في وداع ناهدة الرمّاح.. غربتك بالمنفى.. كانت أكبر من عمر رماد النجوم

Wednesday 26th of April 2017 06:47:27 PM ,

عراقيون ,

صلاح القصب
مسيرتك كانت إشعاعاً وشروقاً لمشهد فرح أبدي، أنوار تضيء في نغمة صافية، ضوء المسرح الذي عشقك كعشق الغيوم للمطر، مصابيح المسرح، كانت تحيط بك، وأعمالك كانت أناشيد تتشوّق لسماعها.
الرجل الذي صار كلباً، الضمير المتكلم، المفتاح، النخلة والجيران، فكنت فينوس الروح الصافية. رحيلك أمطرنا بدموع الألم السخية،

وعربتك الذهبية التي يسجّى فوقها تاريخ يعلو مثل البروق من قبة السماء. ناهدة، أن الذاكرة تسقط مغشيّاً عليها، عندما ترى صورتك ماثلة أمامنا، لم تذبل ولم تتلاشى، طيفك مرّ، حملته الريح التي تحمل اعمالك المسرحية، والتي عادت إليّ الذاكرة ومضات استنفذت كل طاقتي، ناهدة، ماذا أقول لك يا جوهرة شمس كل العصور، التي عبرت ظلالها كل مسارات الزمن.
في لحظات ذلك المكان – فرقة المسرح الحديث – كانت هناك لحظات ذهول ودهشة رسمها يوسف العاني، إبراهيم جلال، سامي عبد الحميد، قاسم محمد، عبد الواحد طه، خليل شوقي، زينب، روميو يوسف، يوسف سلمان، فاضل خليل، عقيل مهدي، جواد الأسدي، صلاح القصب، ولحظات آخرى مرّت، وعندما نستذكرها، تملأ روحنا بالدفء مثلما منحنا مسرح بغداد أجنحة الحب وسلاماً أبدياً.
شاهدناك في مسرحية المفتاح والنخلة والجيران والشريعة، كنت كأغانٍ مبتسمة، أداؤك كان كفضاءات سقطت عليها أشعة الشمس.
أيّ جمال كان يحرّك روحك؟
التي تدفعنا إلى ارتعاشات جمال جارفة، أداؤك كان شعلة حب، اشغلت كل مصابيح مسرح بغداد، صفق لك الجمهور، حاملين لك الورود البيض، منحتيهم طيراناً من المتعة التي لا تتوقف.
ناهدة أيتها الزهرة الكبيرة، يا ذهب الوردة المزهرة ابداً. عرشك كان قاعة مسرح بغداد، وهويتك كانت فرقة المسرح الحديث، ومعلمك كان الشعب.
سامي عبد الحميد، كان يراقبك، وانت تؤدّين دور أميرة في مسرحية، المفتاح شهق، لأدائك. أداؤك كان أضواء مصابيح متداخلة، شكّلت هالة جمال، جعلته يصفّق لك، لأنك كنت كل الأشياء التي تبحث عن رؤى كمخرج.
رحيلك يا أبنة النهر السخي، كان وجعاً لعيون بكتك، وصوتك في النخلة والجيران، مع صوت زينب وزكية الزيدي، يسمو ويرتفع كضياء يجري في النهر، كيف نودعك بقصائد، بشموع، بزهور، فجأة انقطع الضوء، ولكن العيون مازالت تلتقط طيفك كربيع مزهر. رحلتها مع الألم كانت طويلة، أتعبها المنفى ومطارات العالم ومحطات القطارات والمقاهي، التي لا نشم منها غير رائحة القهوة، ودخان السكائر، المنفى ووجدانية الغربة ووحشتها، كانت ممرات لزمن طويل، وفي رحلتها كانت تحمل معها اغاني حسين نعمة وكوكب حمزة وسعدون جابر ويوسف عمر وزهور حسين، أحبّت بغداد كحب الغيوم للمطر، الدهانة، العوينة الحيدرخانه، شارع الرشيد، مطعم تاجران، مقهى حسن عجمي، قصائد مظفر النواب، اجواء غائب طعمة فرمان، فؤاد التكرلي، عبد الستار ناصر، كلها كانت أنغاماً لذكريات عذبة ملئت بها حقائب سفرها.
في منفاها كانت تردد اغنية لميعة توفيق
يا الماشية بليل الهلج
حولي عدنه الليلة
ابعيد الدرب شيوصلج
إهواية المسافة أطويله
كان الليل طويلاً والمسافات بعيدة وموحشة، عبرتها وكانت تنتظر الشمس، ترى حتى يظهر الشقق ويشتعل الفجر، التفتت الى تضاريس الذكريات، وهناك أبعد من مرمى النظر، سحبت ستارة المسرح كي ترى امواج الشوق لبغداد، رأت روحها تطفو فوق نواقيس نحاسية وسفوح دجلة تلوح لها بالبقاء كي تنهي رحلة الغربة التي عبرتها بلا رفيق. رحلتها عبرت بين النيران والأسوار العالية، عبرت كل تلك المسافات، حملت روحها العظيمة صورة مسرح بغداد وهوية فرقة المسرح الحديث واليوميات صور وذكريات شارع الرشيد ونهارات دجلة الخالدة.
ناهدة يا جوهرة كل العصور، يا ابنة الماء، كيف سأجمع أوراقي المتناثرة بعد رحيلك، رأيتك في حلمي أمس، تسيرين فوق الماء نحو نهايات المنحدر. ثم اختفى الحلم فجأة، حلمي كان فيضاً من الدموع كنت شعاعاً من الأمل لا ينحني لهبوب الريح، ارادت للأمل أن يعلو مرة ثانية، بعد العصف ليرتفع بقوة، أرادت أن تدخلنا الى حقول خضراء لضياء شامل مزهر. مسيرتها الفنية ملئت رحاب العالم مصابيح متوهجة تلمع كوهج البروق، أرادت أن تمنح الإنسان ضفافاً آمنة، يحتمي بداخلها من الخوف والدمار. كانت تحدّق في تلك المناطق التي تحتضن الشمس في منفاك ووحشة الوحدة، الثلوج لا تكف عن نقر ذكرياتك وغربتك.
كانت ابراج نحاسية، تدقّ، وبكل اللحظات، ورحلتك في المنفى، كانت تترك غباراً على منضدة المطارات والموانئ أوراقاً وذكريات والبومات صور، تحمل كل تلك المسافات الشاسعة، وكانت ازهار الشتاء، تقدم لك أجمل الأغاني، غريبة الروح لحسين نعمة، وعند الفجر، تستيقظ روحك فوق المسافات وبعدها تذوب في حلم بغداد ومسارحها، واغنية يا طيور الطايرة، ولمعان مصابيح تطير تبحث عن تلك الليالي، تبحث عن الشوارع والجدران والنوافذ، وعربات البريد راكدة في أحلامك التي تشعّ من خلال الضباب ظلالاً.
القطارات والموانئ والمقاهي المزدحمة بوجوه الغرباء، بكت في تلك الليالي الباردة، بكت معك، ودموعها كانت كضوء المطر، غربتك بالمنفى يا ناهدة.. كانت اكبر من عمر رماد النجوم ناراً تمسُّ النار وباستمرار.
عند رحيلك.. شعرت يا ناهدة، بالزمن بارداً يجري في عروقي، ويسير خارج الحلم ويزحف نحو حدود العزلة، وبكائي لم يتوقف طوال الليل. بكتك الغيوم والمطر والسحب والأشجار، وقاعة مسرح بغداد، الا أن ضوءك بقي مشعّاً خلف زجاج نوافذ المسرح مثل تواريخ الأعياد.