يزدادون ويزدادون ولم يجد من حل سوى ان يقود سيارته من طراز اوبل الى موقع بيع السيارات ليرجع بمبلغ من المال، وعندما بدات النقود التي حصل عليها من ثمن السيارة تنفد، بدأت ميرثيدس تبيع كل شيء : التلفزيون، والثلاجة والمذياع وماتبقى من حلي رخيصة، وكان اخر شيء عندها مفرمة اللحم الكهربائية، واقنعت مالك البيت ان ينتظر شهرا اخر، اما صاحب محل الخضار والجزار فإقناعهم كان امرا صعبا للغاية.
وبعد شهر وفي تمام الساعة الثامنة من صباح الثامن عشر من تشرين الاول عام 1966 صعد ماركيز الى غرفة النوم حيث مارثيدس غارقة في النوم استلقى على الفراش واخذ في البكاء، لقد مات العقيد اوريلياندو، وشعر حينها ان كل شيء انتهى. لقد اجهز على بطله وعلى الرواية في ان واحد، لقد انتهت الان مرحلة مهمة من حياته وانتهت معها علاقة خاصة ربطته بأهم انسان في حياته وهو جده الذي فقده نهائيا وكان يتمنى ان الادب يستطيع بعثه من جديد.. لقد تمكن من انهاء الرواية واخبر صديقه الروائي فونتيس:”وصلت الرواية الى نهايتها الطبيعية اتمنى ان يلقى الكتاب رواجا.”كان اول عمل قام به ان ارسل نسخة منها لبلينيو مينوثا قبل ارسال نسخة الى دار النشر، وتلقى كاسترو نسخة، فألغى اعماله لذلك اليوم وقرأها من البداية حتى النهاية واخبر شقيقه راؤول”لقد فعلها صديقنا وحقق الضربة القاضية التي كان يتمناها"، ثم سحب السيجار من بين شفتيه وطلب ان يتم الاتصال بماركيز، يريد ان يقول له”لقد انجزت عملا مدهشا".
************
الآن شعر ان باستطاعته ان يأخذ اجازة طويلة فهو استطاع اخيرا ان يرحل من عالم ماكدونو السحري ليبدا بالبحث عن عمل يوفر له بعض المال، ويتذكر انه كتب مئات الصفحات ودخن ثلاثين الف سيجارة وانه كان مدينا بمئة وعشرين الف بيزوس وانه يشعر بعدم الامان..بعد اسبوعين من الانتهاء من الرواية يرافق زوجته الى دائرة البريد لارسال المخطوطة النهائية الى الناشر في بوينس ايرس، كان الاثنان اشبه بشحاذين يحملان رزمة تحتوي على اربعمئة وتسعين صفحة. وعندما قال لهما موظف البريد ان ثمن الطرد اثنان وثمانون بيزوس نظر ماركيز الى زوجته وهي تفتش في حافظة نقودها، لم يكن لديها سوى خمسين بيزوس فاخبرهما الموظف ان بامكانهما ارسال نصف الطرد وطلب ماركيز من موظف البريد ان يقتطع النصف ويرسله. وما ان وصلا الى البيت حتى اكتشفا ان موظف البريد ارسل النصف الثاني من الرواية، فلم يكن امامهما الا الذهاب الى اقرب الاصدقاء لاستدانة باقي المبلغ ليرسل النصف الاول، وما ان خرجا من مبنى البريد حتى توقفت زوجته وهي تنظر اليه بأسى لتقول :”والان ياعزيزي كل ما نحتاج اليه هو ان يفشل الكتاب”.
************
في الثلاثين من ايار عام 1967 صدرت”مئة عام من العزلة”بسعر دولارين، كانت الفكرة المبدئية تتمثل باصدار ثلاثة الاف نسخة، غير ان حماسة فونتيس ويوسا للرواية جعل الناشر يقرر ان يجازف ويطبع خمسة الاف نسخة، وتوقعوا ان تباع الرواية في غصون عام واحد وبعد اسبوع بيعت الخمسة الاف الاولى، ويجد ماركيز نفسه على قائمة الكتاب الاكثر مبيعا في اميركا اللاتينية. لم يكتف الناشر بالطبعة الاولى فاصدر الثانية والثالثة والرابعة بعد شهر واحد، ثم قرر ان يصدر طبعة شعبية وهذه المرة ستكون المجازفة بمليون نسخة ستطرح مرة واحدة، وتصدر الرواية في اسبانيا والارجنتين وكوبا في وقت واحد، وتتاح الفرصة للعجوز بورخيس ان يقراها فيكتب رساله حماسية الى ماركيز يخبره انه احب الكتاب حبا جنونيا حاله حال حبه لبروست وانه من الان فصاعدا سيؤمن ان تثربانتس جديد يعيش بيننا.
العام 1982 كان مليار انسان في معظم ارجاء العالم قد قرأ مائة عام من العزلة، وفي الوقت الذي كان موسم جائزة نوبل كان ماركيز قد اصدر روايتين بعد ذلك هما”خريف البطريك”و"ساعة نحس"، وكما حدث في السنوات السابقة فإن اسم ماركيز طرح من جديد، ولكن هذه المرة هناك اصرار على منحه نوبل،، في يوم السابع عشر من تشرين الاول عام 1982 كانت الصحف الكولمبية تتحدث عن رواية ماركيز الجديدة التي ستكون عن الحب، وفيما كان ماركيز ومارثيدس جالسين الى مائدة الغداء اتصل بهما فونتيس ليقول ان كل الدلائل تشير الى ان الجائزة في حكم المنتهية لماركيز، لم ينبسا بكلمة واحدة نظر كل منهما الى الاخر وقررا ان يقضيا السهرة خارج البيت، وبعد ان عادا فجرا لم يستطيعا النوم، وعند السادسة صباحا اتصل نائب وزير خارجية السويد بمنزل ماركيز يخبره بحصوله على نوبل، وعندما وضع ماركيز سماعة الهاتف التفت الى ميرثيدس وقال لقد اضحينا في ورطة، ولم تمر دقائق حتى كان كاسترو على الهاتف وقال انه سمع الخبر للتو من فرانسوا ميتران الذي سمعه بدوره من رئيس وزراء السويد، دقائق ويتصل الرئيس الكولومبي، ثم يعاود كاسترو الاتصال قائلا : اخيرا تحقق العدل، يؤسفني انني لا استطيع الحضور لتهنئتك بنفسي، ان الاحتفالات تعم كوبا منذ اذاعة الخبر، ثم كان ميتران على الهاتف بعده المعلم بورخيس والرئيس المكسيكي. وعلى مدى اسبوع ادعت كولومبيا وكوبا والمكسيك ان ماركيز هو مواطنها واديبها.
بعد سنوات يكتب كارلوس فوينتيس: لدي شعور أن الكتّاب في أمريكا اللاتينية لا يمكنهم استخدام كلمة «عزلة”مرة أخرى؛ لأنهم يشعرون بالقلق من أن الناس سوف يعتقدون أنها إشارة الى الساحر ماركيز.