في ذكرى الموسيقار الراحل سلمان شكر.. حكاية اشجان عراقية لا تموت

Wednesday 12th of April 2017 09:23:26 PM ,

عراقيون ,

.د. سيّار الجَميل
سلمان شكر عراقي فنان اصيل ووصلت مكانته الي الدرجة العالمية، مترجما صفحات من الموسيقي الشرقية.. كان عازفا ماهرا علي آلة العود وله بعض الكتابات التي نشرها هنا او هناك. ولد ببغداد عام 1921، واسمه الكامل سلمان بن شكر بن داود بن حيدر محمد علي، وهو من اصول فويلية التي ازجت للعراق عدة مثقفين وعلماء وادباء كبار في قلب العراق.

كان سلمان شكر احد اعمدة الموسيقى العراقية عازفا واستاذا للموسيقي الشرقية، وله عدة تآليف وكتابات. لقد ولد ببغداد عام 1921 ونشأ فيها وقد اغرم منذ صبوته بالموسيقي التي لم تجد هوي لدي اهله.. وعليه فقد آثر العزلة والعزف بصمت علي العود.. وما ان شّب حتي انخرط في المعهد الموسيقي عازفا علي آلة الكلارنيت ضمن الجوق الموسيقي الذي اسسه الموسيقار حنا بطرس.

تكوين سلمان شكر وتأثير الموسيقار الشريف محي الدين حيدر
دخل سلمان المعهد في اول دورة عام 1936، فدرس آلة العود والموسيقي الشرقية علي يد الموسيقار الرائد الكبير الشريف محي الدين حيدر بن علي، وتخرّج عام 1944 بعد ان كان قد ترك الدراسة مدة ثلاثة اعوام لاسباب عائلية صعبة.. وما ان تخرّج حتي عمل عازفا، ومن ثّم عيّن عام 1947 استاذا لالة العود في المعهد نفسه، وبقي في منصبه لاكثر من ثلاثين عاما.. فكان ان تخرّج علي يديه نخبة من المبدعين الموسيقيين العراقيين والعرب. شغل سلمان شكر بعد ذلك منصب مستشار فني في وزارة الثقافة والاعلام سنوات عدة، فضلا عن توليه رئاسة اللجنة الوطنية للموسيقي سنوات عدة.. سافر الي عدة بلدان ممثلا العراقي في مؤتمرات ومهرجانات كثيرة سواء في الصين ام ايران ومصر وانكلترا والمانيا والولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفييت سابقا.. اذ عزف في اكثر من مكان معزوفاته الشهيرة فضلا عن تسجيلاته المتنوعة في دار الاذاعة والتلفزيون العراقية. ينتمي سلمان شكر الي مدرسة استاذه العملاق الشريف محي الدين حيدر الذي كان يبره كثيرا، اذ بقي سلمان وفيا للانماط التي تعلمها، ولكن اضفي عليها اسلوبه الذي كان متشبعا بالفضاءات التركية وخصوصا من الناحية التعبيرية ويجمع العديد من الدارسين ان سلمانا هو آخر العنقود ممن يمّثل هذا النمط الترتيلي الهادئ الذي يتصف بمناجاته الروحية.. ولا ينفي سلمان شكر ذلك عندما وصف نفسه بالمريد في مشيخة استاذه الشريف محي الدين.. لقد جسّد سلمان شكر اصوليات الموسيقي العربية الكلاسيكية التي تأخذك نحو الافاق البعيدة الي جانب ذلك النسق المتوارث من رحاب الموسيقي العثمانية التي تأخذك نحو اعماق السماء وخصوصا في عزف بشارف وسماعيات التي كلها مناجاة رخيمة!

الرقي والتسامي في العزلة والتفرد
كان سلمان شكر راقيا في فنه لم يهنه ولم يدنيه الي مستويات عادية او هابطة، ولكن هذا ليس برهانا علي كونه لم يصاحب فرقة موسيقية تقف وراء مغن، ولم يعزف للاخرين بستاتهم واغانيهم الشعبية، اذ لم يكن مترفعا عن اداء شعبي، ولكنه يجد هناك من يكون مؤهلا لذلك بدلا عنه! خصوصا وانه يعد نفسه صاحب محتوي ارقي بكثير من الشعبي المتداول ليس في كابريهات بغداد، بل حتي في دار الاذاعة.. وهو بذلك علي عكس الموسيقار جميل بشير الذي كان يعمل ليل نهار برفقة الفرق الموسيقية واغلب المطربين والمطربات يعلمهم جميعا ويفتح امامهم الطريق. كان سلمان شكر يجد نفسه وريثا حقيقيا للموسيقار الشريف محي الدين بكل ما تركه الاخير من موروث فلسفي له الوانه وعناصره.. فضلا عن ان الاخير كان يري في العود آلة صاحب منزلة كبري تستطيع لوحدها ان تعبر عن كل الالوان والعناصر، فليس من اللياقة ان يصاحب العود غيره في فرقة غناء شعبي.. ان العود له شخصيته الانفرادية التي تعبر عن ذاتها بكل قوة.. ومن ينسجم معها، فهي تساعده في التعبير عن اسمي الاشياء واروع الصور واجمل اللوحات.. ناهيكم عن كونها آلة لها القدرة ان تخرج ما في النفس من المشاعر والانفعالات.. انها آلة باستطاعتها ان تتكلم لوحدها، بل وتغني بمفردها،، واذا شاركتها آلات موسيقية أخري، فهي القادرة علي ان تسيطر سيطرة كاملة علي الجميع!

براعته في التراث الموسيقي العربي
انني لم اعرف الرجل ولم التق به ابدا، ولكنني كنت قد سمعت اكثر اعماله الموسيقية والتي درسها وحللها العديد من الكّتاب والنقاد الموسيقيين.. لقد كان الرجل مولعا بالعزلة التي كان عليها منذ ايام طفولته.. وكان عالما وخبيرا بعلوم الموسيقي وتواريخها والحركات الموسيقية التي تطورت من خلالها الموسيقي العربية الكلاسيكية.. كان خبيرا بالتراث الموسيقي العربي وقد جعله في مصاف الاستذة بالنسبة لغيره من تراثات موسيقية في العالم كله.. لقد اشترك مع المستشرق البريطاني جون هيوود الذي كان من اكبر خبراء تراثنا الموسيقي في الكشف عن حركات ونغمات موسيقية قديمة تعود الي القرنين الرابع عشر والخامس عشر.. وقد اشترك الاثنان في بناء سيمفوني علي العود قدمه سلمان شكر في لندن.. وقد عملا علي مخطوطات عدة في جامعة درم البريطانية، ومنها كتاب (الادوار) لصفي الدين الارموي البغدادي (ت 1294م) ومقطوعات الموسيقار عبد القادر المراغي (ت 1435م)، فضلا عن ان سلمان شكر قام بترجمة أولية للجزء المتعلق بالموسيقي من مخطوطة (درة التاج في غرة الديباج). كما قدم قراءة جديدة لمدونة (يا مليكا به يطيب زماني)..

الفراشات الراقصة : القصبجي في مصر وسلمان شكر في العراق
صحيح ان الموسيقار الراحل لم يؤلف موسيقى عادية، كما انه مقل في اعماله الموسيقية.. وتبقي اعماله الموسيقية لها روعتها، ومنها : خماسيتهِ (حورية الجبل) التي تثير السماع بشكل توحي بقالب الروندو المقطّع الي عدة اجزاء ومربوطة من الموسيقي الغربية.. اما مقطوعة (مهرجان في بغداد)، فقد تبلور علي صيغة المتتالية (السويت) كالفراشات الراقصة. ان اسلوب السويت الذي اتبعه سلمان شكر قد ابدع فيه مع مزيج شخصي منه.. ولأول مرة اجد مزجا حقيقيا في اداة شرقية كالعود بين اسلوب غربي وروحية شرقية.. وعندما استمع لنغمات سلمان شكر في العراق اتذكر الحان محمد الفصبجي في مصر.. لقد كان الاثنان اجود من عبر عن مزج حقيقي ومبدع بين اللحن الشرقي باسلوب غربي وبميكانزم عالي المستوي. واذا كانت المسحة اوبرالية عند القصبجي، فان المسحة صوفية لدي سلمان شكر.. واذا كان لحن القصبجي يطرب النفس ويدغدغ العواطف، فان ضربات سلمان شكر مرهفة تخاطب العقل والوجدان معا.. ان ميكانزم سلمان شكر قوي جدا باستخدام الزحف عند العفق علي مساحة ضيقة للصوت الموسيقي المنتج.. وما يميزه ايضا انه يجيد الضرب علي اوتار عدة في آن واحد.. انه متأثر جدا بالموسيقار القديم ابراهيم الموصلي، اذ اخذ عنه العزف علي كافة الاوتار المطلقة مرة واحدة، وهذا الاسلوب لم يتمتع به احد ابدا من كبار العازفين علي العود ابدا. ان الهرموني الذي يشكله سلمان شكر قد استوحاه من ابراهيم الموصلي عندما كان الاخير يمخر الاوتار مخرا، فيركب في اللحظة ذاتها مركبات صوتية Chords مما يجعلها تصدر بتجانس هارموني Harmony

اشهر مؤلفاته الموسيقية
ان من مؤلفات سلمان شكر الموسيقية المتصفة ببعدها التعبيري المؤثر : الغجرية 1944. وادي الموت 1949.من وحيها 1952. إضافة إلي القطعتين المار ذكِرهم أعلاه (حورية الجبل. ومهرجان في بغداد) كذلك مؤلفاته الُمصاغة علي القالبين التراثيين السماعي والبشرف مثال ذلك (سماعي ماهور 1949. سماعي رست 1972. وبشرف شد عربان 1974. سماعي نهاوند 1958).
مضي ولم يعد
لقد رحل الموسيقار العراقي القدير سلمان شكر، ورحلت معه مدرسة الموسيقار المؤسس الشريف محي الدين حيدر.. رحل هذا المثقف الرائع الذي تعب علي نفسه تكوينا واختصاصا.. انتاجا وابداعا.. رحل مع رحيل ابناء جيله اللامع بعد ان ادي الامانة الي اهلة وبلده باخلاص منقطع النظير.. رحل مع الراحلين في زمن صعب جدا يمر علي كل العراقيين.. رحل وفي قلبه غصة وحسرة علي ماض عراقي حضاري تليد عاشه في القرن العشرين.. رحل سلمان شكر ولم يبق من بعده الا عوده وريشته ستحكي قصة للاولين والآخرين..

عن موقع الدكتور سيار الجميل